أولاً ـ مفهوم النظام العام L’ordre public:
إن النظام العام هو مجموعة قواعد ضرورية للحياة الاجتماعية، وإن المتتبع للموضوعات التي عُنيت بهذه الناحية من الدّرس ككتاب "الأحكام السلطانية للماوردي" يقع على تجربات تقنية، ومحاولات تنظيمية في التاريخين العربي والإسلامي، وهذه المحاولات والتجربات ألهمت ذوي العقليات القضائية العميقة أن يقدّموا دستور النظام العام بكل ما يلزم فيه. وتعد فكرة النظام العام الوضعية مقابلة لما يدعى في الفقه الإسلامي بـ: «حق الله أو حق الشرع»، الذي لا يقل في مداه عن الفكرة الوضعية.
فمفهوم النظام العام أو فكرته يرجعان إلى نظرية الدولة، وهي ترجع بدورها إلى ثلاث نظريات: فهناك النظرية الفردية التي ترمي إلى قصر عمل الحكومة على رد الاعتداء الخارجي عن الأفراد، وداخلياً المحافظة على الأمن العام، ولعل أبرز دعاة هذه النظرية في أواخر القرن الثامن عشر هو سبنسر. وهناك النظرية الاشتراكية التي تهدف إلى تدخل الحكومة في جميع الأعمال توصلاً إلى هناء الفرد ورفاهيته، وثمة نظرية ثالثة متوسطة بينهما، ليست بالفردية البحتة ولا الاشتراكية وإنما هي مزيج بينهما. ومن الصعوبة تحديد مفهوم النظام العام لأنه مفهوم متطور ونسبي، يتغير بتبدل المكان والزمان، تبعاً لاختلاف الأفكار السائدة في المجتمع، كما أنه يتأثر بالظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يتعايش معها. فمفهوم النظام العام يكتنفه الكثير من الغموض والإبهام، لدرجة أنه استعصى على الفقه القانوني أن يجد له تعريفاً جامعاً مانعاً، وغموض غائية النظام العام والطابع الظرفي له يأتيان من تعدد المقتضيات التي يواجهها.
ومن الصعب حصر تلك المقتضيات داخل صيغة محددة، وقد عبّر بعض الفقهاء عن ذلك بقولهم: إن النظام العام يستمد عظمته من الغموض الذي يحيط به، فمن مظاهر سموه أنه ظل متعالياً على كل الجهود التي بذلها الفقهاء لتعريفه وضبطه في تعبير محدد، ويمكن تشبيهه ببرج المراقبة الذي يرصد من علو كل تحرك يمكن عدّه مجانباً للجو العام الذي ترسخ وتراكم في المجتمع. ويمكن من أجل تقريب مفهوم النظام العام إلى الأذهان القول إنه مجموعة الأسس، أو المصالح الجوهرية التي يقوم عليها كيان الجماعة سواء أكانت هذه المصالح سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية أم خُلقية، وبتعبير مجازي قيل إنه صمام أمان. إلاَّ أنه تجب الإشارة إلى أن النظام العام التقليدي ذو أثر سلبي لا يمكن الاتكاء على مفهومه إلا في الحالات التي يمكن فيها إرغام القاضي على اتخاذ موقف معبر عنه بقرار في الدعوى، كردها كلياً أو جزئياً، سواء لسبب موضوعي قام في عقد يخالفه، أم لسبب إجرائي شكلي كعدم اختصاص المحكمة. فالاجتهاد لا يجيز للقاضي أن يكرس في حكمه وضعاً منافياً للنظام العام بحجة أن أحد الخصوم لم يقم بالدفاع اللازم عن مصلحته ضمن النظام العام. وإلى جانب الغموض هناك خصيصة المرونة التي تحتم على النظام العام في كل مرة أن يستقيم أو يتناسق مع حاجات البعض، وتتجسد المرونة في عدم ثبوت فكرة النظام العام على حال، مع تغير عناصرها وقواعدها موضوعياً من حال ٍإلى حال، ومن مكان وزمان إلى مكان وزمان آخرين، وخصيصة المرونة هذه تتيح حصول التوافق اللازم للنظام العام القانوني السائد مع الواقع القائم، ولولا هذه المرونة لانفصلت فكرة النظام العام عن الواقع انفصالاً يفضي بدوره إلى سقوط المنظومة القانونية بأكملها. فالنظام العام يترك الباب دائماً مفتوحاً أمام التطورات المستقبلية.
