القومية ووعي الذات العربي
أدت حصيلة التأمل الفكري، والمعايشة الشخصية، والاحتكاك المباشر بالواقع العربي، وثقل التاريخ المعنوي، وحماس الوجدان الأدبي إلى تعزيز المقدمة المعنوية لتأسيس الفكرة القومية، أو الانتماء الوجداني العقلاني للعالم العربي من اجل تذليل تجزئته الداخلية. ومن هنا دعوته إلى ما اسماه بضرورة "رفع القومية على العصبية الدينية والمذهبية". كما طالب برفع "الحياة المدنية على الدين"، وتفكيك الطائفية والاستعاضة عنها بالوطنية التي تشكل "الوحدة الجغرافية" ركنها الأول[1]. وإذا كان في البداية يقول، بأنه "لا حياة للسوريين واللبنانيين دون العربي، ولا حياة للعربي مع العصبية والتجزئة"[2]، فانه أصبح يقول "كونوا عرب أولا ثم سوريين ولبنانيين وفلسطينيين"[3]. بل اخذ يطالب بعد ذلك "بموت العصبيات، باستثناء عصبية واحدة هي العصبية العربية"[4].
فقد وجد الريحاني في غياب العصبية العربية عصب المشكلة، التي لازمت فقدانهم للحرية. وهو سبب نقده اللاذع والشديد والمتطرف أحيانا للسيرة التركية والأتراك. فعندما تعرض "لنكبات" العالم العربي، فانه صاغها بالشكل التالي: "وجاءك هولاكو عدو العمران، وتيمورلنك عدو الإنسان، وابن عثمان كابوس الزمان"[5]. واعتبر النزعة التركية وبقاياها أحد الأسباب الخطرة لاستمرار انحطاط العالم العربي وقطع السبل أمام ارتقاءه الأدبي. إذ اعتبر بقايا الظواهر التركية في الحياة الاجتماعية والسياسية خطرا على الدولة والمجتمع. فعندما شاهد بعض مظاهر الأبهة عند الملك حسين، تساءل "إن كان في الحجاز يبتدأ التتريك أم ينتهي"؟[6]. واعتبر ضعف الملك حسين ناشئا عن تشربه بالروح التركية بسبب عيشه بينهم ما يقارب العشرين سنة. وكتب بهذا الصدد يقول، بأنه "مهما كان من انتصار العرب على الترك في الحجاز وفي سوريا باسم الدين أولا، فان انتصار الروح التركية على زعيم النهضة وكبيرها، إنما هو رأس الخيبة"[7]. ومن هنا يمكن فهم سبب تمجيده لشخصية محمد الإدريسي، الذي وجد الريحاني فيه "عربيا صميميا وجسورا في سبيل ما يبتغيه، يحالف أية دولة كانت على عدائه للترك"[8]. كما أيد فكرة الإدريسي القائل، بأن "أكثر ما تضرر العرب به هو من الأتراك"[9].
شكلت حصيلة هذه المواقف النقدية من الأتراك مقدمة استنتاجه القائل، بأن دخولهم الإسلام قد أّخر الإسلام أيضا"[10]. لهذا اعتبر "التساهل العثماني" تجاه الأديان سياسة ترمي أساسا إلى إخضاع العرب (مسلمين ونصارى). كما وجد في اعتقاد الأغلبية الساحقة في سوريا (والعام العربي ككل حينذاك) بأن الرقي والعمران والسعادة القومية لا تكون إلا بدولة إسلامية فيها العدل والمساواة والرفق بالرعية، بينما إحياء المشاريع الاقتصادية من الأمور ثانوية، هو الذي أّخر سوريا وجعلها خاضعة للسيطرة التركية[11]. من هنا مطالبته بالثورة على السيطرة التركية، معتبرا أن من "الأفضل الاضطراب والعذاب على الراحة المصطنعة"، كما فّضل الثورة على ما اسماه بالراحة الممقوتة، راحة الذل والجهل والعبودية[12].
