في إحدى الندوات الفكرية التي حضرناها تبيّن لنا أن هناك من يخلط بين العروبة كهوية والقومية العربية كنهج سياسي. وهناك من يتكلّم عن القومية العربية وكأنها فكر جامد لا يواكب التطوّرات بينما هو نابع من وجدان أبناء الأمة. وهناك من يعتبر سياسات دول وحكّام رفعوا شعارات قومية تجسيدا للقومية العربية. فإذا كانت سياسات الحكام خاطئة فإذا القومية العربية “خاطئة”، أو “مثالية”، أو “غير واقعية”.
نعتقد أن الالتباس ربما من صنع بعض القوميين العرب أنفسهم الذين لم يحسنوا تفسير مفهوم القومية العربية أو التعبير عنها. كما أن سلوك وسياسات بعض الحكام الذين رفعوا الشعار القومي العربي كانت مسيئة للشعوب وللفكرة القومية فتمّ الحكم على الفكرة والنهج السياسي بحجة الحكم على الحاكم. كما أن الالتباس يعود في الأساس إلى أعداء العروبة من عرب وغير عرب. فبغض النظر عن المسبّبين في الالتباس وأسباب الإخفاقات في بعض السياسات عند بعض الحكّام فإنه من واجبنا توضيح وتعريف العروبة والقومية العربية والتمييز عن السياسات التي انتهجت تحت شعار القومية العربية أو العروبة.
العروبة في الأساس هوية وليست برنامجا سياسيا أو نهجا سياسيا وإن استلزم الدفاع عن الهوية العمل السياسي فشكّل ما نعرفه بالقومية العربية. وهذا العمل كان تاريخيا يسعى إلى تحقيق الاستقلال الوطني وتحرير الأرض من المحتلّ الغربي والصهيوني، وإقفال القواعد العسكرية الأجنبية، ووحدة الأمة التي تجزّأت بفعل التاريخ الاستعماري وارتباط النخب الحاكمة بسياسات الاستعمار، وإقامة مجتمع الكفاية والعدل، وحرّية المجتمع التي تكمن في التحرّر من الاستبداد السياسي والاستغلال الاقتصادي. كما أنها تنتهج سياسات للدفاع عن تراثها ومبادئها تجاه الغزو الفكري والثقافي المدمرّ لمجتمعاتنا ومدمّر ايضا للمجتمعات الغربية التي تصدّرها لنا. لذلك، فإن القومية العربية حركة تحرّرية أولا ووحدوية ثانيا، ومتطلّعة إلى نهضة الأمة ثالثا.
هذا الطموح لإنجاز أهداف سياسية واضحة تحافظ على الهوية هو ردّة فعل طبيعية على كل المحاولات لطمس الهوية العربية. تاريخيا كانت خلال السنوات الأخيرة للسلطنة العثمانية التي حاولت تتريك الولايات العربية، وفيما بعد الاستعمار الأوروبي الذي استكمل احتلال معظم الأقطار العربية بعد الحرب العالمية الأولى. وهذه المحاولات لطمس الهوية تأتي عبر عدّة محاور. المحور الأول هو التهجّم على الهوية العربية ووصفها بالتعصّب العرقي أو القومي والمتعارف عليه بالمصطلح المستعرب (بفتح الراء) ب “الشوفينية”. والمحور الثاني هو التحقير لهذه الهوية عبر استعمال مصطلحات ك “عربان” بما يحمل من نظرة دونية لسكّان الجزيرة العربية. المحور الثالث هو عبر نفي المساهمة العربية في الحضارة الإنسانية ونسب القسط الأكبر لإنجازات الحضارة الإسلامية إلى الحضارات المجاورة غير العربية كالفرس والهند والصين ومصر الفرعونية إلخ. وأخيرا وليس آخرا، الهجوم على العروبة عبر نفي وجودها. فالحديث الغربي عن الأقطار العربية مبني على قاعدة أن الشعوب القاطنة فيها هي تجمّعات طائفية ومذهبية وعرقية وليست عربية الهوية والهوى. فالعراق مكوّن من سنّة وشيعة وأكراد. فللكرد قومية يُعترف بها بينما تُنفى عروبة السنّة والشيعة وحتى عروبة المكوّنات الأخرى للمجتمع العراقي والمجتمعات العربية! وكذلك الأمر في بلاد الشام وذلك لتبرير وجود الكيان الصهيوني المبني على قاعدة عنصرية ودينية. وبعض المثقفين العرب المتغرّبين يعتبرون أن المشكلة الأساسية في الحركة القومية العربية هو التنكّر للأقلّيات العرقية متناسين عن قصد أو غير قصد أن الهجوم القائم هو على الأكثرية الساحقة من مكوّنات الأمة وتجاهل “الأكثرية” (بالإذن من المفكّر الراحل الأستاذ منح الصلح ومقولته المعروفة). طبعا هذا الادعاء غير صحيح لأن مفهومنا للعروبة لا علاقة عما يتكلّمون عنه. وسنقارب الموضوع في فقرة لاحقة ولكن كان لا بد لنا من الاستطراد بعض الشيء في عرضنا للهجوم على العروبة.