إن بعض الفقه القانوني وسع من مفهوم النظام العام، وعدد صوره وغاياته، وعده تنظيماً يتسع ليشمل جميع أبعاد النشاط الاجتماعي، فعوامل السعة في مفهوم النظام العام تكتنف القانون العام والخاص، فعلى سبيل المثال في القانون الدستوري، يعدّ باطلاً كل عقد يرمي إلى التأثير في حرية الناخب، وفي القانون الإداري يكون العقد الذي يحمل الموظف على الاستقالة، أو استغلال الوظيفة باطلاً، وفي التشريعات المالية يقع باطلاً كل اتفاق يستهدف الإعفاء من الضريبة، وفي القانون الجزائي أيضاً يقع باطلاً الاتفاق على ارتكاب فعل مجرَّم، وفي الأحوال الشخصية يكون كل اتفاق لتحديد الأهلية أو تعديلها أو المساس بالنسب مصيره البطلان. أما في مجال القانون الدولي العام فتشكل فكرة النظام العام مزيجاً من الفلسفة والاجتماع والسياسة، ويمكن أن تستمد مصدرها من أصل أخلاقي يشير إلى وجود قاعدة دولية كالتي تحظر الإساءة للأديان مثلاً، وإن القانون الأجنبي الذي يقبل بتوريث ابن الزنى، أو بمساواته بالولد الشرعي يعارض النظام العام في جميع الدول العربية لمخالفته لأحكام الشريعتين الإسلامية والمسيحية، في حين يذهب بعض الفقه القانوني الدولي إلى أن بعض الفقهاء يشكك بوجود قواعد للنظام العام في العلاقات الدولية، باعتبار أن أياً من القواعد التي يمكن تصنيفها ضمن إطار النظام العام الدولي لم تحصل على اعتراف عالمي كامل، وإن ظهور قواعد آمرة تشكل في مجموعها ما يمكن تسميته بالنظام العام في العلاقات الدولية حديث نسبياً، وهو يعود إلى التطور السريع للقانون الدولي الحديث. وفي مجال القانون الدولي الخاص يعد مفهوم النظام العام دفعاً استبعادياً للقانون الأجنبي الواجب التطبيق وفق قاعدة الإسناد الوطنية عند مخالفة القانون الدولي الخاص قواعد النظام العام (الداخلي) في دولة القاضي. وهنا أيضاً وفي سياق آخر يتسع مفهوم النظام العام ليشمل ما يسمى بالنظام العام المهني، وغايته حماية بعض الأشخاص ممن يمارسون المهن، فالعقد الذي يجريه طبيب مثلاً مع صيدلاني من أجل تحويل أحدهما أو كل منهما للآخر زبائنه هو عقد باطل.
ثانيا ًـ تعريف النظام العام:
لا يمكن بصورة عامة وضع تعريف جامع مانع لمفهوم النظام العام؛ لأنه غالباً ما يسحب التعريف عن المفهوم المراد تعريفه معنى العموم والشمول ليضعه في قالب محدود وضيق، فقد حاول الفقهاء وضع تعريف للنظام العام بغية ضبطه وتحديده، ولكنهم لم يصلوا إلى صيغة مقبولة لتعريفه من جميع الوجوه، فظل تعريفه قاصراًعلى صيغ تصويرية. فعدّ بعض الفقه الخوض في ذلك أشبه بالمغامرة في رمال متحركة، أو في ممر تحيط به الأشواك (Alglave)، في حين عدّه الفقيه الفرنسي Carbonier الصخرة التي يؤسس ويبني عليها المجتمع، وذهب سوميير في هذا الصدد إلى أن محاولة تعريف النظام العام تعد إعناتاً ذهنياً كبيراً. فالنظام العام بحسب الفقه الفرنسي فأرٌ لا يدع نفسه سجيناً في تعريف محدد، وانتهى الأمر إلى التسليم بصعوبة وضع تعريف له، أو باستحالته تقريباً، لأنه مرن، ونسبي، وغير قابل للتحديد، إلاَّ أنه لا يمكن الالتفات أو العزوف عن التعريف بحجة عدم ضبطه، ولا يمنع ذلك من وضعه في إطار قانوني محدد وواضح يحكم أبعاده، وعليه يمكن تعريف النظام العام بأنه: "مجموعة القواعد القانونية التي تتمتع باستعلاء على باقي القواعد، والتي ترمي إلى تحقيق المصلحة العامة للبلاد، سواء من الناحية السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية التي يقوم عليها كيان الدولة، كما ترسمه القوانين النافذة فيها والتي تتعلق بالوضع الطبيعي المادي والمعنوي لمجتمع منظم، تقوم فكرته