لكل علم من العلوم صلات عضوية بجملة من العلوم الأخرى لابد للمتخصص من الإلمام غير المُخل بها إذا كان يطمح أن يكون عالمًا في مجال تخصصه وواعيًا بأبعاده ومُحيطًا بثماره.
لهذا نجد المُشرع القانوني- كمثال- لابُد له من الإلمام التام بلغة التشريع أولًا- كاللغة العربية مثلًا- كي يوظف الكلمات، ويستخدم الجُمل التي لا تترك مجالًا للتأويل والغموض والخروج عن مقاصد النص القانوني، كما لا تحمل الهُلامية وتعدد الأوجه للتأويل، إضافة إلى ضرورة إلمامه التام بجملة أخرى من العلوم والمعارف التي تجعل من القانون ونصوصه مُنسجمة، ومتناغمة مع مقاصد القانون وفلسفته من نفع وخيرية، وتنظيم لحياة الناس وضابط لحراكهم، تلبية لمطالبهم وحماية لحقوقهم، كعلم الاجتماع والتاريخ وعلم النفس والشريعة، ومقاصد الشرع والتاريخ الاجتماعي للبلد والاقتصاد....إلخ، أي العلوم التي تتصل مباشرة بنصوص ومواد القانون المُراد إصداره، كي لا يُصبح القانون لاحقًا مُعيقًا لحركة المجتمع وتطلعاته ولا مُعيقًا للتنمية بمفهومها الشامل، ولا مثاليًا ولا تعجيزيًا.
فالقانون- أي قانون- ما لم يأتِ متناغمًا ومنسجمًا مع قواعده وفلسفته، ومراعيًا لأطوار الدولة وحاجات المجتمع، وقيمه يكون عبارة عن مفردات إنشائية هُلامية ونصوص إذعان خارجة عن السياق القانوني والنفع العام معًا.
المشروعات الإنشائية الكُبرى مثل الطرق والجسور والأنفاق وما في حكمها من مشروعات، تحتاج إلى دراسات عميقة ذات طابع اجتماعي واقتصادي ومناخي قبل الدراسات الفنية لها؛ لأنَّ كل حالة من تلك تُشكل أهمية كُبرى لتحديد منسوب نجاح المشروع، وجدواه قبل الشروع في تنفيذه، وجني ثمار الربح والخسارة منه.
أغلب القوانين السارية في سلطنتنا الحبيبة تُعاني من البُعد الأحادي في الشكل والمضمون، وتُعبر عن حالة التشظي القطاعي في الجهاز الإداري للدولة والمتمثل في السلطة التنفيذية بالتحديد؛ أي الحكومة. لهذا نجد القوانين والإجراءات في الغالب تتضاد في داخل المنظومة الواحدة، وحين تَعرِف التغيير أو التعديل تصبح جزءًا من المشكلة لا جزءًا من الحل!
الإرباك الحاد المصاحب لجملة التشريعات في سلطنتنا الحبيبة في ظل زمن الحوكمة وطموح رؤية "عُمان 2040" لا يزرع في قلوبنا الاطمئنان المطلوب للحاضر ولا المستقبل، في ظل التشابك العالمي للمصالح والتنازع العالمي الحاد لكعكة الاستثمار وجلب الأموال، وترسيخ مفهوم التنمية الشاملة بوجهيها التقني والفكري.
نحن اليوم قطعنا شوطًا مهمًا في بناء الوجه التقني للدولة من بُنى تحتية مادية تتمثل في شبكات الطرق، والمنشآت الصحية والتعليمية وخدمات الهاتف والماء والكهرباء، وأصبحت كل مؤسسة تتوافر لها الأدوات المناسبة للنهوض والتطور من كوادر بشرية، ومنشآت بنيوية مادية ضرورية، والمطلوب اليوم هو توفير قادة لهذه المؤسسات على قدر من الوعي والفكر للنهوض بتلك المؤسسات، وتوظيف مؤهلاتها المادية والمعنوية بما يخدم البلاد والعباد ويلحقنا بركب التقدم العالمي.
العالم اليوم يتسابق نحو الأفكار الخلاقة والنوعية للتنمية والتميز، وتحقيق إضافات نوعية للاقتصادات الوطنية، بقرارات وتشريعات مرنة وجاذبة وذات أبعاد مُتعددة تحقق النهوض الاقتصادي للوطن، وترفع من منسوب معيشة المواطن ليُساهم بفعالية في عجلة الاقتصاد، ووتيرة التنمية وتحقق الاستقرار والسكينة العامة للدولة والمجتمع. سلطنتنا الحبيبة لا تحتاج إلى المزيد من الاكتشافات النفطية والغازية والمعدنية لتحقيق النهوض والتنمية النوعية، لا إلى المزيد من الضرائب والرسوم المُرهقة للمواطن والطاردة للاستثمارات لتعظيم مدخراتها المالية؛ بل نحو المزيد من المراجعات للتشريعات والقوانين والإجراءات السارية والتي عطلت التنمية ومواكبة ركب التطور.
هذا لن يتحقق إلا بوجود رجال بعقليات خماسية الأبعاد تستنهض مقدرات عُمان الطبيعية والبشرية، وتوظف الموقع الجغرافي الفريد للسلطنة ليربط العالم، ولتصبح سلطنتنا الحبيبة عُقدة مواصلات العالم وملتقى مصالحه.
قبل اللقاء.. الأكثر كارثية من التشريعات الخاطئة في الزمان والمكان والشكل والمضمون والهدف؛ هو سريانها لعقود دون مراجعة أو تقييم أو تقويم والنتيجة تعطيل مصالح البلاد والعباد.