فكرة العروبة الحية:
دفع الريحاني أولوية العروبة على كل معيار آخر. ووضعها في صلب تصوراته عن الاستقلال والحرية والرقي والتمدن وبناء الدولة العصرية. وانطلق من "الحقيقة التاريخية" المباشرة والقائلة، بأن "العرب كانوا قبل الإسلام والنصرانية، وسوف يبقون بعد النصرانية والإسلام"[13]. ولم يقصد هو بذلك وضع أحدهما بالضد من الآخر، بقدر ما كان يقصد تمجيد الكيان الثقافي العربي وضرورة استقلاله في العلم والعمل. ووجد في ذلك استجابة حقيقية لحقيقة الإسلام نفسه، بل أن صيرورته الروحية والوجدانية العربية كانت بمعنى ما الاستجابة الحقيقية لحقيقة الإسلام الحضارية كما عثر عليها للمرة الأولى في كتاب (الحمراء) لارفنغ واشنطون، الذي دفعه للرجوع إلى "مهبط الوحي والنبوة - الجزيرة العربية"[14]. وعلى الرغم من تأكيده المتكرر على انه مسيحي عربي، فإن انتماءه الواعي للعالم العربي جعله أكثر قربا من الإسلام وأشد اندماجا بمكوناته الثقافية. وهو إدراك أوصله إلى القول بأنه لا يمكن للعربي ألا يكون مسلما للثقافة الإسلامية. وهو "قدر" تحسسه للمرة الأولى عندما وصفه ويلز في إحدى مقالاته بعد لقائه به "بالسوري المسلم"!
لقد أدى الاندفاع الروحي والوجداني للريحاني صوب "مهبط الوحي" الثقافي العربي أن يصبح تدريجيا أكثر النصارى العرب آنذاك إسلاما. ووجد ذلك انعكاسه في كل ما خطّه قلمه وخطت قدماه. إننا نعثر على ذلك في شعره ونثره، سجعه ومعارضته للسجع، في رحلاته إلى الجزيرة وصحاريها، وفي بحثه عن شيمة ملوكها وأمرائها العرب، وفي رغبته تصوير قلوبها النابضة. ففي قصيدته التي كتبها عام 1907 في نيويورك تحت عنوان (ريح سموم) نقرأ:
بربك القيوم فالذي تظنه يدوم
صوت سمعته في الكروم
***
يومئذ تنقلب المجتمعات
وترتعد فرائص الطغاة العتاة
وتهب على الأرض الذاريات السافيات
يومئذ ورب الأكوان
لا بقاء لسوى الجد والعرفان
والمعروف والإحسان
وفي قصيدة (الثورة) التي كتبها أيضا في نيويورك عام 1907، نقرأ:
ويل للظالمين، المستكبرين والمفسدين
هو يوم من السنين، بل ساعة من يوم الدين
ويل يومئذ للظالمين
وفي قصيدة (هتاف الأودية) نقرأ:
أنا رسولك إلى صفوة العباد
إلى خير من زين الأحلام في المعاد
وإلى من هام في كل واد
وخط بيراعه (ملوك العرب) و(قلب لبنان) و(قلب العراق)، كما لو أنه أراد إحياء تراث تليد مخفي تحت غبار النسيان لا يكلف المرء مهمة رؤيته سوى أن يصرخ بأعلى صوته من اجل رؤية حروفه الناصعة وكلماته المثيرة ومعانية الجلية. وأشار بهذا الصدد إلى انه جاء إلى الجزيرة العربية من اجل إعادة الارتباط الروحي بتاريخ العرب وبهم[15]. وجعله ذلك مرة يقول "أنا عربي جنسيتي على لساني وفي وجهي وطيّ ضلعي. أنا عربي أرمل البادية عزيز عندي كدم أبنائها. وسيئات العرب أجمل في نظري من حسنات عبيد التمدن"[16]. وهو موقف استقاه فيما يبدو من الفكرة الصوفية القائلة، بأن حسنات الأبرار سيئات المقرّبين. لكن إذا كان للفكرة الصوفية مقدماتها الخاصة في الطريق ومستوى "قهر الإرادة" وتسويتها في مساعيها صوب المطلق، فأن لموقف الريحاني أبعادا وجدانية فقط، أي انه حوّر الفكرة الصوفية التي رفع من شأنها كما هو الحال عند كل الوجدانيين الكبار، إلى نموذج للتذوق الحياتي والفعل الواقعي. وليس مصادفة أن يقول الريحاني مرة، بأن "أجمل الكمالات التي نتمناها محققة في الحياة هي تلك التي تفترض فيها روحية الصوفي الحقيقي بالأعمال السياسية والاجتماعية والأدبية كلها"[17].