على أساس مدني بحت، يطبق مذهباًعاماً تدين به الجماعة بأسرها". ولا يجب ربطه البتة بأحد أحكام الشرائع الدينية، لكن من غير أن ينفي ذلك قيامه أحياناً على سندٍ ما يمت إلى عقيدة دينية بما لا يناقض بقية المعتقدات التي يضمها المجتمع المدني، والأصل في ذلك عدم تبعيض النظام العام في جعل بعض قواعده مقصورة على فئة اجتماعية دون أخرى، فلا يتصور أن يكون معيار النظام العام شخصياً، وإنما يتسم تقديره بالموضوعية حين يكون متفقاً وما تدين به الجماعة في الأغلب من أفرادها، فالنظام العام يشكل مظلة يتعين على التصرفات القانونية التي تتوجه الإرادات الفردية إليها كافة أن تستظل بشرعيتها، إذ يصبح البطلان والعقاب جزاؤه الخروج على شرعة هذه المظلة. فهو ينظم إذن حركة الإرادات الفردية داخل المجتمع، ويحول دون تعارضها أو تصادمها.
ثالثاً ـ أنواع النظام العام:
يعد النظام العام تعبيراً عن روح النظام القانوني للمجتمع عامة، وهذه الروح تشكل قاعدة للبنيان المجتمعي المراد تنظيمه، فلا يقتصر مداه على ناحية معينة من نشاط المجتمع، بل يشمل كل مظاهر النشاط وميادينه، ويتوغل في مساماته، فيتخذ أنواعاً، وبعبارة أدق مظاهر متعددة. ومن هذه المظاهر أو الأنواع:
1ـ النظام العام النصي: ويتجسد بالنصوص القانونية الإلزامية، وهذا النوع محدد بشكل صريح وواضح ومقنن عبر نصوص آمرة وملزمة بصيغة المنع، وهي تحدد ماهيته ومضمونه وترتب البطلان بوصفه جزاء ومؤيداً على مخالفتها؛ وبالتالي لا تثور في هذا الصدد أي صعوبات في تحديد الحالات المخالفة للنظام العام، ففي بعض المسائل يحدد القانون أن طابعه من النظام العام، كما في النصوص المتعلقة بحماية المستهلك مثلاً، وأحياناً طبيعة النصوص هي التي تفرضه حتى لو لم يذكر فيها صراحة، كما في عقد الإغواء، لأنه يعد جرماً جزائياً، وكذا في السبب غير المشروع عندما يكون مناقضاً للنظام العام، ولو كان من غير الضروري أن يحظره القانون.
2ـ النظام العام المضمر (الاجتهادي): وهو حالة مفترضة كرّسها الفقه القانوني والاجتهاد القضائي، يضاف إليهما الأحكام غير المكتوبة في الأنظمة القانونية التي تأخذ وتتوسع بسلطان العرف (كالقانون الإنكليزي)، ويمكن تلّمس حالات هذا النوع من النظام العام واستنباطها في روح التشريع، وفي المبادئ العامة، ويعد الاجتهاد القضائي حامياً للنظام العام ومفسراً له، فبإمكانه أن يعلن أن اتفاقية ما أو بنداً ورد فيها هو غير قانوني إذا ظهر أنه يخالف النظام العام. ويعدّ النظام العام المضمر نسبياً من جهة، نظراً لاختلاف الرؤى الاجتماعية من مجتمع إلى آخر، وواسعاً من ناحية أخرى في التشريعات التي تعطي الأعراف دوراً أساسياً في تقنيناتها، فبإمكان القانون الذي يحيل إلى الأعراف أن يعطيها استثنائياً القيمة الآمرة، وتثور الصعوبات في الحالات التي يسكت فيها المشرع عن مخالفة النظام العام، ففي مثل هذه الحالات يُترك الأمر إلى القاضي ليحدد في كل حالة مدى تعلق الأمر بالنظام العام، واضعاً نصب عينيه نوع المصلحة التي يرمي المشرع إلى حمايتها، فالفيصل أو الضابط في تحديد مفهوم النظام العام المضمر هو المصلحة العامة، ويتسع النظام العام في هذا النوع ليشمل أموراً قد تعد من الكماليات في المجال العام، بغية المحافظة على الشكل الجمالي العام والرونق، فقد أُلزم مالك أرض عرصة بتسويرها، محافظة على الرونق والشكل الجمالي، ولمنع الأتربة المتراكمة بها من أن تثيرها الرياح فتزيد نسبة التلوث مما يضر المصلحة العامة، ويقع على القاضي في هذا النوع من النظام العام عبء تحديد النص من خلال استقراء معناه بعمل ذهني تحليلي يقوم به.
