يمكن البحث في "الإسلام" كدين وكعقيدة، أو ما يسمى إسلاميا بالفقه، وهذا الأمر يبقى شأنا لاهوتيا ماورائيا، لا يمكن البت فيه بأسلوب علمي، كون العلم لا يدعي قدرات لاهوتية، كما أنه لا يتجرأ على الإقرار بما لا يمكن إثباته بالتجربة وبالمعادلات العلمية التي يمتلكها هو (العلم). ولكن الدين بحد ذاته أيا يكن، يمكن النظر إليه كظاهرة اجتماعية، وكحركة تغيير حضاري وثقافي، تمر بها مجموعة من البشر، قد تتسع كثيرا، كما حدث مع المسيحية والإسلام. وهنا يمكن دراسته علميا ضمن قواعد علم الاجتماع والتاريخ، وحتى من خلال العلوم السياسية، التي يبدو أن الدين يمتلك علاقة وثيقة جدا معها، من خلال البشر الذين يحملونه في ضمائرهم، وهم بطبيعة الحال كائنات "إجتماعية" أو كما يسعني أن أقول "سياسية". كما أنهم بالدرجة الأولى هم الذين يصنعون التاريخ، ومن البديهي قراءة أفعالهم تلك في صناعته، من خلال محدداتها والمؤثرات الكبرى فيها، وعلى رأسها الدين.
كانت المجموعات البشرية التي تعيش في منطقة المشرق العربي، أو ما يمكننا تحديده جغرافيا ببلاد الشام وشبه الجزيرة العربية، بصورة تقترب من البعثرة الحضارية، كنتيجة موضوعية لاندثار الامبراطوريات الرئيسة التي حمت القلب والرأس من هذه المنطقة، وتحديدا بين الرافدين وشمال شبه الجزيرة وصولا إلى شواطئ المتوسط، حيث تناوب خلال الثلاثة آلاف عام السابقة لانطلاق الدعوة الإسلامية، عدد من الحضارات والإمبراطوريات العظيمة، كالسومرية والأشورية والبابلية، والآرامية والكنعانية.. الخ. إن توصيفنا لهذه التشكلات التاريخية بالإمبراطوريات و الحضارات، ليس ضربا من السرد، ولكنه محاولة لتوخي الدقة، فبعض الشعوب بنشاطها السياسي والاجتماعي، شكلت كيانات سياسية إمبراطورية كدول مركزية عملاقة، كالآشورية والبابلية، وبعضها الآخر اتخذ شكل الموجة والوسط الحضاري المنتشر والمتشعب في الإقليم وخارجه، وصولا إلى حوض المتوسط كله أحيانا كالكنعانيين والآراميين، والتشكلات الحضارية الثقافية الثرية التي نتجت عن تلاقحها مع بعضها ومع محيطها، كالفينقيين والسريان وغيرهم.
كل تلك الحضارات والدول، كانت قد انكفأت وتراجعت واندثرت أحيانا، وفق الآليات الطبيعية لعمل التاريخ، فهي أولا كانت تفني بعضها بعضا في أغلب الأحيان، فالعدو الأول للبابليين كان الآشوريين، كما أن هؤلاء كانوا على علاقة دموية شرسة مع الآراميين حتى أنهم كانوا يعتبرونهم "أعداء الإله". كما قامت الامبارطورية الآشورية الأولى بالقضاء على السومريين.. الخ. أما العنصر الآخر الموضوعي، فهو كان تعرض المنطقة للغزو والاحتلال المتكرر من قبل الحضارتين المجاورتين بشكل رئيس، واللتين كانتا فاعلتين أيضا تاريخيا، ومتأثرتين بالمحيط الحضاري والسياسي للمنطقة العربية، وكانتا تتصاعدان في القوة تزامنا مع التراجع الذي بدأ يدب فيها، وهما الحضارتين الفارسية والرومانية.
أدى كل ذلك إلى تخلخل البنية السياسية الاجتماعية، وتراجع التفوق الحضاري في الإقليم لحالة اتسمت بالتفرق لقبائل وممالك ومدن صغيرة متناثرة، كان الأبرز منها يشكل تحالفات اتسمت بالتبعية مع الامبراطوريتين آنفتي الذكر. وكثيرا ما نشبت الحروب بين تلك المدن والقبائل، لصالح القوى الكبرى، كتعبير عن السيادة والتبعية، وما صار يسمى في عالمنا اليوم "الحروب بالوكالة".