لكنه أدراك بحسه العملي، بأن "الكمال الصوفي" هو الكمال الذي ساعده على رؤية العظمة الخفية في تاريخ العرب، المستترة تحت غبار الزمن. وهي رؤية لا تتطلب أكثر من أن ينفضوا هذا الغبار عنها. لأننا في هذا العالم مجرد "رموز زائلة لحقائق خالدة. وكل حقيقة تتكون تكوّنا روحيا جديدا كلما طوى رمزها، وفي كل تكوّن تزداد انتشارا وقوة"[18]. وليست هذه "الحقائق الخالدة" المستعدة للتكوّن الروحي الجديد كلما طوى رمزا سوى حقائق التاريخ العربي. وانطلق في يقينه هذا من الفكرة القائلة، بأن "الأمم التي كان لها في نشر المدنية أيد بيضاء لا تضمحل، بل هي خالدة في مآثرها، وحيّة على الدوام في يقضاتها ووثباتها. والعرب لمن هذه الأمم الخالدة"[19].
كما جعل الريحاني من العروبة معيار الحقيقة التاريخية أيضا. فالفضل الأكبر في بروز سوريا و"عظمتها التاريخية تعود للفتح الإسلامي واستعراب شعوبها"[20]. بل نراه لا يجد في تاريخ سوريا شيئا يستحق التقدير والاعتزاز من جانب ذاتها والعالم سوى "الحقب العربية المجيدة"، التي كانت "الدولة العربية العزيزة الجانب، التي استمرت نحو تسعين سنة، وبالتدقيق إحدى وتسعين سنة وعشرة أشهر، هي الوحيدة الحقة، وما عداها مجرد تخبط بالدماء"[21]. وليس هذا الغلوّ العروبي، الذي يتجاهل قيمة العروبة في الكلّ الإسلامي اللاحق سوى الصيغة الوجدانية الحساسة في مساعيها استنهاض العروبة الخالصة من تحت رماد العثمانية المحترقة في أتون التحلل والفساد. لهذا نراه يضيف "سبب الجهل" إلى جملة الأسباب التي أوردها محمد علي كرد في بحثه عن شقاء سوريا في ظل السيطرة التركية. والمقصود بالجهل هنا هو جهل الأمة بذاتها. وأوصله ذلك في نهاية المطاف إلى إقرار ضرورة بلوغ الأمة إدراك وجودها المستقل من اجل تلافي مصيرها كدمية تتلاعب بها أيادي الأمم الأخرى. ولكي لا يجري استخدام الدول الأجنبية أيا كانت أغراضها، كما استخدمتها الدولة العثمانية. وطالب سوريا بالتخلص من إرث الماضي العثماني القائم على مبدأ "دفع الخراج وأكل الكرباج"[22]. لهذا نراه يقدّر عاليا كل إنجاز مهما بدا صغيرا في مساعي الاستقلال الذاتي العربي، واستعادة الأمة العربية لكيانها الخاص. بحيث نراه يبحث ويَجِدُ في الرمل النظيف لكثبان الجزيرة العربية عما يمكنه أن يبعث الرغبة والشوق اللذين يمكنها تعميق الانتماء الوجداني للعروبة. فعندما يتطرق إلى الحجاز آنذاك، فأنه يكتب قائلا "بأن الحجاز كتاب مفتوح، وأهم ما في هذا الكتاب اليوم بعد الحرمين هو الفصل الذي عنوانه الملك حسين والنهضة العربية"[23]. بل نراه يرفع شأن الملك حسين للدرجة التي يجعله نموذجا للملك الديمقراطي