إذا أردنا التدقيق في مصطلح الهوية نجد أنه مصطلح عربي ولكن غير اصيل. فهو مصطلح صناعي أي مركّب كما يؤكّده الدكتور أنطوان سيف. فهو يتكوّن من ضمير “هو” تسبقه “أل” التعريف ومن اللاحقة المتمثلّة بحرف “الياء” المتشدّد إضافة إلى التأنيث. كما يعتبر بعض الباحثين أن المصطلح ليس عربيا بالأصل بل هو اشتقاق قام به المترجمون القدامى من أل “هو” أي حرف ربط، الذي يدلّ على ارتباط المحمول بالموضوع في جوهره كالقول إن فلان هو إنسان. وفي الغرب فجذر المصطلح يدلّ على التساوي (identity)، أي الشيء المتطابق في ذاته.
أما مكوّنات الهوية العربية فهي متعدّدة وتحمل في طيّاتها التراكم الحضاري والثقافي عبر القرون نتيجة للتفاعل بين الشعوب إثر الهجرة أو الفتوحات. لكن ما يميّز الهوية العربية ويشكّل نقطة ارتكاز جوهرية إن لم تكن الأهم هو اللغة أو اللسان. فاللسان العربي هو الذي يوحي بالهوية ويعبّر عنها وعن العقل العربي كما أبرزته عدّة دراسات في هذا الموضع. لذلك نجد أن الحفاظ على اللسان العربي من الحفاظ على الهوية. وهناك دراسات وأبحاث عديدة توضح علاقة اللسان بالهوية ليس عند العرب ولكن عند مجمع البشر ولن نذكرها لضيق المساحة. يكفي التأكيد على العلاقة بين الهوية العربية وأهمية ودور اللسان العربي في تجسيدها والتعبير عنها.
وهنا لا بدّ لنا من مقاربة إضافية حول تعريف مصطلح “عرب”. جاء في “لسان العرب” لابن منظور أن كلمة “عرب” تعني الذي يعرف نسبه، وعكسه الأعجمي الذي لا يعرف نسبه. ومن مشتقّات الكلمة “إعراب” و”تعريب” بمعنى التفكيك التحليلي والتمييز. فالعربي يصبح الانسان الذي يعرف نسبه ويستطيع التفكيك والتحليل والتمييز، أي الانسان العالم (بكسر اللام). بالمقابل هناك الإعرابي الذي لا يجيد معرفة نسبه بالكامل وقدرته على التفكيك والتمييز محدودة. فإضافة حرف الألف على مصطلح “عرب” وكسره لجعله متعدّيا يعطى معناً آخرا. هذا نموذج عن بلاغة اللسان العربي.
لذلك قضية العرق غير موجودة عند العرب كما يزعم البعض وإن اعتبروا أن النسب مبني على رابطة الدم. فإذا كنّا لا ننكر أن في مرحلة تاريخية سابقة كانت رابطة الدم بداية تحديد النسب فإن التطوّرات السكّانية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ساهمت في تطوير مكوّنات الرابطة وجعل اللسان والتاريخ والمصير المشترك أساس الانتماء العربي. بالمقابل فإن قضية العرق كمكوّن أساسي للرابطة موروث غربي. فالغرب كان يُعرّف العرب في القرون الوسطى بالسراسنة. وكلمة “سراسنة” مشتقة من اليونانية “سراكونوس″ تعني المنحدرين من خارج “سارة”. فالنسب الأسطوري للعرب هو هاجر وابنها إسماعيل. أي الغرب هو الذي أوجد مسألة “الآخر” في تعريفه عن العرب أنهم ليسوا منحدرين من الزواج الشرعي بين سيدّنا إبراهيم وزوجه سارة بل من الجارية هاجر! ومشكلة الهويات الفرعية أوجدها المستعمر الأوروبي واعتبرت مدخلا للحداثة! وفقا للباحث سري مقدسي. أما الدكتور جورج قرم فيعتبر أن مشكلة الهوية نشأت في الغرب لتبرير المشروع الاستعماري عبر اختراع مفهوم “الآخر” كموضوع يُدرس كالحشرات والحيوانات فأوجد علم الأنثروبولوجيا لذلك الغرض. والنظرة للآخر نظرة دونية بطبيعة الحال وهي تختلف كلّيا عن نظرة التنوّع والاختلاف الموجودة في الأمة وفي الأمم الأخرى والذي يفرض الاحترام كما جاء في آية من سورة “الحجرات”: “وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا” (13).