3ـ النظام العام السياسي: وهو ما يعرف بالنظام العام التقليدي أو (المطلق)، ويرمي إلى حماية أركان المجتمع، وهي: الدولة، والأسرة، والحريات الفردية من انتهاكات الأفراد في تصرفاتهم. وغالباً ما يؤيد هذا النوع من النظام العام بنصوص جزائية رادعة.
4ـ النظام العام الاقتصادي: إن تدخل الدولة في السياسة الاقتصادية لكل القطاعات الاقتصادية، وتنظيم المنافسة، والتعامل بالعملات مثلاً لم يترك النشاط الاقتصادي للأفراد على إطلاقه، فقد يتعرض الاقتصاد، وبالتالي المجتمع لهزات ومخاطر يصحبها آثار اجتماعية، كل ذلك حدا الدولة على التدخل في هذا الشأن، فشمل هذا التدخل القانون العام والخاص؛ لأن النظام العام الاقتصادي يفرض قيوداً معينة على الحرية التعاقدية، ويستبعد من العقود الخاصة ما يعارض التوجه العام الاقتصادي، كما في الاتفاقات التي تنطوي على غبن، ومنع الاحتكار في التكتلات الاقتصادية كحال المجتمعات الصناعية الحديثة، وفي سياسة الاستيراد والتصدير. ويحظرالشروط التعاقدية المخالفة له، وكذا الاتفاقات التي صيغت على نحو غير قانوني، إذ يعدها باطلة. ويأخذ النظام العام الاقتصادي طابعين أو مظهرين من مظاهر التدخل؛ طابع توجيهي، وطابع حمائي.
أ ـ النظام العام الحمائي: يهدف هذا النوع من النظام العام إلى حماية فئة معينة من فئات المجتمع لاعتبارات إنسانية اجتماعية، وكذا حماية أي مصلحة خاصة من خلال إسباغ الحماية القانونية عليها التي تكون قياساً على غيرها من الفئات الاجتماعية في وضع اقتصادي ضعيف. كالعامل في عقد العمل، والمزارع في عقد المزارعة، والمستأجر في ظروف خاصة تستدعي حمايته، وكذا المستهلك، والمدين في صدد الفوائد المركبة، ويأخذ شكل الحماية أو مؤيدها طريق تقرير البطلان النسبي (ويقابله قابلية الإبطال).
ب ـ النظام العام التوجيهي (الوقائي): يعزى ظهور هذا النوع من النظام العام إلى اتجاهات السياسة التدخلية للدولة التي زادت زيادة ملموسة بتأثير الاتجاهات الفلسفية الاشتراكية، فضلاً عن الأزمة الاقتصادية التي أصابت العالم في نهائيات العقد الثالث من القرن العشرين، إذ مضت الدول في إصدار عدد من قوانين التوجيه الاقتصادي والاجتماعي بغية التصدي للانفلات الحاصل في توجهات الإرادة، استهدافاً منها وسعياً إلى تحقيق المصالح العامة الحيوية الضرورية (اقتصادية ـ اجتماعية) كقوانين النقد والائتمان والجمارك والبنوك… مما حدا المشرع أن يفرض حماية خاصة لهذه القوانين، فكان أن أسبغ عليها طابعاً آمراً. فالنظام العام التوجيهي يتصدى لحماية المصالح العامة الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية في المجتمع، ويرمي إلى دفع الاقتصاد الوطني في اتجاه معين، كضبط العقود الخاصة في شكل صحيح يتسق مع هذا الاتجاه، كتحديد الأسعار في شؤون التموين والتسعير، ولا يخفى ما تركته العولمة من آثار وبصمات في شتى المجالات، وخاصة الاقتصادية منها. فيلاحظ مثلاً التطور الذي اعتور القانون الفرنسي منذ العام 1982، إذ يمكن الاتفاق على ما يخالف النصوص الملزمة المتعلقة ببعض نواحي قانون العمل كالأجور مثلاً، والعقود الجماعية، وهذا ليس بالمستغرب لأنه كما سلف القول إن مفهوم النظام العام في مجمله متغير، ومؤيد هذا النوع من النظام العام وجزاؤه البطلان المطلق.