العربي. بل ووجد في شخصيته تجليا "للديمقراطية العربية" وللروحانية الشرقية المتأثرة بالتأدب الغربي. ونفس الشيء قاله عن الملك فيصل ملك العراق، باعتباره "اقرب ملوك العالم المعاصرين إلى الديمقراطية"، وفي ذلك يكمن سبب عدم ارتياح الإنجليز له[24]. ولكنه حالما قارن الملك حسين وابن سعود والإمام يحيى والملك فيصل، نراه يشدد على أن "رعية الملك حسين تطيعه وتخافه، ورعية ابن سعود تطيعه وتحبه، ورعية الإمام يحيى تطيعه دون حب ولا خوف، ورعية الملك فيصل لا تخافه ولا تطيعه ولا تكرهه"[25]. وهي تقييمات متضاربة، وجزئية لحد ما، ولكنها تصبّ في الاتجاه العام للعروبة الوجدانية. وهو السبب القائم وراء محاولات الريحاني إبراز الهوية القومية للملوك العرب والتأكيد على أنهم أولا وقبل كل شيء عرب. وليس مصادفة أن يمجد المتنبي بهذا الصدد ويصفه بشاعر العرب الأكبر، ويستشهد بأحد أبياته الشهيرة بهذا الصدد:
إنما الناس بالملوك وما
تفلح عرب ملوكها عجم
لقد بحث الريحاني في المتنبي عن "واسطة عقد الجوهر في العروبة". ووجد في "شعره الصافي رسالة العروبة" التي جسدها في كل أشعاره[26]. بحيث تمثل في شعره الروح العربي. لذا أصبح كل ما قاله عن كل شيء عربيا خالصا، كما في أشعاره التي أوردها الريحاني
أنا صخرة الوادي إذا زوحمت
وإذا نطقت فإنني الجوزاء
أو أن يقول:
تحقر عند همتي كل مطلب
ويقصر في عيني المدى المتطاول
أو كما في قوله:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
عقيدة الروح القومي العربي
وكما فعل في انتقاده اللاذع للمتنبي وإبراز "العقل العربي" للمتنبي في الشعر، كذلك فعل في موقفه من الملوك العرب في السياسة. فقد انتقد الريحاني بصورة غير مباشرة رذائلهم، ولكنه ابرز ما اسماه بالفضائل العربية الأصيلة. لهذا نراه يقف موقف المعارض الشديد للتغريب الظاهري عند الملوك، ويتعاطف مع ابن سعود. وسجل في إحدى ملاحظاته العميقة هذا التعاطف الوجداني عن صلاة الملك حسين في البادية، وكتب بهذا الصدد يقول، بأن صلاة العرب في البادية وهم يرددون "آمين" اهدنا الصراط المستقيم، لها بعدا وجوديا ومعنويا متطابقا يدرك حقيقته من يقوم في البادية. إذ تصح حقيقة كما تصح مجازا "في تلك الفيافي والمفازات التي تمحو كل أثر بحيث تجعل من الصراط المستقيم نعمة للحياة بالمعنى الحرفي للكلمة"[27]. كما يسجل المعنى الضيق للعروبة في تصورات وأحكام الملوك العرب. ويستنتج من ملاحظاته عنهم، بأن دعوة العرب بالنسبة لهم هي دعوة إسلامية غير قابلة للتجزئة دينيا وقوميا ووطنيا ولغة. وأورد معنى العروبة على لسان الملك عبد العزيز، الذي صورها بأنها "الدين والشرف".
