اذا كنت أكره دور الوعاظ والهداة والمبشرين فحريّ بي أن ابتعد عن الوعظ والهداية والتبشير .. ولكن وعظ الوعاظ هو مايجب على أمثالي ان يتخذوه ..وهداية الهداة وتبشير المبشرين عمل جليل لاأنكر انه اكثر جلالا من العبادة في المساجد والكنائس .. فوعظ الوعاظ اهم من وعظ العامة .. وانا أعيش في زمن صار الوعظ فيه مهنة العاطلين عن العمل وحلا لمن ولدت فيهم عقدة المنابر .. فما أكثر الوعاظ يحتشدون في كل الطرقات ويقفون على كل النواصي .. حتى صرت كلما مررت بناصية او رصيف بدوت وحيدا ويتيما بين جماهير الوعاظ والناصحين الذين تتوجه الي خطاباتهم وعيونهم وأحس بالوحدة والهلع وكانني سمكة بين أسراب من اسماك القرش او ظبي ورد ليشرب فاذا مئات التماسيح تهرع اليه ..
وهذه العلة التي داهمتنا علة كبيرة وداء وبلاء منذ ان حل علينا بلاء المال والاعلام والسوشيال ميديا .. حيث صار الوعاظ والحكماء لايخرجون من بطون الكتب والمراجع والمكتبات .. بل من بين عباءات الملوك والامراء ومن تحت سراويل الشيوخ والشيخات .. ويطلعون علينا من عقد النقص وأرحام الفراغ .. الكل يعظ والكل يفتي ويرشد .. والكل صار طبيب الامة ويضع سماعته على صدر الشارع وعلى صدور الناس ويصغي الى نبضات القلوب ونبضات الشحنات الكهربائية في العقول والعبارات التي أصابها الصرع .. حتى انني صرت أخشى ان تكلمت وتفوهت ان يقول لي العامة ان أصمت لأن فقهاء الحرية وفقهاء الانتخابات يجرون أبحاثهم ويصنعون عقاقيرهم التي يجب ان أشربها على مرارتها وسميتها .. ويكتبون وصفاتهم ويقررون خلطاتهم التي لاتخطئ كي تكون انتخابات الرئاسة السورية بعيدة عن الشبهات وجذابة للعالم ومحط قبول العالم الحر ولايأتيها الباطل ..
وفات هؤلاء جميعا ان الانتخابات الكبرى في سورية قام العالم بالتصويت فيها .. وكانت سورية كلها صناديق انتخاب .. الصوت فيها للرصاص فقط .. وكل رصاصة كانت ورقة تصويت .. وكل قرية وكل مبنى كان مركز اقتراع ..
الكثيرون يقولون ان سمعتنا الانتخابية ليست نظيفة وعلينا ان نبذل المستحيل لنزيل عنها البقع السوداء .. وعلينا ان نتعلم فن المناظرات وفن الحملات الدعائية وان نقتبس البرامج واللوحات والبالونات التي يرفعها معسكر المرشحين .. وان نسمح لمن هب ودب ان يدخل السباق الرئاسي .. وان العالم لن يعترف بانتخاباتنا لاننا لم نكن ديمقراطيين وانها فرصتنا اليوم لنثبت اننا نستحق الانتخابات ..
السؤال الذي يجب ان أطرحه على كل من يطلب منا ان ننتمي الى النادي الديمقراطي في العالم هو: هل تعتقد ان النادي الديمقراطي سيقبل بنتيجة الانتخابات ان كانت ضده بغض النظر عن الفائز؟؟
العالم الديمقراطي يافخامة وعاظ الحرية لم يعترض على ديمقراطيتنا بسبب شخص او رئيس او طريقة انتخاب او شفافية نتائج .. بل كان اعتراضه دوما على برنامج الانتخاب ومايتضمنه من شحنات الحرية والاستقلال والكرامة الوطنية .. ولذلك فانه اعترض على انتخابات النمسا عندما أوصلت هايدر الى الحكم وهو الذي ينتقد الغرب والسيطرة الصهيونية عليه .. وبجرة قلم اسقطت ارادة الشعب النمساوي وارغم هايدر على الرحيل خلال اسابيع .. وبالمقابل فان نفس الغرب لايعترض على انتخابات تركيا ويعترف بها لأنها تأتي له بالاسلاميين المطيعين طاعة الكلاب .. والاسلاميين الذين يقاتلون الاسلام ويقتلونه ويقاتلون في كل الدنيا الا في فلسطين .. وكذلك نرى أن الغرب اعترف بانتخابات مصر عندما جاءت بالاخوان المسلمين الذين صار اصدقاؤهم العظماء هم الاسرائيليون وأعداؤهم هم أعداء اسرائيل .. وأيضا قالوا انهم سيجاهدون في سورية وليس في فلسطين .. وكان الغرب قبلها لايعترف بانتصار حماس الاخوانية في غزة عندما كانت حماس في حضن سورية حركة تحرر فلسطينية قبل ان تباع بالمزاد العلني في قطر ..
