لم يشهد العالم العربي ظروفاً كالتي يمر فيها حالياً، ثمة تحديات ينبغي الإجابة عنها، قبل الانتقال إلى منعطفات جديدة في تاريخه السياسي المعاصر الحافل أصلاً بالكثير من علامات الاستفهام التي لم يعثر عن تفسير منطقي لها. فمنذ قرن وما زال العرب شعباً وقيادات ونخباً وأنظمة، تتحرك وتعمل في دائرة الرهانات على المتغيرات التي تجري حولها، على الرغم من التيقن أن تلك الوسائل لم تكن يوماً ناجحة أو يمكن البناء عليها للمستقبل.
راهن العرب إبان الحرب العالمية الأولى على الحلفاء لنيل الاستقلال عن الإمبراطورية العثمانية، فكانت النتيجة تقسيم أرضهم إلى جغرافية سياسية لا مثيل لها في تاريخ نشوء الكيانات والدول. تابعوا المسيرة عينها فخسروا فلسطين، وانقسموا فيما بينهم حول سياسات وأحلاف دولية، فخسروا أهم قضاياهم، ووصل بهم الأمر أن تنازعوا وتحاربوا على مسائل ثانوية وفرعية في حياة الشعوب والأمم. واليوم يغرق العرب مجتمعات وأحزاب ونخب بأحلام وردية أسموها ربيعاً، وهم في هذا ما زالوا يراهنون على المتغيرات نفسها التي ركنوا إليها سابقاً. فما العمل؟
التحدي الأول الذي يواجه العرب اليوم، أسئلة متصلة بالنظم السياسية التي ينبغي أن تبنى في كياناتهم المهترئة أصلاً، كيف يمكن الوصول إليها؟ هل عبر السبل الديمقراطية المتعارف عليها؟ أم ثمة عوائق تجبر القائمين فيها على اللجوء إلى عسكرة الثورات؟ وبالتالي المزيد من القمع والكبت والدم التي أظهرت الوقائع السالفة عدم جدواها حتى الآن. وماذا عن طبيعة الأنظمة وعقائدها وأيديولوجياتها المستساغة شعبياً، هل الحل بإعطاء فرص أخرى لمن وصل إلى السلطة والحكم لإثبات جدارته بقيادة مجتمعاته؟ أم ينبغي الإصغاء إلى الرأي الآخر الذي بات يتحدث بصوت عال عن تهميشه وعدم الاكتراث إليه في الوقت الذي يجاهر بأن من وصل إلى سدة الحكم بات مثل سلفه؛ بل يمارس السلطة عبر آليات أكثر استبداداً وشمولية وعنفاً، ويستند في رأيه إلى نموذج كل من ليبيا وتونس والعراق وغيرها، التي استعمل فيها درة تاج الديمقراطية «الاستفتاء» لممارسة الكبت الفكري والعقائدي. أسئلة كثيرة تطول بطول خصائص مجتمعاتنا العربية وتقاليدها في ممارسة السلطة.
التحدي الأخطر الذي يواجه العرب حالياً هو العودة إلى الجغرافيا السياسية للمنطقة، بعدما غابوا وغيبوا عن تاريخها. لقد انتهى النظام الإقليمي العربي الذي عانى الكثير من عوامل التصدع والضعف والوهن، وهو الآن في حالة غيبوبة سياسية واقتصادية وأمنية وعسكرية تامة، في ظل سطوع نجم قوى إقليمية صاعدة، صعود يبدو متسارعاً يصعب التنبؤ بمداه وتداعياته وآثاره في ظل الضمور المريع للإمكانات العربية. كيف بمكن الخروج من هذا النفق في الوقت الذي لا يزال الكثير من العرب منقسمون حول الرؤية الاستراتيجية لتحالفاتهم الإقليمية.
التحدي الآخر الذي يبدو أكثر إلحاحاً، هو الولوج في إعادة هيكلة الاقتصاد وعمليات التنمية في مختلف مجالاتها وبخاصة المجتمعية منها. فالعرب في العقد الثالث من الألفية الثالثة ما زالوا يتصدرون قوائم الأمية والبطالة والفقر، وتدني النمو والدخل، في المقابل هم الأكثر مديونية والأكثر عجزاً في ميزانيات التبادل البيني والخارجي، باختصار باتوا أمة تبتعد عن التي أخرجت للناس. لكن في مقابل ذلك، يبدو أنهم الأمة الأكثر انقساماً وتسارعا في انقسام الدول وتزايد أعدادها.
بعض العرب منقسمون اليوم حول سياسات دولية منتعشة هذه الأيام بين أقطاب دولية كبرى، ينتظرون تبدل الإدارات والسياسات لحسم مواقفهم تجاه الكثير من الملفات البينية والداخلية، في الوقت الذي يعرفون جيداً أنهم لم ولن يكونوا إلا وقوداً لتلك السياسات ونتائج لها، ومن الصعب أن يكونوا فاعلين أو مؤثرين فيها. وهنا التحدي الأبرز الذي يواجه العرب نظماً ونخباً ومجتمعات، وهو تحدٍ دائم الظهور، وحاضر في مختلف الاستحقاقات كبرت أم صغرت في مسار معالجاتهم لقضاياهم.
تلك هي حال الأمة في عقد يبدو الأصعب في تاريخها، فهل سيكون العرب في العقد الثالث بمستوى التحديات التي يواجهونها؟ أم سيكونون مجرد أرقام صعبة فيما بينهم، وسهلة على غيرهم في تفكيك الألغاز والطلاسم التي أحاطوا أنفسهم بها.