لقد أدرك الريحاني البعد الظاهري في استيعابهم للفكرة القومية، ومن ثم تصوراتهم عن الأبعاد السياسية والثقافية للقومية. إلا انه وجد فيها مع ذلك الحد الضروري الأدنى آنذاك لتوحيد العرب. لذا نراه يقترح للجزيرة أن تتوحد على أساس جعل الملك حسين ملكا دينيا (خليفة) وابن سعود ملك المشرق ككل، والإمام يحيى ملك المغرب، مع بقاء جميع الإمارات ضمنها ولكل منها استقلالها وحكمها الذاتي في الدولة الموحدة. وهو مشروع لم يفقد جوهريته إلى الآن رغم التغيرات الكبرى التي حدثت وتراكمت في مجرى صيرورة الدول العربية الحديثة في الجزيرة.
إلا أن الهاجس الأعمق وراء التقييمات والمشاريع التي اقترحها الريحاني لتوحيد الجزيرة كان يكمن في اعتقاده بقيمة ما اسماه "بعصمة الروح القومية". لذا نراه يعلن على الملأ من أن روحه عربية سورية لبنانية. وهي روح تجنبّه الوقوع في الخطأ. انطلاقا من أنه "إذا كان هناك من عصمة للإنسان ففي هذه الروح التي تربط الإنسان بشعبه وقومه"[28]. وهو موقف وجداني خالص، له معناه السليم من حيث معاييره الصادقة في "ارتباط" الإنسان بشعبه وقومه بما يخدم الوحدة والازدهار والأبعاد الإنسانية فيهما. لقد أراد الريحاني من وراء إعلاء شأن "الروح القومية" وجعلها "قوة عاصمة" من الخطأ تقديم الصيغة الأيديولوجية الأولى للملوك العرب من اجل التمسك بها بوصفها "عروة وثقى" تقيهم من الوقوع في أخطاء التاريخ السالفة، تحت أي غلاف كانت إسلامية أو غيرها. لذا نراه يبرّز في "وثيقة الاستقلال" لعام 1916 التي سجلها للملك حسين ترتيبه لأخطاء السيطرة التركية على العالم العربي ابتداء "من مخالفة نصوص الشريعة وإهانة النبي(!) ومخالفة نصوصا واضحة في القرآن إلى الاحتجاج على إعدام الأحرار في سوريا"[29]. وجعل الريحاني من هذه "العصمة" المقدمة الضرورية واللازمة للدول الجديدة في بناء كيانها الذاتي اقتصاديا وسياسيا وثقافيا. من هنا إشاراته المتكررة إلى أن أهم ما في الاتفاقيات والمعاهدات التي أبرمت (والتي شاهدها ورعاها شخصيا) هي المواد التي تختص بادخار الأموال من اجل إقامة مشاريع اقتصادية مشتركة[30]. وأطلق بهذا الصدد أيضا تنبؤات عميقة. فهو أول من أشار في كتابه (قلب العراق) إلى ما سيلعبه النفط من دور في المنطقة (على مثال العراق آنذاك). وكتب بهذا الصدد يقول "وقد يصير النفط في العراق في المستقبل روحها الكيماوية العظمى، وروحها المركبة في بوتقة هذا الزمان البراق الخناق"[31]. كما حذر من مغبة تغير النظام السياسي مطالبا بضرورة دعم الأنظمة الملكية من اجل استقرار المنطقة وتطويرها. بل اقترح بأن لا يطالب أيا كان بالنظام الجمهوري وإسقاط الملكية إلا بعد عقود من الزمن. واقترح لذلك ألا تقل هذه المدة عن عشرين إلى ثلاثين سنة. كما طالب الدولة العربية الناشئة بالاهتمام الجدي بالثقافة والتربية والتعليم. واعتبر مساهمة الدولة في إحياء التراث العربي الحي ضرورة كبرى. على أن يجري ذلك بصورة مخططة ومدروسة. بل نراه يقف بالضد من الانهماك في ترجمة الدراسات والآداب الأوربية المعاصرة له، لأنه وجد في كثير منها مؤلفات رجعية أو مادية مبتذلة تختلف شديد الاختلاف عما هو مميز لبداية تطور أوربا وفكرها الإنساني. إذ وجد في هذه الترجمة تخريبا للاستقلال الفكري وترسيخا للاتكالية الفكرية على إبداع الآخرين. وذلك لاحتياج الفكر العربي المعاصر إلى التمرين على التدقيق والتماسك في التفكير، كما يقول الريحاني. وهي مكونات موجودة في التمدن الحديث، أما الشيء الوحيد الذي يحتاجه العرب من الغرب فهو الإنتاج العلمي[32].
