اختلط الحابل بالنابل في ما خصّ التوتّر المستجدّ في العلاقات الإيرانية - الأذربيجانية، وتكاثرت الأسئلة حول ما إذا كانت مناورات «فاتحو خيبر» موجّهة ضدّ ما يُحكى عن قطْع طريق إيران إلى أوروبا عبر إقليم ناغورنو قره باغ، أو بسبب ممرّ «زنغيزور» الواصل بين تركيا وأذربيجان، أو على خلفيّة المناورات العسكرية بين أنقرة وباكو، أو العلاقات بين هذه الأخيرة وتل أبيب، أو ما إذا كان للمناورات أيّ علاقة بالملفّ النووي. قد يكون سبب الغضب الإيراني المتصاعد ضدّ أذربيجان أحد الأسباب المذكورة آنفاً أو كلّها. إلّا أن إعلام الجمهورية الإسلامية أبرَزَ استياء طهران من كون باكو تحوّلت إلى قاعدة إسرائيلية تهدِّد الأمن القومي الإيراني.
1- ابتداءً، لا ينكر أحد العلاقات المتميّزة بين أذربيجان وإسرائيل منذ تفكُّك الاتحاد السوفياتي، وانتهاج الأولى سياسة التحالف مع الغرب ومع تركيا، على حساب العلاقات مع روسيا وإيران والدول الأخرى المعادية للغرب. ونجحت تل أبيب في إقامة علاقات عسكرية واستخبارية واسعة مع باكو، ومَدَّت الأخيرة بمختلف أنواع السلاح، وهو ما بات يشكِّل مصدر قلق مزمناً لطهران التي تنظر إلى هذا الحلف المتنامي على أنه تهديد جدّي مصدره جبهتها الشمالية. بعد إعلان أذربيجان استقلالها عام 1991، فرض الغرب بعض القيود على تسليحها، بفعل ضغوط اللوبي الأرميني. من هنا، جاء توجّه باكو إلى تل أبيب لسدّ هذه الثغرة، وفي وقت كانت أنقرة تنسج فيه علاقات قويّة مع الكيان العبري، الذي مدَّ أذربيجان بصواريخ «ستينغر» في حربها مع أرمينيا، مطلع التسعينيات. وعلى رغم اعتراف إسرائيل بأذربيجان، وإقامتها علاقات دبلوماسية معها عام 1992، وافتتاحها سفارة في باكو في العام التالي، لا توجد - حتى الآن - سفارة أذربيجانية في تل أبيب التي باتت تستضيف، ابتداءً من تموز الماضي، ممثليّة أذرية للتجارة والسياحة.
على أن ذروة التعاون العسكري بين باكو وتل أبيب كانت عام 1999، مع زيارة مساعد وزير الدفاع الإسرائيلي، أفرايم سنيه، لأذربيجان، وتوقيع اتفاق عسكري بين الجانبين. وبين عامَي 2016 و2020، بلغت نسبة صادرات السلاح الإسرائيلية إلى أذربيجان، 17%، واشترت هذه الأخيرة صواريخ من طراز «لورا» وطائرات من دون طيّار وأخرى مسيّرة. وشكَّلت حرب الأيّام الأربعة بين أرمينيا وأذربيجان، عام 2016، نقطة تحوّل في العلاقات الأذربيجانية - الإسرائيلية، تلتها زيارة رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، لباكو، حيث وقّع اتفاقاً لبيع السلاح بقيمة خمسة مليارات دولار. وفي الوقت نفسه، كان لإسرائيل مراكز - قواعد استخبارية في معظم أنحاء أذربيجان، هدفها التجسُّس على إيران.
إذاً، فإن الخطر الإسرائيلي على إيران من الخاصرة الأذربيجانية معروف وليس جديداً. لكن لا شكّ في أن مثل هذا الخطر قد ازداد بعد انتصار باكو، العام الماضي، في حرب ناغورنو قره باغ، بفضل الأسلحة الإسرائيلية والتركية.
يمثّل «الممرّ التركي» التحوّل الرئيس في جغرافية جنوب القوقاز
2- يبدو توقيت المناورات الإيرانية في الذكرى الأولى لحرب أذربيجان - أرمينيا، في 27 أيلول 2020، الأكثر أهمية، إذ نُظر إليه على أنه رسالة خاصّة إلى باكو كما إلى أنقرة، ورسالة عامّة إلى كلّ أعداء طهران. فما جرى قبل عام كان مهمّاً جدّاً وخطيراً لجهة تغيير الخريطة الجيوبوليتيكية لجنوب القوقاز. وجاءت حادثة الشاحنات الإيرانية المتوجّهة إلى قره باغ لتكشف قمّة جبل الجليد الذي كان يتراكم منذ توقيع اتفاق التاسع من تشرين الثاني بين أرمينيا وأذربيجان برعاية مباشرة من روسيا. وعلى رغم حديث الأوساط الإيرانية عن أن باكو تَمنع توجُّه الشاحنات الإيرانية إلى قره باغ، ما يعني قطْع طريق إيران إلى أوروبا عبر الإقليم، إلا أنه حتّى لو وصلت تلك الشاحنات إلى قره باغ، فإن الأخيرة لا تشكّل نقطة عبور إيرانية إلى أوروبا، بل أرمينيا هي نقطة العبور، لأن لها حدوداً مع إيران ومع جورجيا ومنها إلى روسيا وأوروبا. المشكلة، كما يقول الرئيس الأذربيجاني، إلهام علييف، نفسه، هي أن بلاده حرّرت، العام الماضي، وفق القانون الدولي المعترف به، أراضيَ كانت أرمينيا استولت عليها في مطلع التسعينيات. وبما أن هذه الأراضي قد عادت إلى «الوطن الأمّ»، أذربيجان، يصبح لباكو الحقّ السيادي في تفتيش ومراقبة أيّ شاحنة أجنبيّة تمرّ عبر أراضيها. وبالفعل، باشرت أذربيجان إجراءاتها بينما كانت إيران تمرّ في هذه الأراضي ولا تزال كما لو أنها ليست خاضعة لسلطة باكو. لذلك، رفضت تفتيش شاحناتها. وهنا شرارة التوتُّر.