فإذا كانت العروبة هوية، وهوية جامعة، وإذا كان العرب لا ينتمون إلى عرق محدّد بل إلى نسب ومعرفة مما يمكّن الجمع بين المكوّنات، وإذا كان البعد العرقي اختراع غربي، وإذا كانت اللغة مكوّن أساسي للهوية، وإذا كانت المكوّنات الأخرى للهوية نتيجة تفاعل مع الحضارات المجاورة، وإذا كانت مكوّنات المجتمعات العربية تؤمن بالتاريخ والمصير المشترك، فمن هو العروبي في القرن الحادي والعشرين؟ العروبي بالنسبة لنا ومن يشاطرنا في المقاربة، هو من ينطق باللسان العربي ويؤمن بالمشروع النهضوي العربي. والمشروع النهضوي العربي مشروع يسعى إلى نهضة الأمة عبر تحقيق أهداف الاستقلال الوطني والوحدة وإقامة مجتمع الكفاية والعدل وإيجاد منظومة معرفية عربية تسمح للعروبيين مقاربة أوضاعهم في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة وفقا لمناهج وأدوات تحليل نابعة من واقعهم وغير مستوردة. لذلك تصبح طبيعة العروبة طبيعة جامعة وغير إقصائية لأنها مبنية على أسس موضوعية ومتفاعلة مع التاريخ ونابعة من الوجدان.
وإذا سئلنا عن علاقة العروبة بالإسلام فالإجابة سهلة. العروبة هوية والإسلام روح لها بما أن أكثرية العرب من المسلمين. كما أن الإسلام بشكل عام والقرآن بشكل خاص لا يُفهم إلاّ بعد اتقان اللسان العربي. فعبر العروبة يُفهم الإسلام وعبر الإسلام يتم اكتشاف العروبة. بالنسبة لنا، ووفقا لقراءتنا للقرآن الكريم، فإن الإسلام بمعناه الواسع هو الايمان بالله، وبملائكة، وكتبه، ورسله، دون التفريق بينهم، كما جاء في صورة البقرة (285). لذلك فإن اليهودية والنصرانية فرق من الإسلام حيث الله هو واحد وهو على كل شيء قدير، وإن اختلفت الطقوس. وهذا التوضيح يساعد في فهم العروبة كهوية جامعة لكل مكوّنات الأمة وإن حاول البعض وأعداء الأمة من إيجاد الشرخ عبر تفسيرات خاطئة في رأينا.