عندما نتحدث عن حركة التاريخ وجدلياته، فإن من يفهمها يدرك أن دوام الحال من المحال، وأن الشعوب لا بد أن تسعى بصورة علم اجتماعية، لتعبر عن طموحها الاجتماع سياسي، لأن السيطرة والقوة، هما المحرك الأساس في الدوافع الحضارية، وهما يحملان في صيرورتيهما، مشاريع الاقتصاد والوفرة، كتعبير عن الحاجة للإنتاج والتسويق وتحقيق الثروة والرفاه. هكذا جاء الإسلام بوصفه حركة اجتماعية ثورية تريد التغيير، وتسعى له، كحاجة ملحة في ضمائر المجموعة البشرية في إقليم المشرق العربي، خاصة وأنه طُرِحَ وبصورة مبكرة من نشوئه كدعوة دينية، مشروعه السياسي، الذي لم يكن بعيدا عن الاقتصاد. كما أنه شكل تلبية لحاجة أخرى لا تقل أهمية في دراسة التحولات التاريخية، وهي "الإحساس بالمظلومية"، فالإحساس بالظلم والتهميش يزداد قوة وسطوة عند الطبقات الأضعف بالمجتمع –وهي الأوسع-، بصورة طردية مع حالات التراجع الحضاري، فتتصدر الحاجة إلى التغيير وعي المجمتع، إضافة لتلاقيها الموضوعي مع الحاجة للماورائيات والقضايا "الروحية" في مواجهة الصعاب. وعندما نتحدث عن الصعاب والأزمات الحضارية، فإننا لا يمكن أن نغفل ذلك التحميل اللاواعي من قبل بعض الشرائح الاجتماعية بمفكريها، للدين نفسه، مسؤولية تلك الأزمات، برغم أنه يبدو كما سلف وبنفس الوقت كملجأ بالنسبة لشرائح أخرى.
إن محاولة تحميل الدين الإسلامي، عواقب ومسؤولية حالة التراجع الحضاري التي تلت فترة نهضة مجتمع الإقليم العربي وتصدره كدولة إسلامية للمشهد الحضاري العالمي، زمن الإمبراطورية العربية في مرحلتيها الأموية والعباسية، هي أمر يشبه إلى حد كبير محاولة تحميل المسيحية مسؤولية عصور الانحطاط التي عاشتها أوروبا خلال القرون الوسطى، بكل ما تخللها من جرائم وتخلف. كما أنه وفي المقابل قد يتسلح قائل غير متعمق، بحقيقة أن الكنيسة كانت هي بنفسها تقود الدولة والسياسة في تلك العصور، خلافا لما هو سائد في العالم الإسلامي، باستثناءات قليلة.
هذه المحاولات تبدو قاصرة عن فهم التاريخ وتحولاته ذات الطابع شبه الدوري، في آليات الصعود والهبوط لنشوء الأمم وتراجعها، كما أنها تشتكي من العنصرية أحيانا، أو من السطحية أحيانا أخرى. فالشرئع والعقائد والأفكار الجديدة، تكون دائما ناتجة عن الحاجة، ويمكنها بسهولة أن تكون رافعة للوضع الحضاري والسياسي لشعب ما، ولكن العودة للتراجع والانكفاء، تكون من خلال آليات عمل التاريخ، بما تعنيه من طبيعة العقل البشري وأسلوب وإمكانات عمله، وهو وحده القادر على إدامة ذلك التأثير النهضوي للأفكار للحد المشرف، تماما كما هو قادر على اختصاره إلى الحد الأدنى لدورة التاريخ، بشكلها المحزن.. إن المسألة تكمن في الإنسان. لذلك فإنه إذا لم يكن لدى هذا الشعب أو ذاك رسالة ما، فإنه عليه أن يبتكرها، وعليه هو أن يحسن استخدامها وإدامة تأثيرها، لا بل وتطويرها نحو الأفضل.
