التمتع بهما يرسم صورة دائمة عن حضور مجتمع أو شعب أو أمة، وأدب الأمة لا ينتهي ببعض الكتب الجيدة، بل بمجموعة متكاملة من النتاج، وهذا ما لا يقوى عليه سوى الندرة من الخلَّص لمبادئ الحياة والمنتمين الذين يتم التحدث عنهم بأنهم رائعون، لأن الذي يعتمد على الهواة يبقى هزيلاً، ويصنف تحت مرتبة كسب الرزق، والذي يسعى لإنتاج أفضل ما في وسعه يصبر على الإخفاق المتواصل، ويعمل على التحصيل والتحصين باستمرار، وعندها يدرك أن الكلمات ليست هي المهمة بل معانيها.
هل يستطيع أن يكتب المرء ما يريده؟ أم إنه يكتب ما يستطيعه؟ وهل يقدر أن يتغلب على فكره؟ أم إن فكره هو الذي يقوده؟ أليست الحياة لا منضبطة ولغتها عامية متداخلة؟ فإذا كان قدرنا استلهام ما نريد من العامة يجب علينا أن نكتب بلغتها، لأنها تكون أفضل من المصطنع.
وبالتوافق لا بدَّ أن أسير إلى أن قيمة الثقافة تكمن في مدى تأثيرها في الشخصية، وهي لا تساوي شيئاً ما لم تَسْمُ بذات وفكر المثقف، وتتمدد بالقوة الإيجابية المقنعة للآخر، وتخلق لديه القدرة على الحوار الخلاق، وهنا تكون فائدتها مرتبطة بالحياة، وهدفها تطوير المحيط ورفع ذائقته الجمالية، فإذا كانت كذلك بعثت في الشخصية الثقافية نفسها الرضى والسرور.
هذا ما يراه الآخر لحظة تبادل الحواس الخمس التي لا يكتمل حضورها إلا بحضور الحاسة السادسة، هذه الملكة التي تشبه المال، فلا تعمل الحواس من دونه، ولا يحس المثقف بالتطور إن لم يصل إلى مرحلة التدقيق في الماضي ورؤية الواقع واستقراء المستقبل، فإذا وصل إلى هذه الحالة ولم يصبه الغرور أو التملق أو التنمُّر امتلك قوة استشعار الحرية في عقله، وتفعَّلت قواه الأيديولوجية أو الروحية محدثة عملية التلاقح الفكري مع الآخر، وهنا أقدر أن أقول: إن أكبر قيمة للمثقف تلك التي يطلقها الناس بأنه مثقف، ورغم تكاثر المثقفين إلا أن سوادهم لم يصل إلى مرتبة المثقف، والسبب تمتعهم بالغموض متشابهين مع الكتّاب الذين لا يكلفون أنفسهم مشقة الكتابة بوضوح، والسبب دائماً أعتبره إما بسبب النقص في القدرات الفكرية، وإما بسبب الكسل وعدم السعي لامتلاك ثقافة حقيقية أو تقديم كتابة خلّاقة.
وجدت نفسي مرة في مطعم، ولفتت نظري سيدة فائقة الجمال إلى جانبها رجل شديد القبح، لا أعلم كيف اتجهت إليها، وسألتها من يكون الذي إلى جانبك؟ فقالت بسرعة: إنه زوجي، ارتسمت على وجهي علامات استفهام، إلا أنني وجدتها تتابع قائلة: إنه مثقف كبير، وأهم من ذلك إنه لم يجرح مشاعري طوال مسيرتنا، هل تحب أن تجلس معنا؟ أجبتها بكل سرور شريطة أن أدفع الحساب، فأجابني هنا زوجها: ادفع عن نفسك ونحن كذلك، قالها بدعابة الواثق، وانخرطنا بأحاديث مطولة، في النهاية أحسست أني بحاجة إلى فكره الذي قدم حواراً مبهراً، سكن ذاكرتي، تعلمت منه، وكم وجدته بعد ذلك جميلاً، فعرفت قيمة تمسُّكها به، ومن خلال ذلك بدأنا صداقة مازالت مستمرة منذ عقدين من الزمن.
طبعاً تدركون قصدي، وما قصدته مما ذكرته أن المثقف ليس صورة، بل مضمون له شرط أن يكون مقنعاً ومفيداً أو جذاباً، وهذا حال الأدب، فإن لم يغنِ فكر الآخر فلا حاجة له.
مرة ثانية أؤكد أننا وللأسف نحكم على بعضنا بعيوبنا لا بمزايانا، وبدلاً من أن نتجه لحماية وتبنّي الخلاقين والمبدعين، نجد سواد المثقفين والكتّاب يسعون لإلحاق الأذى ببعضهم.
الأدب والثقافة يحملان اللغة الطبيعية التي تجسد تحسين الوعي والإرشاد للسبل الصحيحة، لا إلى السجون، وكل ما خططته ربما أكون متأكداً منه، ولكنني في الوقت ذاته لست متأكداً من شيء.