ولا بد لنا من أن نتوقف على ما أتى به مؤسس حزب البعث الأستاذ ميشال عفلق رحمه الله، في مقاربة له عنوانها “ذكرى الرسول العربي” الذي يوضح فيها العلاقة بين العروبة والإسلام. نقتبس بعض الجمل التي تفيض عما أتينا به أعلاه. يقول الأستاذ عفلق إن حركة الإسلام “صورة صادقة ورمز كامل خالد لطبيعة النفس العربية وممكناتها الغنية واتجاهها الأصيل فيصبح لذلك اعتبارها ممكنة التجدّد دوما في روحها لا في شكلها وحروفها. فالإسلام هو الهزّة الحيوية التي تحرّك كامن القوى في الأمة العربية فتجيّش بالحياة الحارة، جارفة سدود وقيود الاصطلاح، مرجعة اتصالها مرّة جديدة بمعاني الكون العميقة، ويأخذها العجب والحماسة فتنشء تعبّر عن اعجابها وحماستها بألفاظ جديدة وأعمال مجيدة، ولا تعود من نشوتها قادرة على التزام حدودها الذاتية، فتفيض على الأمم الأخرى فكرا وعملا، وتبلغ هكذا الشمول. فالعرب عرفوا بواسطة هذه التجربة الأخلاقية العصيّة كيف يتمرّدون على واقعهم وينقسمون على أنفسهم، في سبيل تجاوزها إلى مرحلة يحققون بها وحدة عليا، وبلوا فيها نفوسهم ليستكشفوا ممكناتها ويعزّزوا فضائها”. ثم يضيف أن “هذه التجربة ليست حادثا تاريخيا يُذكر للعبرة والفخر، بل هي استعداد دائم في الأمة العربية – إذا فهم الإسلام على حقيقته-لكي تهبّ في كل وقت تسيطر فيها المادة على الروح، والمظهر على الجوهر، فتنقسم على نفسها لتصل إلى الوحدة العليا والانسجام السليم، وهي تجربة لتقوية أخلاقها كلما لانت وتعميق نفوسها كلّما طفت على السطح، تتكرّر في ملحمة الإسلام البطولية بكل فصولها من تبشير واضطهاد وهجرة وحرب، ونصر وفشل، إلى أن تختم بالظفر الهنائي للحق والإيمان”. ليت الذين يعتبرون أنفسهم عروبيين ويتساءلون عن علاقة العروبة بالإسلام قراءة “ذكرى الرسول العربي”.
وللعروبة مسارات كانت القومية العربية إحدى محطّاتها المنيرة. فما هي القومية العربية؟ إذا لجأت إلى المحرّك البحثي على الشبكة العنكبوتية تجد سيلا من التعريفات والاجتهادات يختلط فيها الحابل بالنابل من تعريفات غير دقيقة وسطحية، ما يدّل إما عن جهل أو عن تجهيل متعمّد. وقد تكمن هنا مسؤوليتنا كعروبيين ملتزمين في عدم التصدّي لذلك التجهيل. لسنا في إطار سرد هذه التعريفات لضيق المساحة أولا ولأن معظمها لا يستحق التوقّف عندها. نكتفي بالتوضيح أن القومية العربية محطة أساسية في مسارات العروبة كما أوضحها المؤرّخ الدكتور يوسف شويري “لأن مصطلح “المسارات” يعطي تصوّرا أرحب لسيرورة العروبة في مراحلها المختلفة، بما فيها القومية العربية ما بين 1940 و1970″.
ليس هدفنا هنا سرد جذور وتاريخ القومية العربية. فهي كما ذكرنا محطة في مسارات العروبة. وهذه المحطة هي التعبير عن نهج سياسي كان وما زال جوهره حركة تحرّرية من الاستعمار الغربي وردّة فعل على محاولات طمس الهوية سواء جاءت من النخب العثمانية الحاكمة في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أو من المستعمر الأوروبي. الحركة التحرّرية التي تجسّدها القومية العربية كما عرّفناها أعلاه حملتها نخب مدنية وعسكرية إلى السلطة. تحالف قوى الاستعمار القديم والصهيونية والرجعية العربية في الربع الثالث من القرن العشرين، واليوم من الامبريالية والعولمة النيوليبرالية والدول العربية الداعمة للقوى المتشدّدة المتعصّبة الظلامية، استطاعت إيقاف دفع الحركة التحرّرية القومية واستبدال الخطاب الظلامي الذي يغذّي الغرائز والعصبيات المذهبية تحت صورة مشوّهة للإسلام بالخطاب التحرّري القومي الذي كان سائدا آنذاك. هذا النجاح الذي حققه ذلك التحالف استفاد من أخطاء الحكّام، والنخب التي كانت تدور في فلكهم، الذين اعتبروا أنفسهم ممثلين للحركة التحررية. لا نستطيع في إطار هذا التقديم مقاربة الأخطاء لضيق المساحة ولكن نكتفي بإن الجنوح إلى الصراع على السلطة، والابتعاد عن الأهداف القومية في تحقيق الوحدة وتحرير فلسطين، واتباع النهج الإقصائي لكل من يخالف رأي الفئة الحاكمة، أوجد الانقسام المجتمعي الذي سمح للتحالف الدولي والإقليمي المعادي للأمة للتسلّل وضرب الحركة التحرّرية. ونضيف طبعا أن موازين القوة الدولية والإقليمية لم تكن لصالح الحركة التحرّرية العربية. فكان ما وصلنا إليه دون القضاء على الحركة التحرّرية كلّيا التي تشهد مجدّدا حراكا متناميا يوما بعد يوم، خاصة بعد اتضاح النتائج الكارثية للخطاب الفتنوي التدميري.