الانتخابات السورية الرئاسية وكل انتخابات سورية ستعتبر اهانة للديمقراطية وهتكا للحرية لأنها ترفض الوصاية الغربية وترفض الاستبداد الغربي والجشع الغربي وترفض ان يكون القصر الجمهوري فرعا من فروع السفارة الامريكية .. وترفض ان يرقص السياح الاسرائيليون في سوق الحميدية ويتجولوا في الجامع الاموي .. وترفض ان يرفرف علم اسرائيل في دمشق على بعد أمتار من قبر صلاح الدين .. ولهذا فان انتخابتنا باطلة سلفا ورئيسنا ديكتاتور وفوزه ليس مشكوكا به بل هو مزور قطعا وضد ارادة الشعب ..
برنامج الانتخابات الرئاسية السورية هو السبب في جعلها انتخابات غير حرة وغير نزيهة وغير شفافة ليس بسبب سجن صيدنايا وسجن تدمر ولاصور قيصر المزعومة ولا بسبب ربيع دمشق وفلاسفته وكتبهم التي ستغير العالم .. ولاأحداث حماة ولا أطفال درعا ولا مزاعم البراميل المتفجرة ولاأساطير الاسلحة الكيماوية .. بل لانه يقول بكل نزاهة ان اسرائيل غير شرعية ولن تكون شرعية ولن تبقى وستزول ان عاجلا او آجلا .. وان السلام معها هو خيانة للقيم الانسانية وتسليم بشريعة اللصوص والقتلة .. فمن العار ان نقيم اعترافا بلص ونكافئه على مسروقاته .. والدليل على أهمية اسرائيل في الانتخابات السورية ان أولمرت اعترف وقال منذ ايام (ان الحرب في سورية لم تكن لتحدث لو أنها أبرمت سلاما مع اسرائيل) .. وهي في الحقيقة ليست مجرد اعترف بدور اسرائيل فيما يسمى الربيع العربي والثورة السورية بل هي تهديد ووعيد ودعوة للرئيس السوري ليكون برنامجه الانتخابي هو السلام مع اسرائيل .. وهو حكم مسبق على شرعيتها التي تستمد من تل أبيب ..
ان انتخاباتنا الرئاسية باطلة في عيون الغرب وغير نزيهة وهي مسرحية سخيفة ونتائجها مرسومة سلفا لان برنامجها الانتخابي لايتورط في سلام على الطريقة الاسرائيلية في اوسلو وكامب ديفيد ولايطبع على الطريقة الخليجية التي تشبه القوادة والتعري .. ولايحول سورية الى دولة بلا هوية ولاثقافة بحيث يتخاصم الحكام فيها كما يتخاصم امراء العرب واخوانهم وزوجاتهم وبناتهم في محاكم باريس ولندن لان بلدانهم هلامية وعدالتهم مثل عدالة القطعان البرية .. ومحاكمهم مثل محاكم التفتيش رغم انهم يقولون ان لديهم القرآن والاسلام والله .. فكل هذا لايساوي محكمة في لندن ..
مهما فعلنا في الانتخابات وأتينا بمراقبين دوليين وذهب السوريون للتصويت في نيويورك فان رأي الشرعية الدولية وفلاسفتها ينتظر كي يعلن شرعيتها ان كان برنامجنا الانتخابي ونتائج الانتخابات ستبيع الاستقلال الوطني وتبيع السلاح والصواريخ وتشتري بثمنها فنادق وأندية رياضية وناطحات سحاب وأبراجا للتفاهة والتسلية .. ومدنا لسباقات السيارات للتافهين والمخمورين والمغامرين والمقامرين ..
مانعرفه جميعا ان أي انتخابات سورية ومهما كان الفائز فيها فان الغرب لايخيفه منها الا مقدار العنفوان الذي فيها ومقدار الحرية الحقيقية وانعدام الحرية المزيفة .. ولايمنحها الشرعية الا بمقدار الحرية المزيفة التي فيها .. حيث يريدها الغرب في صناديق الانتخاب ان تقول: نحن احرار في طريقة عبوديتنا .. ونحن احرار فقط في اختيار الطريقة التي تستعمروننا بها ..
