على الكرد أن يستعجلوا في فهم خفايا المرحلة القادمة من دون أخطاء، وإلا سيبقون ورقة في مهب الرياح الإقليمية والدولية التي ستعصف بهم.
بعد الانسحاب من أفغانستان وقريباً العراق.. ماذا سيفعل كرد سوريا؟
لم ينتبه أحد إلى حجم المؤامرات التي تستهدف الجميع، ولم يستخلص أحد العبر والدروس من تجارب اليوم والماضي القريب.
من دون العودة إلى التاريخ البعيد، خذلت أميركا الكرد أكثر من مرة في العراق وتركيا وإيران، فقد ساعدت الشاه للقضاء على جمهورية مهاباد الكردية في إيران وإعدام رئيسها قاضي محمد في 31 آذار/مارس 1947، فيما هرب الملا مصطفى البرزاني إلى العراق.
وبعد سنوات، خذلت البرزاني من جديد عندما طلبت من الشاه إيقاف الدعم له ولكرد العراق بعد اتفاقية الجزائر التي وقع عليها صدام حسين ورضا بهلوي في 6 آذار/مارس 1975. ولم ينجُ كرد تركيا من غدر واشنطن، إذ قامت المخابرات الأميركية، ومعها الموساد الإسرائيلي، باختطاف زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان من السفارة اليونانية في نيروبي، وتسليمه لتركيا في 14 شباط/فبراير 1998، وهو لا يزال في السجن منذ ذلك التاريخ.
لم يمنع ذلك أتباع وأنصار أوجلان "الثوري الماركسي" من الولاء لواشنطن التي استنجدت بهم في حربها ضد "داعش" بعد احتلالها الموصل في حزيران/يونيو 2014، فضحّى الكرد "بالغالي والرخيص" خدمةً لأميركا التي استغلَّت ولاءهم لها، فنشرت قواتها في شرق الفرات. ويعرف الجميع أنَّ نياتها تختلف تماماً عن حسابات الكرد ومن معهم من العشائر العربية التي تآمرت أيضاً مع الأجنبي ضد وطنها بمسميات مختلفة، حالها حال كل الفصائل الأخرى التي عملت لحساب دول ومنظمات وأجندات أجنبية أوصلت سوريا ومعها المنطقة إلى ما أوصلته إليه الآن. ولا شكّ في أنّ السبب في ذلك ليس هذه الفصائل والعشائر والوحدات فحسب، بل أيضاً تآمر أنظمة بعض دول المنطقة، وهي جميعاً في خدمة واشنطن و"تل أبيب" بشكلٍ مباشر أو غير مباشر.
ولم ينتبه أحد إلى حجم المؤامرات التي تستهدف الجميع، ولم يستخلص أحد العبر والدروس من تجارب اليوم والماضي القريب، من دون أن يخطر على بال أحد من هؤلاء أيضاً أن واشنطن التي تخلت عن أفغانستان بعد 20 عاماً من الاحتلال سوف تتخلى عنهم بشكل أو بآخر، وهو ما جرّبه الرئيس دونالد ترامب في الماضي القريب، عندما قال في 30 آذار/مارس 2018 "إننا سننسحب من سوريا قريباً جداً، بعد أن أنفقنا 7 تريليون دولار في الشرق الأوسط"، ولكن من دون أن يتذكر أو يذكرنا كم ربحت أميركا مقابل ذلك.
الرئيس ترامب، وبعد 8 أشهر من هذا التصريح، وفي 19 كانون الأول/ديسمبر 2018، أعلن رسمياً انسحاب بلاده من سوريا، ليقول بعد ذلك بأسبوعين "إن سوريا ضاعت، ولم يبقَ فيها إلا الرمال والموت". وفي 4 شباط/فبراير 2019، عاد ترامب إلى حرب الأعصاب مع حلفائه الكرد، فتحدّث عن الانسحاب، ليس من سوريا فحسب، بل من أفغانستان أيضاً، مع الاحتفاظ ببعض القواعد في العراق، لينتهي به المطاف بالحديث عن بقائه في شرق الفرات من أجل النفط فقط، ومن دون التطرق، ولو بكلمة واحدة، إلى الحقوق القومية أو الديمقراطية للكرد وحلفائهم من العرب داخل ما يُسمى "قوات سوريا الديمقراطية".
