بعد إعلان الرئيس قيس سعيّد تجميد عمل البرلمان وإقالة الحكومة، الأحد 25 تموز/يوليو، يبدو السؤال الأكثر تداولاً: هل ما قام به يمثل تصحيحاً لمسار الثورة التونسية أو أنه انقلاب على الدستور؟
جاء بيان سعيّد بعد أن وعد وتوعّد لأسابيع عانت تونس خلالها معاناة مركّبة، لم تغب عنها الضّائقة الماليّة وجائحة كورونا التي اكتسحت البلاد، والسيولة السياسية التي شلَّت حركة المجتمع، والدّولة التي تشظَّت وتنافس على قيادتها أكثر من رأس، لوجود دستور مفخّخ، لا هو رئاسي، ولا هو برلماني، ولا هو مختلط.
جاءت هذه القرارات منسجمة مع الهبّة الشعبية الطامحة إلى كنس منظومة الحكم الفاسدة، والتي يشير إصبع الاتهام فيها إلى حركة "النهضة" الإسلامية؛ إحدى زعانف التنظيم الدولي للإخوان المسلمين. وقد أظهرت الحركة في السنوات الأخيرة، وخصوصاً بعد "ثورة الياسمين"، أنّها القوة الوحيدة الفعلية والمنظمة في البلد، في حين أنها تحمل مشروعها الخاصّ الّذي يتناقض في الأغلب مع المشروع الثوري التقدّمي ذي الأولويّة الاجتماعيّة.
مشروع "النهضة" يحمل في مضمونه انقلاباً ناعماً على الأهداف الثورية، ويحتمي في الديمقراطية الشكلية المزيفة المعتمدة على استخدام الخطاب الديني حتى تشرعن وجودها. وقد كشفت تصرفاتها التي تُوّجت بوصول زعيمها راشد الغنوشي إلى موقع رئيس مجلس النوّاب، والإتيان برئيس حكومة موالٍ لها وبتوجهاتها الخاصة، أنّها تراهن على الوقت من أجل التمكّن من تونس.
أظهرت "النهضة" أيضاً دهاءً في تعاطيها مع الوضع التونسي. وشيئاً فشيئاً، تسلّلت إلى الإدارات التونسيّة. ترافق ذلك مع تدهور مستمرّ للوضعين الاقتصادي والاجتماعي، في ظلِّ فوضى إدارية. كان واضحاً رهانها على نشر البؤس والتخلّف من أجل التمكّن نهائياً من تونس، ما يجعلها المسؤول الأول عن الانهيار الحادث في البلاد التي تعيش أسوأ أزمة اقتصادية منذ استقلالها في العام 1956.
ليس قيس سعيّد عازفاً منفرداً في مقاومته "النهضة"، التي تتحدّث حالياً عن "انقلاب" قام به رئيس الجمهورية. كان الانقلاب الحقيقي يتمثل في امتناعه عن أخذ المبادرة، وترك الثورة المضادة المتمثلة في مشروع رجعي تقوده حركة "النهضة" والتفرج على بلد ينهار. كلّ ما في الأمر أنّ الرجل تحمّل مسؤوليّاته لا أكثر. الأهمّ من ذلك كلّه أنّ الشعب التونسي أثبت أنّه يرفض الاستسلام للفوضى والتخلّف والمؤسسات الموازية لمؤسسات السلطة التي أنشأتها "النهضة" وتحوّلت إلى ثقوب سوداء في الدولة التونسيّة.
مدى مشروعية قرارات الرئيس قيس سعيّد
استند سعيّد إلى الفصل الثمانين من الدستور التونسي المنصوص فيه: "لرئيس الجمهوريّة في حالة خطر داهم مهدّد لكيان الوطن أو أمن البلاد أو استقلالها، يتعذّر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتّخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويعلن عن التدابير في بيان إلى الشعب".
لا شكَّ في أنّ هذا النصّ أحدث جدلاً واسعاً في تلك اللحظة الحرجة من تاريخ تونس، لأنّه يحتمل أكثر من تأويل، بحسب سياق كلّ حدث، وخصوصاً جملة "في حالة خطر داهم"، ولم يتم تحديد نوع الخطر. إذاً، العملية هنا تقديرية. ولأنَّ رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب هما الطرفان اللذان يشكلان الخطر الداهم على الدولة، فلا مجال لاستشارتهما في تفعيل النص، بل تم تفعيل مضمونه في غياب المحكمة الدستورية.
لا يُحسم هذا الجدل بالشرعية الدستورية والقانونية بقدر مشروعيته الأخلاقية والمجتمعية، لمدى انسجامه مع مزاج الشارع التونسي وإرادته بالتغيير. واعتبر سعيد أنّ الشرعيّة يجب أن تتناغم مع مطالب الشعب، في حين وصفت حركة "النهضة" وزمرة مؤيّديها ما حدث بأنه انقلاب صريح سيؤدي إلى إطاحة النظام الديمقراطي ومكتسباته بعد "ثورة الياسمين".