يمكن البحث في "الإسلام" كدين وكعقيدة، أو ما يسمى إسلاميا بالفقه، وهذا الأمر يبقى شأنا لاهوتيا ماورائيا، لا يمكن البت فيه بأسلوب علمي، كون العلم لا يدعي قدرات لاهوتية، كما أنه لا يتجرأ على الإقرار بما لا يمكن إثباته بالتجربة وبالمعادلات العلمية التي يمتلكها هو (العلم). ولكن الدين بحد ذاته أيا يكن، يمكن النظر إليه كظاهرة اجتماعية، وكحركة تغيير حضاري وثقافي، تمر بها مجموعة من البشر، قد تتسع كثيرا، كما حدث مع المسيحية والإسلام. وهنا يمكن دراسته علميا ضمن قواعد علم الاجتماع والتاريخ، وحتى من خلال العلوم السياسية، التي يبدو أن الدين يمتلك علاقة وثيقة جدا معها، من خلال البشر الذين يحملونه في ضمائرهم، وهم بطبيعة الحال كائنات "إجتماعية" أو كما يسعني أن أقول "سياسية". كما أنهم بالدرجة الأولى هم الذين يصنعون التاريخ، ومن البديهي قراءة أفعالهم تلك في صناعته، من خلال محدداتها والمؤثرات الكبرى فيها، وعلى رأسها الدين.
كانت المجموعات البشرية التي تعيش في منطقة المشرق العربي، أو ما يمكننا تحديده جغرافيا ببلاد الشام وشبه الجزيرة العربية، بصورة تقترب من البعثرة الحضارية، كنتيجة موضوعية لاندثار الامبراطوريات الرئيسة التي حمت القلب والرأس من هذه المنطقة، وتحديدا بين الرافدين وشمال شبه الجزيرة وصولا إلى شواطئ المتوسط، حيث تناوب خلال الثلاثة آلاف عام السابقة لانطلاق الدعوة الإسلامية، عدد من الحضارات والإمبراطوريات العظيمة، كالسومرية والأشورية والبابلية، والآرامية والكنعانية.. الخ. إن توصيفنا لهذه التشكلات التاريخية بالإمبراطوريات و الحضارات، ليس ضربا من السرد، ولكنه محاولة لتوخي الدقة، فبعض الشعوب بنشاطها السياسي والاجتماعي، شكلت كيانات سياسية إمبراطورية كدول مركزية عملاقة، كالآشورية والبابلية، وبعضها الآخر اتخذ شكل الموجة والوسط الحضاري المنتشر والمتشعب في الإقليم وخارجه، وصولا إلى حوض المتوسط كله أحيانا كالكنعانيين والآراميين، والتشكلات الحضارية الثقافية الثرية التي نتجت عن تلاقحها مع بعضها ومع محيطها، كالفينقيين والسريان وغيرهم.
كل تلك الحضارات والدول، كانت قد انكفأت وتراجعت واندثرت أحيانا، وفق الآليات الطبيعية لعمل التاريخ، فهي أولا كانت تفني بعضها بعضا في أغلب الأحيان، فالعدو الأول للبابليين كان الآشوريين، كما أن هؤلاء كانوا على علاقة دموية شرسة مع الآراميين حتى أنهم كانوا يعتبرونهم "أعداء الإله". كما قامت الامبارطورية الآشورية الأولى بالقضاء على السومريين.. الخ. أما العنصر الآخر الموضوعي، فهو كان تعرض المنطقة للغزو والاحتلال المتكرر من قبل الحضارتين المجاورتين بشكل رئيس، واللتين كانتا فاعلتين أيضا تاريخيا، ومتأثرتين بالمحيط الحضاري والسياسي للمنطقة العربية، وكانتا تتصاعدان في القوة تزامنا مع التراجع الذي بدأ يدب فيها، وهما الحضارتين الفارسية والرومانية.
أدى كل ذلك إلى تخلخل البنية السياسية الاجتماعية، وتراجع التفوق الحضاري في الإقليم لحالة اتسمت بالتفرق لقبائل وممالك ومدن صغيرة متناثرة، كان الأبرز منها يشكل تحالفات اتسمت بالتبعية مع الامبراطوريتين آنفتي الذكر. وكثيرا ما نشبت الحروب بين تلك المدن والقبائل، لصالح القوى الكبرى، كتعبير عن السيادة والتبعية، وما صار يسمى في عالمنا اليوم "الحروب بالوكالة".