قيادات "قسد" ووحدات حماية الشعب الكردية اعتبرت تصريحات الرئيس ترامب في البداية "طعنة من الخلف"، واستنجدت بفرنسا وبريطانيا، وأيضاً "إسرائيل" وبعض الأنظمة الخليجية، لإقناع واشنطن بضرورة عدم الانسحاب من شرق الفرات، تارة بحجة "أن ذلك سيعرقل محاربة داعش"، وتارة أخرى بذريعة "أن ذلك سيدعم التواجد الإيراني في العراق، وعبره في سوريا ولبنان، ما سيهدد أمن إسرائيل المهم جداً بالنسبة إلى ترامب شخصياً"، وهو ما أثبته ترامب بالتراجع عن قرار الانسحاب وزيادة المساعدات العسكرية الضخمة لـ"قسد" وجناحها الكردي، ليكونوا ورقة مهمة في مساومات واشنطن مع دمشق وروسيا وإيران وتركيا؛ الطرف الأهم في مجمل الحسابات الكردية.
ولم يمنع هذا الدعم الأميركي، ومعه الفرنسي والبريطاني، وحتى الألماني والإيطالي، الرئيس ترامب من إضاءة الضوء الأخضر للجيش التركي للتوغل شرق الفرات في 9 تشرين الأول/أكتوبر 2019، ليسيطر على شريط حدودي يمتد بطول 110 كم من رأس العين إلى تل أبيض، وبعمق 30 كم. واضطر مسلحو الوحدات الكردية إلى الانسحاب إلى جنوبها، من دون أن يتسنى لهم الاعتراض على القرار الأميركي، لأنهم يعون جيداً أن واشنطن التي تجاهلت وجود قيادات حزب الشعوب الديمقراطي الكردي في السجون التركية منذ 5 سنوات، قد تتخلّى عنهم في أي لحظة، بل قد تسلم قياداتهم إلى تركيا، كما فعلت مع عبد الله أوجلان.
كما تخلّى ترامب شخصياً عن الحليف الكردي الآخر، وهو مسعود البرزاني، عندما أعلن رفضه الاستفتاء على استقلال كردستان العراقي في 25 أيلول/سبتمبر 2017، ليثبت بذلك سلوك من سبقه من الرؤساء الأميركيين الذين خدعوا والده الملا مصطفى البرزاني، وكل الشعب الكردي في المنطقة عموماً، منذ أن تخلَّت أميركا، ومعها الدول الاستعمارية، أي بريطانيا وفرنسا، عن فكرة قيام الدولة الكردية التي أقروها في اتفاقية "سيفر" للعام 1920، لأنهم رجَّحوا عليها وعد "بلفور".
ولم تهمل هذه الدّول الاستعمارية تشجيع الكرد واستفزازهم في الدول الأربع، ليقاتلوا بعضهم البعض، حتى تمنعهم من الاتفاق على الحد الأدنى من المصالح القومية التي يتحدثون عنها، وآخر مثال على ذلك الوضع الحالي بين الوحدات الكردية في سوريا والبشمركة الموالية لمسعود البرزاني الَّذي تحالف دائماً مع أنقرة ضد الكردستاني التركي، من دون أن تعي القيادات الكردية إقليمياً أنَّ واشنطن والعواصم الغربية لا يهمها حقوق الكرد القومية والديمقراطية، بل ما يهمها هو استخدامهم ورقة في مجمل حساباتها ومخططاتها السرية والعلنية، وكان الهدف منها دائماً هو خدمة اليهود ومشروعهم الصهيوني، فقد تخلَّت واشنطن وحليفاتها عن الملايين من كرد المنطقة، ورجَّحت عنهم الآلاف من اليهود الذين نقلتهم من مختلف أنحاء العالم، فأعطت فلسطين وطناً دينياً لهم، ولكنها خدعتهم، وهم أهل المنطقة في كل مرة.
وقد استخدمتهم كما تشاء، ومن دون أي مقابل، وهذا هو حالهم الآن في العراق وسوريا وتركيا، مهما كان الحديث عن مكاسبهم التكتيكية التي ستضحي بها واشنطن بين ليلة وضحاها، وهم يعودون في كل مرة إلى نقطة الصفر في نضالهم من أجل حقوقهم بالكم والكيف الذي تحدده لهم العواصم الغربية فقط، من دون أن يستخلص أحد من الكرد ودول المنطقة أي درس من تجارب الأعوام المئة الماضية، ويبدو أنها ستتكرر ما دامت ذاكرة الإنسان معلولة بالنسيان!
ويبقى الرهان الأخير على تطورات المرحلة القريبة القادمة بعد الانسحاب الأميركي من العراق وفق الاتفاق الأخير، بانعكاسات ذلك على الوضع شرق الفرات. وما على كرده إلا أن يستعجلوا في فهم خفايا المرحلة القادمة من دون أخطاء، وإلا سيبقون ورقة في مهب الرياح الإقليمية والدولية التي ستعصف بهم، وهذه المرة من دون رجعة، لأنهم ليسوا "طالبان"!