ولذلك فانني عندما أسمع الى نصائح البعض بأن نتعلم الدرس الديمقراطي وألا نكرر أخطاء الماضي وان نبيض وجوهنا بالانتخابات الحرة والديمقراطية وندخل نادي الحريات والصناديق الانتخابية فانني أحس انني لاأقدر على التزام الصمت وتجاهل هذا الجهل .. ولاأقدر ان اكون لامباليا أو محايدا .. واحس ان رغبة الوعظ عندي تستيقظ بعد ان أطفأها كرهي للواعظين .. ولكن وعظي هنا سيكون موجها فقط لمن يقف على المنابر واعظا .. فقد آن الاوان لكي يقول الناس للواعظ ان يتعظ .. ولمن يقف على المنابر ان يدرك ان المنابر المرتفعة ليست في علوها .. بل في علو كلامها .. فلافرق بين المنبر والمتجر اذا كان الكلام للبيع والشراء والمساومة .. ولابين المنابر والمباقر عندما يكون كلام الواعظ دنيئا ومنخفضا وبطعم الحشائش والعلف .. كما هو الحال هذه الايام .. منابر لاتختلف عن المباقر ..
هل اعترف العالم الغربي الحر بأي انتخابات لاتخدمه مهما كانت نزيهة؟؟ الجواب هو قطعا لا .. ولكنه يعترف بانتخابات هو من صممها وهندسها وراثيا وعدلها جينيا ودستوريا .. مثل انتخابات العراق ولبنان وتركيا وأفغانستان ..
نحن خضنا أعظم انتخابات في التاريخ البشري .. خضنا انتخابات الحرية والكرامة وصوتنا في صندوق انتخابات الغرب وكان منافسونا من الاخوان المسلمين والدواعش الممثلين للغرب والذين نالوا حملة انتخابية غربية لم تحظ بها اي احزاب غربية لدرجة ان القاعدة أعطيت في الحملة الانتخابية جوائز اوسكار لتنجح في الانتخابات .. وتلون الجولاني بالوان قوس قزح وتنظيم الدموي الذي يلون شعاراته الجهادية ألف مرة كي يهزمنا .. وكان من ينازلنا في الانتخابات الاحزاب التركية واردوغان .. وجميعهم هزموا .. لأننا انتخبنا بصوت الرصاص .. وبالرصاص .. ضد صوت الرصاص والرصاص ..
طبعا لاشيء يتغير في التاريخ .. فالسيف أصدق أنباء من الكتب .. وأصدق من صناديق الانتخاب بدليل ان الغرب أرسل علينا أصحاب السيوف والسكاكين كي ننتخب البرنامج الذي يريده الغرب .. وليملي علينا كيف نلتفت شرقا ومتى نلتفت شمالا .. ويملي علينا برنامجنا الانتخابي وعدد صواريخنا وعدد فرقنا العسكرية وعدد دباباتنا والطريق الذي يجب ان تسلكه ومتى تخرج الى الفسحة والاستعراضات .. وكيف نحب اسم فلسطين الجديد (اسرائيل) .. وكيف نغيّر اسم القدس الى اورشليم .. هذا هو البرنامج الذي سيحظى بشرعية دولية .. مهما كان اسم الرئيس ..
وأنا شخصيا سأنتخب البرنامج الذي يقول ان سورية حرة .. بمقدار ماهي ضد اسرائيل .. وبمقدار ماتملك من صواريخ ودبابات ومقاومة .. وان مصير اسرائيل المحتوم هو الزوال والتلاشي .. لأنها ضد التاريخ وضد الجغرافيا وضد المنطق .. وضد الطبيعة .. وضد الانسان ..
فليقل القائلون مايريدون .. وليبلطوا البحر .. وليرفض العالم انتخاباتنا .. وليقل عنها مايشاء .. وليقل اننا لانتعلم الدرس .. فانني أعرف انني سأمنح صوتي لمن يستحق ان يحمل أمانة الشهداء ووصية الاجيال .. ولمن يعلم ان الحرية والاستقلال الوطني ليسا شهادات اكاديمية ولاشهادات دكتوراه ولا حفلات تكريم في برلمانات الغرب .. بل هي في ان أسير كمواطن سوري من دمشق الى القدس دون ان أقف على الحدود ولاأن آخذ تأشيرة من الأمم المتحدة .. عندها فقط يمكن ان أعيد النظر في تعريفات الأمم المتحدة والغرب للحرية والديمقراطية والانتخابات ..