رابعاً ـ مفهوم الآداب La notion de bonnes moeurs:
يجب تناول مفهوم الآداب مجرداً ومستقلاً عن مفهوم النظام العام، إذ درج الفقه القانوني في غالبيته على التطرق إليهما وذكرهما معاً على سبيل العطف وليس على سبيل التفريق، فقد تلازم المصطلحان (النظام العام والآداب) واقترن بعضهما ببعض في كل حالة تناولت أحدهما. فالنظام العام يعد مفهوماً مستقلاً عن الآداب التي تعد المظهر الأخلاقي الأكثر خصوصية للنظام العام، وإن إسباغ عبارة العام على مفهوم الآداب يستتبع خطأً التطرق إلى الآداب الخاصة، وهذا تقسيم لم يوفق فيه الفقه القانوني، وإن كان النص القانوني صريحاً وقاطعاً في هذا الشأن، فالمادتان (136 و137 من القانون المدني السوري) لم تتبعا أو تلحقا عبارة العام إلى كلمة الآداب الواردة فيهما، وإنما أوردتاها مجردة وعلى إطلاقها، ومن جهة أخرى يمكن طبقاً للمصطلح القانوني المقتبس بدوره من التشريعات الغربية ـ وإن كان له أصل في الفقه والتشريع المحلي العربي ـ عد عبارة الآداب المقصودة والمتداولة والمعنية بالبحث الأخلاق الحسنة جرياً مع ترجمة المصطلح les bonnes moeurs فالتشريع يحمي الآداب الحسنة، ولا يحمي مطلق الآداب العامة. فالآداب مجردة وعلى إطلاقها هي مجموعة من القواعد السلوكية والشمائل المهذبة، وجد الناس أنفسهم ملزمين باتباعها طبقاً لناموس أدبي يسود علاقاتهم الاجتماعية، وللدين أثر كبير في تكييفه، فكلما اقتربت الحضارة من قواعد الدين ارتفع المعيار الخلقي، ويعد مفهوم الآداب مفهوماً مرناً على أساس أنه الفكرة المعبرة عن مجموع المصالح الجوهرية التي تمس الأخلاق في الجماعة، لذا فهو يختلف باختلاف المكان والزمان، فبينما تبيح بعض النظم القانونية إنشاء نوادٍ للقمار، وشواطئ للعراة تذهب أخرى إلى اعتبار ذلك منافياً للآداب. فمعيار الآداب ينبغي ألا يكون معياراً ذاتياً يرجع فيه القاضي إلى معتقداته أو تقديره الشخصي، وإنما هو معيار موضوعي يؤخذ فيه بما اصطلح في أوساط الناس على تقبله من أفكار واتجاهات سائدة، ومن قواعد أخلاقية أساسية يجدون أنفسهم ملزمين باتباعها، ولو لم يأمرهم القانون بذلك. وإلى جانب المعيار الموضوعي يجب الأخذ بالحسبان فكرة النسبية؛ لأنه لا يمكن تحديد دائرة الآداب وضبطها في أمة معينة وجيل معين، فقد قضي بإبطال شرط العزوبة المفروض على مضيفة الجو (الطيران) لأنه اعتداء على الآداب بصورة غير مباشرة، مادام أنه يحث على العيش في معاشرة غير مشروعة. وإن تحديد مفهوم الآداب صعب بصورة عامة، وقد درج الفقه القانوني ومنذ سنين طويلة على تحديد مفهوم الآداب بأمثلة ضيقة ومباشرة وتقليدية وحبسه في قوالبها، كمنازل الدعارة، ونوادي القمار، والعلاقات الجنسية غير المشروعة، في حين يجب توسيع دائرة هذا المفهوم ليشمل حالات قد تؤدي إليه بصورة غير مباشرة كما في المثال آنف الذكر، بحسبان أنه (أي مفهوم الآداب) مفهوم نسبي ومتغير.