عندما نتحدث عن حركة التاريخ وجدلياته، فإن من يفهمها يدرك أن دوام الحال من المحال، وأن الشعوب لا بد أن تسعى بصورة علم اجتماعية، لتعبر عن طموحها الاجتماع سياسي، لأن السيطرة والقوة، هما المحرك الأساس في الدوافع الحضارية، وهما يحملان في صيرورتيهما، مشاريع الاقتصاد والوفرة، كتعبير عن الحاجة للإنتاج والتسويق وتحقيق الثروة والرفاه. هكذا جاء الإسلام بوصفه حركة اجتماعية ثورية تريد التغيير، وتسعى له، كحاجة ملحة في ضمائر المجموعة البشرية في إقليم المشرق العربي، خاصة وأنه طُرِحَ وبصورة مبكرة من نشوئه كدعوة دينية، مشروعه السياسي، الذي لم يكن بعيدا عن الاقتصاد. كما أنه شكل تلبية لحاجة أخرى لا تقل أهمية في دراسة التحولات التاريخية، وهي "الإحساس بالمظلومية"، فالإحساس بالظلم والتهميش يزداد قوة وسطوة عند الطبقات الأضعف بالمجتمع –وهي الأوسع-، بصورة طردية مع حالات التراجع الحضاري، فتتصدر الحاجة إلى التغيير وعي المجمتع، إضافة لتلاقيها الموضوعي مع الحاجة للماورائيات والقضايا "الروحية" في مواجهة الصعاب. وعندما نتحدث عن الصعاب والأزمات الحضارية، فإننا لا يمكن أن نغفل ذلك التحميل اللاواعي من قبل بعض الشرائح الاجتماعية بمفكريها، للدين نفسه، مسؤولية تلك الأزمات، برغم أنه يبدو كما سلف وبنفس الوقت كملجأ بالنسبة لشرائح أخرى.
إن محاولة تحميل الدين الإسلامي، عواقب ومسؤولية حالة التراجع الحضاري التي تلت فترة نهضة مجتمع الإقليم العربي وتصدره كدولة إسلامية للمشهد الحضاري العالمي، زمن الإمبراطورية العربية في مرحلتيها الأموية والعباسية، هي أمر يشبه إلى حد كبير محاولة تحميل المسيحية مسؤولية عصور الانحطاط التي عاشتها أوروبا خلال القرون الوسطى، بكل ما تخللها من جرائم وتخلف. كما أنه وفي المقابل قد يتسلح قائل غير متعمق، بحقيقة أن الكنيسة كانت هي بنفسها تقود الدولة والسياسة في تلك العصور، خلافا لما هو سائد في العالم الإسلامي، باستثناءات قليلة.
هذه المحاولات تبدو قاصرة عن فهم التاريخ وتحولاته ذات الطابع شبه الدوري، في آليات الصعود والهبوط لنشوء الأمم وتراجعها، كما أنها تشتكي من العنصرية أحيانا، أو من السطحية أحيانا أخرى. فالشرئع والعقائد والأفكار الجديدة، تكون دائما ناتجة عن الحاجة، ويمكنها بسهولة أن تكون رافعة للوضع الحضاري والسياسي لشعب ما، ولكن العودة للتراجع والانكفاء، تكون من خلال آليات عمل التاريخ، بما تعنيه من طبيعة العقل البشري وأسلوب وإمكانات عمله، وهو وحده القادر على إدامة ذلك التأثير النهضوي للأفكار للحد المشرف، تماما كما هو قادر على اختصاره إلى الحد الأدنى لدورة التاريخ، بشكلها المحزن.. إن المسألة تكمن في الإنسان. لذلك فإنه إذا لم يكن لدى هذا الشعب أو ذاك رسالة ما، فإنه عليه أن يبتكرها، وعليه هو أن يحسن استخدامها وإدامة تأثيرها، لا بل وتطويرها نحو الأفضل.