وفي إطار النظرة العلميّة إلى مصطلح الانقلاب في أدبياتنا، فإنه عمل تآمري على سلطات لها شرعيتها الدستورية، ومحصنة بقبول شعبي، وتحظى بثقة متبادلة مع كل أركان الدولة والمواطن، وهو ما لم يحدث مطلقًا، بل نحن أمام سخط شعبي كبير على أداء مؤسّسات الحكم، وعلى رأسها البرلمان والحكومة، في ظلِّ وجود خلل في المنظومة الدستورية والبنية السياسية غير المكتملة، حتى إنَّ المحكمة الدستورية لم تؤسّس بعد.
العوامل الداعمة لقرارات سعيّد
ثمة عوامل دعمت قرارات الرئيس لتصحيح المسار وإنقاذ البلاد من أي فوضى محتملة، وهي:
- استقلاليّة شخصيّته من أيّ نفوذ في الداخل أو الخارج.
- نظافة يده ونزاهته المشهودة له من المعارض قبل المؤيد.
- انتخابه المباشر بنسبة كبيرة تفوق 73%، ما يفيض له شرعية غير مسبوقة مقارنة بأي جهة منتخبة، ويرسّخ قبوله شعبياً، وخصوصاً في الأوساط الشبابية، علاوةً على رفضه القاطع للتطبيع وتجريمه.
- دعم المؤسّستين الأمنية والعسكرية له، وهو الدعم الذي جاء بعد لقائه قياداتهما، والتنسيق المسبق والاتفاق على تحديد نقطة للتحرك المحسوب بعناية فائقة.
- وقوف أعمدة الحركة الوطنية التونسية مع القرارات، وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل، والذي يحظى بتوافق شعبي كبير، لما له من مواقف نضالية وثورية، فيما دعمت الخطوة أهم الأحزاب الوازنة في الحياة السياسية، وأكثرها وجوداً داخل المجلس النيابي، وعلى رأسها حزب حركة "الشعب" الناصري وحزب "التحالف الديمقراطي"، وغيرها من الأحزاب والقوى التقدمية والحركات الثورية والشبابية.
- قلّة عدد المشاركين في التظاهرات الداعمة لائتلاف حزب حركة "النهضة" مثلما كان متوقعاً. ولوحظت قلة عدد النواب الذين انضموا إلى رئيسه المعتصم أمام المجلس بعد أن أغلقته قوات الأمن.
وعلى الرغم من حزمة العوامل الداعمة والظروف الاستثنائية التي أتيحت للرئيس لاتخاذ تلك الإجراءات التاريخية، فإنَّ ثمة تحديات تواجه المسار، تتمثل في عدم وجود إجماع أو توافق بين الطبقة السياسية التونسية على كيفية السير إلى الأمام، فهناك تجاذبات كبيرة بينهم بسبب حدة خطاب النخبة السياسية، وهناك منسوب عالٍ من عدم الثقة وتبادل الاتهامات، متزامنة مع احتقان في الشارع.
وبالتالي، إنّ الأزمة الحالية صناعة محلّية، وأبطالها ساسة منشغلون بخلافاتهم، وربما برعاية إقليمية، وآخر يتمثل في الخلاف القائم بين المؤسسات الدستورية، والتي يوظفها أعداء الثورة التي ما زالت تبحث عن طريقها وتطهر نفسها بأن الديمقراطية لا تصلح لنا، في محاولة العودة إلى الوراء، إلا أن رهان الرجل ما زال يرتكز على الشارع التونسي وضميره الحيّ لإنقاذ البلاد والاصطفاف حول قراراته.
تونس الّتي تعدّ استثناءً بين الدول العربية التي شهدت ثورات حقّقت تقدماً في العملية الديمقراطيّة، لكن هذه الديمقراطية هشة ومهددة ما دامت تتمكّن منها قوى اليمين الديني والرجعي والمال السياسي الّذي استغل حاجة أغلبية المجتمع الفقير وقوة الدولة العميقة الفاسدة المتجذرة، فبقيت شكلية فقط من دون مضمون حقيقي يحمي مكتسبات الثورة.
إن الرهان على المسألة الديمقراطية مرتبط بتوفير أدواتها، من وعي شعبي وقوى تقدمية منظمة كطليعة لعملية التغيير الجذري الشامل وخارطة طريق يحميها دستور يجسد المتطلبات الشعبية، ويسد الثغرات والفراغات التي يمكن الالتفاف حولها، كما يسعى الرئيس إلى الذهاب بها إلى تغيرات جذرية في سبيل تحقيق أهداف الثورة (شغل وحرية وكرامة وطنية). إن تونس الآن أمام مخاض عسير وتفاؤل حذر.