وهو تصور مرتبط بالفكرة التي توصل إليها الريحاني عن أن "مشروع الوحدة العربية" يحتاج إلى "سيادة العقلية العربية الجديدة" التي تساوي عنده سيادة الفكرة القومية العربية. وهي فكرة ومشروع اقترحه الريحاني على أساس وجود وفاعلية "الحكومة المنظمة العادلة" و"المدارس الوطنية العامة" و"طرق المواصلات الحديثة"، بوصفها الأسس المادية التي تربط جغرافيا العالم العربي ي كل واحد.
لقد مثّل هذا التيار مساعي الملوك الجدد والرؤساء الجدد والسياسيين الجدد والرعاع الجدد. وبالقدر الذي أراد تحرير النفس من قيودها التقليدية، فأنه وضعها في قيود التجديد العارم، الذي لم يدرك مخاطر الفطام المبكر. أنه لم يدرك الحقيقة البسيطة القائلة، بأن أصوات الرجال القوية تفترض تمرسها بالبكاء الحار والصادق لمرحلة الطفولة. لهذا كان هذا التيار كالعاصفة في صحراء لا تنبت أشجار ولا تحفر انهارا. وأكثر ثمارها خيرا هو صنعها واحة للمسافرين، بوصفها الحلقة الرابطة بين الصحارى الثقافية التي نشأت تاريخيا بسبب الانقطاع الطويل والانفصال العميق عن مصادر الديمومة الفعلية الدولة العربية وثقافتها المتوحدة.
.......................
[1] أمين الريحاني: التطرف والإصلاح، ص49.
[2] أمين الريحاني: الريحانيات، ج2، ص7.
[3] أمين الريحاني: التطرف والإصلاح، ص50.
[4] المصدر السابق، ص58.
[5] أمين الريحاني: النكبات، ص10.
[6] أمي الريحاني: ملوك العرب، ج1، ص28.
[7] المصدر السابق، ج1، ص61.
[8] المصدر السابق، ج1، ص316.
[9] المصدر السابق، ج1، ص347.
[10] أمين الريحاني: النكبات، ص109.
[11] المصدر السابق، ص109.
[12] أمين الريحاني: الريحانيات، ج1، ص19.
[13] أمين الريحاني: أدب وفن، ص125.
[14] أمين الريحاني: ملوك العرب، ج1، ص6.
[15] أمين الريحاني: ملوك العرب، ج1، ص10.
[16] أمين الريحاني: الريحانيات، ج2، ص129.
[17] أمين الريحاني: ملوك العرب، ج1، ص288.
[18] المصدر السابق، ج، ص287.
[19] أمين الريحاني: أدب وفن، ص101.
[20] أمين الريحاني: النكبات، ص57.
[21] المصدر السابق، ص14.
[22] المصدر السابق، ص147.
[23] أمين الريحاني: ملوك العرب، ج1 ص12.
[24] المصدر السابق، ج2، ص321.
[25] المصدر السابق، ج2، ص433-439. إن ما يشير له الريحاني هنا هو الوجه الظاهري المتعلق بشخصية الملوك العرب آنذاك، أما الوجه الباطني لهذه العلاقة فانه يعكس تقاليد وطبيعة العرب في هذه المناطق من الملوك ومن أنفسها.
[26] أمين الريحاني: أدب وفن، ص116.
[27] أمين الريحاني ملوك العرب، ج2، ص47.
[28] أمين الريحاني: الريحانيات، ج2، ص16.
[29] أمين الريحاني: ملوك العرب، ج1، ص60.
[30] المصدر السابق، ج1، ص390.
[31] أمين الريحاني:الأعمال الكاملة، 1980، ط1، ج4، ص93.
[32] أمين الريحاني أدب وفن، ص147-148.