1ـ تعريف الآداب: يمكن الاقتراب من وضع تعريف للآداب ونعتها بأنها: "مجموعة من القواعد السلوكية، والشمائل المحمودة المتعارف عليها بين الناس، في زمان ومكان معينين، وجدوا أنفسهم ملزمين باتباعها، ومتفقين على احترامها بينهم، طبقاً لناموس أدبي سائد في علاقاتهم ومتّرسخ في ضميرهم الاجتماعي". ويؤدي انتهاك هذه القواعد، والخروج عليها ومساسها، أو السخرية منها وعدم المبالاة بها إلى نوع من الإساءة إلى شعورهم العام. ومعيار الآداب هو معيار موضوعي اجتماعي، وليس ذاتياً، يرجع فيه إلى ما أجمع عليه الناس، إضافة إلى أنه نسبي، يختلف من مجتمع لآخر، وغير ثابت، يتطور تبعاً لتطور الفكرة الأدبية في حضارة معينة، وللدين والعرف أثر مهم في تكوينه وتكييفه.
2ـ التمييز بين الآداب وقواعد الأخلاق: يجب التمييز وعدم الخلط بين الآداب وقواعد الأخلاق، فقواعد الآداب هي دون قواعد الأخلاق منزلة، وهي في حقيقتها برأي كاربونييه Carbonier ليست سوى عادات الأفراد الشرفاء في زمان ومكان معينين، فهي بذلك لا تشبه القواعد الأخلاقية السماوية الثابتة، بل هي متغيرة تتبع السلوك الإنساني الذي له معايير تختلف من مجتمع لآخر. فقد ذهب أحد علماء الاجتماع للتعبير عن اختلاف الآداب باختلاف المجتمعات إلى القول: إن الناس ظلوا يظنون أن الوقوف للتعبير عن الاحترام مثلاً شيء غريزي، حتى وجدوا أُناساً يعبرون عن احترامهم بالجلوس. إذاً عبارة الأخلاق العامة أشمل من عبارة الآداب، أي إن ما ينافي الآداب ينافي حتماً الأخلاق، أما ما ينافي الأخلاق فقد لا يُعد انتهاكاً لقواعد السلوك التي تعارف عليها المجتمع، فمنزلة الآداب من الأخلاق هي بمنزلة القاعدة من تطبيقاتها. أجل، إن المجتمع المتوازن هو الذي تنتشر فيه مفاهيم الوعي بالآداب، ثم الالتزام بها، في حين أن منظومة الأخلاق لها جذورها الضاربة في أعماق النفس البشرية. وهناك رقعة عريضة مشتركة بين القانون والأخلاق ليست بعيدة المنال، فكلاهما ـ القانون والأخلاق ـ معني بفرض مستويات معينة من السلوك، ويعزز كل منهما الآخر بوصفه جزءاً من نسيج الحياة الاجتماعية، وقد لخص الفيلسوف كانت Kant مشكلة الأخلاق في رسالة له عنوانها: "حول القول الذائع" بقوله: هذا أمر جيد على الصعيد النظري، ولكنه ليس شيئاً في المستوى العملي. وذهب الفيلسوف الفرنسي رو F. Rauh في مؤلفه "التجربة الأخلاقية" إلى أنه من الممكن أن نطلق على الاعتقاد الأخلاقي اسم تجربة، ولكنها ليست تجربة حادث، بل تجربة مثل أعلى، وليست مبدأ أو فكرة تخطر في الذهن، بل هي حقيقة موضوعية. فالاعتراف الاجتماعي بالإلزام الأخلاقي بحسب ساليه يحول فعل الإحسان إلى فعل واجب، وقد يُلقي على عاتق القضاء توضيح الجرائم الجديدة وتمييزها وفقاً لمتطلبات الأخلاق العامة، كما في قصة "دليل السيدات" إذ أُدين ناشر قام بنشر كُراس يتضمن عناوين وهواتف ومعلومات عن بعض المومسات بالتآمر على إفساد الأخلاق العامة، وقد أيد مجلس اللوردات حكم الإدانة، كما أيد القضاء دور المحكمة في الأخلاق العامة وواجبها في حماية مصلحة الدولة الأخلاقية، وقد كان لهذه القضية مضاعفات خطرة في مضمار الحرية وحكم القانون. إلا أن ما يجمع بين مفهومي الآداب والأخلاق فكرة واحدة هي حماية الشعور العام من الأذى بالجرأة على القواعد والفضائل التي تعارف الناس على احترامها بدافع دينهم وعاداتهم، أو بحكم التفسير السليم أو الأخلاق الفاضلة.