لكنّ المسألة أبعد من مسألة الشاحنات، والغضب الإيراني أبعد من باكو نفسها، ذلك أن طهران نفسها كانت حريصة، خلال الحرب الأذربيجانية - الأرمينية، على اعتبار أن لباكو الحقّ - من زاوية القانون الدولي - في استعادة أراضيها التي سيطرت عليها يريفان منذ التسعينيات. لكنّ مردّ استياء إيران إلى اتفاق وقف إطلاق النار، وما ورد فيه من بنود جغرافية وسياسية واقتصادية، بدأت الاستعدادات لتنفيذها في هذه الأيام. ما حصل أن أذربيجان أخذت نصف قره باغ، وأبقت النصف الثاني بيد الأرمن، لكن تحت وصاية عسكرية روسية. وحتى يصل الأرمن إلى النصف المتبقّي من قره باغ من أرض أرمينيا نفسها، لحِظ الاتفاق إقامة ممرّ، كان موجوداً في الأساس، هو «ممرّ لاتشين» الواقع تحت إشراف القوات المسلّحة الروسية. لكنّ المشكلة الكبرى هي أن باكو ومعها أنقرة حصلتا، في المقابل، على «ممرّ زنغيزور» أو ما يُعرف باسم «الممرّ التركي»، الذي يبدأ من الأراضي التركية ويدخل منطقة الحكم الذاتي الأذربيجانية، نخجوان، على الحدود مع تركيا، ومن ثمّ يخترق الأراضي الأرمينية بمحاذاة الحدود الإيرانية حوالى 30 كيلومتراً، وقبل أن يدخل الأراضي الأذربيجانية وصولاً إلى باكو ومنها إلى الحدود الروسية مع أذربيجان. وفي قسمه الخاص بالأراضي الأرمينية، يكون هذا الممرّ خاضعاً لسيطرة الجيش الروسي وإشرافه.
غير أن هذا الممرّ هو الذي يمثّل التحوّل الرئيس في جغرافية جنوب القوقاز، لكون تركيا هي الرابح الأكبر منه. فهو، للمرّة الأولى على الإطلاق، يصل بينها وبين أذربيجان عبر طريق برّي وخطّ سكك حديد من دون المرور بالأراضي الإيرانية. وهنا مكمن الغضب الإيراني؛ إذ لم تَعُد الشاحنات التركية مضطرة للمرور عبر الأراضي الإيرانية للوصول بعدها إلى أذربيجان أو تركمانستان، ما يعني حرمان طهران من رسوم مرور غالباً ما تكون مرتفعة (حوالى 800 دولار على الشاحنة الواحدة إلى تركمانستان). والأخطر من ذلك، استشعار طهران خطر تحويل المنطقة الحدودية مع يريفان، بسبب مرور هذا الممرّ في زنغيزور إلى منطقة «تركية» بالقوّة، تفصل لاحقاً إيران عن أرمينيا. والأهمّ من هذا وذاك، أن الممرّ المذكور يعمّق نفوذ تركيا في جنوب القوقاز، ويقلّص كثيراً من النفوذ الإيراني جغرافياً وسياسياً واقتصادياً. وليس خافياً أن الاتفاق على استحداثه لم يكن ليتمّ من دون موافقة روسيا، التي كانت تهدف إلى التخلّص من أو إضعاف رئيس الوزراء الأرميني، نيكول باشينيان، الموالي للغرب، واستمالة أذربيجان في الوقت نفسه. وبتسهيل موسكو سيطرة باكو على الأراضي التي استولت عليها يريفان قبل ثلاثين عاماً، وقعت الكارثة على أرمينيا وباشينيان. ولكنها منعت، في الوقت ذاته، أذربيجان من احتلال ما تبقّى من قره باغ، وهو ما أثار ارتياحاً لدى رئيس الوزراء الأرميني الذي قال إنه «لولا روسيا لسقطت كلّ قره باغ». لكنّ موسكو مضت قدماً في «منْح» أنقرة أحد أكبر إنجازاتها، أي الممرّ البري التركي عبر أرمينيا إلى باكو، ليصبح الخاسر الأكبر في هذه المعادلة، إيران، التي لعلّها لم تفاجأ بلعبة «البيع والشراء» المعتادة لروسيا، بل بحجم التنازل الذي يُلحق ضرراً استراتيجياً بمَن يفترض أن يكون حليفاً استراتيجياً مثل إيران.
كيفما نظرنا إلى التوتّر الحالي، فإن إيران ربّما تكون راغبة في تعديل الاتفاق الحالي حول «ممرّ زنغيزور»، لكن دون ذلك تعقيدات إقليمية، خصوصاً في ظلّ حسابات روسيا التي لن تتوانى عن التضحية بمصالح «الحلفاء» كما حصل في سوريا، وكما يحصل الآن في جنوب القوقاز.
من ملف : رسائل جنوب القوقاز | إيران لخصومها: حذارِ العبث بالحدود