خامساً ـ مؤيد النظام العام و الآداب:
هنا تثور مسألة المؤيد أو الجزاء على انتهاك كلا المفهومين (النظام العام و الآداب)، فهناك المؤيد المدني وما يستتبعه من إلزامات وآثار تُرتب البطلان المطلق على التصرف. وقد يصل الأمر إلى حد الحكم بالتعويض، أو دونه. و هناك أيضاً المؤيد الجزائي الذي يطول انتهاك مفهوم الآداب والأخلاق، وغالباً ما يكون بتوقيع العقوبة وقد يستتبع التعويض.
1ـ عند تكوين العقد (الوقائي): فالعقد المخالف للنظام العام والآداب هو عقد باطل.
2ـ في أثناء تنفيذ العقد (الطارئ): وذلك في القوانين الجديدة التي تصدر بعد إبرام العقد، ومؤيد النظام العام والآداب في هذه الحالة إنما ينسحب إلى القواعد الآمرة، سواء أكانت هذه الأخيرة مُغيرة للقواعد السابقة، أم مُغيرة لقواعد غير آمرة /مفسرة/ وكانت سارية في ظل القانون القديم، بمعنى أنه ينسحب بأثر مقتصر (فوري)، أو بأثر مستند (رجعي)، وذلك حماية للطرف الضعيف في المعادلة التعاقدية الذي جاءت الحماية لمصلحته؛ لأن الأثر الفوري ربما لا يرفع عنه عسف الطرف الأقوى، إنها حماية بلغت حد إبطال العقود والالتزامات المبرمة قبل صدوره، شرط أن ينص المشرع على ذلك صراحة.
مراجع للاستزادة:
ـ عماد طارق البشري، فكرة النظام العام في النظرية والتطبيق (المكتب الاسلامي، ط1، بيروت 2005).
ـ محمد عزيز شكري، "معاهدة المعاهدات ما لها وما عليها"، مجلة الشريعة والحقوق الكويتية، السنة الأولى، العدد الأول، الكويت 1977.
ـ عبد الله العلايلي، مقدمات لفهم التاريخ العربي (دار الجديد، بيروت 1994).
ـ فتحي والي، أحمد ماهر زغلول، نظرية البطلان في قانون المرافعات (ط2، القاهرة 1997).
ـ نبيل إبراهيم سعد، تقنين نابليون (منشورات الحلبي الحقوقية، ط1، بيروت 2004).
ـ اللورد دينيس لويد، "فكرة القانون"، سلسلة عالم المعرفة، رقم 47، الكويت 1981.
ـ عادل ماجد، مسؤولية الدول عن الإساءة للأديان والرموز الدينية (مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، ط1، أبو ظبي 2007).
ـ وحيد الدين سوار، دليل التمارين العملية في المدخل للعلوم القانونية (المطبعة الهاشمية، ط3، دمشق 1964).
ـ محمد وليد هاشم المصري، "محاولة رسم معالم النظام العام الدولي العربي بمفهوم القانون الدولي الخاص"، مجلة الحقوق الكويتية، العدد الرابع، ديسمبر 2003.
ـ محمد وحيد الدين سوار، النظرية العامة للالتزام (د.ن، د.ت).
ـ الياس شيخاني، دور القاضي في إثارة الأسباب القانونية (المؤسسة الحديثة للكتاب، طرابلس، لبنان 2008).
ـ عاطف النقيب، نظرية العقد (منشورات عويدات، ط1، بيروت ـ باريس 1988).
ـ عادل أبو الخير، الضبط الإداري وحدوده(الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1995).
ـ جاك غستان، تكوين العقد، ترجمة منصور القاضي (المؤسسة الجامعية، ط1، بيروت 2000).
ـ عبد الرزاق السنهوري، مصادر الحق، ج1 (منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت 1998).
ـ فرانسوا ساليه، الأخلاق والحياة الاقتصادية، ترجمة عادل العوا (منشورات عويدات، ط2، بيروت ـ باريس 1989).
ـ آلان بينا بنت، الالتزامات، ترجمة منصور القاضي (المؤسسة الجامعية، ط1، بيروت 2004).
ـ جيرار كورنو، معجم المصطلحات القانونية، ترجمة منصور القاضي (المؤسسة الجامعية، ط1، بيروت 1998).
ـ عدنان الخطيب، شرح قانون العقوبات القسم الخاص، الجرائم المخلة بالأخلاق والآداب العامة، 3/1 (دمشق 1954).