حركة الانحدار بدأت مع رحيل القائد الخالد الذكر جمال عبد الناصر. فالثورة المضادة استفادت من إمكانيات مالية ضخمة أوجدتها الطفرة النفطية وارتفاع أسعار النفط مما سمح لترويج خطاب إقصائي ممنهج عبر السيطرة على المساجد في مواجهة “الإلحاد” الذي شكلّته الحركة التحرّرية القومية. وصلت حملة الردّة ذروتها في تبرير احتلال العراق وتدميره وفيما بعد تدمير ليبيا وسورية واليمن والبحرين وتهديد مصر ولبنان والجزائر.
ضخامة التدمير في هذه الأقطار والخطاب السياسي الإقصائي الذي نظّر له أوجدت ردّة فعل على عبثية الخطاب الإقصائي الديني والمشاريع الظلامية التي يحمله أرباب وروّاد التعصّب والغلو والتوحّش، إضافة لارتباطه بأجندات الاستخبارات الغربية والصهيونية. نشهد الآن نوعا من الصحوة تطالب بالعودة إلى العروبة التي تجمع ولا تقصي أحد وإلى مشروعها النهضوي العربي.
فالعروبة تتمحور حول ذلك المشروع، كما ذكرنا أعلاه بشكل مختصر، بأبعاده الست أي الوحدة في مواجهة التجزئة، والمشاركة الشعبية في مواجهة الاستبداد، والاستقلال الوطني في مواجهة التبعية، والتنمية في مواجهة التخلّف، والعدالة الاجتماعية في مواجهة الفجوات بين مكوّنات المجتمع، والتجدّد الحضاري في مواجهة التغريب والأسر للماضي. ويعود لمركز دراسات الوحدة العربية مسؤولية نشر ذلك المشروع عام 2010 كما يعود للمؤتمر القومي العربي وأعضائه مهمة ترويجه في مختلف الأوساط والمنابر. هذا وقد ساهم في صوغ المشروع مفكّرون وباحثون وناشطون ينتمون لمختلف التيّارات السياسية منها التيّار القومي العربي وسلالاته التقليدية (من ناصريين وبعثيين وحركيين قوميين عرب) ومن التيّارات الإسلامية المتنوّعة، ومن اليساريين، ومن الليبراليين.
لذلك العروبي اليوم يحمل هم جميع أبناء الأمة ويعتبر نفسه مسؤولا عن جميع مكوّنات الأمة. وحرص العروبي على التنوّع القائم بين مكوّنات الأمة تميّزه عن سائر المشاريع التي تنادي بأحادية العرق أو الطائفة أو المذهب أو المنبت السياسي. وبالتالي لا يمكن لثقافة العروبة إلاّ أن تكون ثقافة حوارية بعيدة عن ثقافة الإقصاء كما يقول الأستاذ معن بشور. لذلك لا مكان لأي نوع من التمييز ناهيك عن العنصرية. على تلك القاعدة، نعتقد أن مسألة الأقلّيات القومية الموجودة في الوطن العربي تُحلّ على قاعدة الاعتراف بحقوقها القومية وعلى قاعدة التكامل مع الأكثرية العربية بما يصون الأمن القومي لكل المكوّنات العربية وغير العربية وخاصة في مواجهة أطماع الامبريالية والصهيونية أو أي جهة أخرى. فلقوميات الفرعية كالقومية السورية والقومية اللبنانية على سبيل المثال لا تتناقض مع العروبة بل تتكامل معها. لذلك كان المؤتمر القومي العربي وما زال الإطار المناسب لجمع هؤلاء العروبيين من كافة المكوّنات للتفاعل والتفاهم. فالتنوّع هو سمة ثقافة المؤتمر القومي العربي الذي يعكس في رأينا مزاج الأمة.
أطماع الرئيس التركي الواضحة والمعلنة في أجزاء من سورية والعراق ستشكّل حافزا إضافيا لوحدة الصف بين بلاد الشام وبلاد الرافدين ومدعومة من دول وادي النيل والجزيرة العربية والمغرب العربي. فإذا تحقّقت أطماع الرئيس التركي الذي على ما يبدو لا يكترث للعرب فإن مصير كل قطر عربي يصبح قاب قوسين. كذلك الأمر لبعض التصريحات غير المسؤولة الصادرة من طهران، والتي رفضناها وما زلنا نرفضها، التي تحاول إيحاء أن بغداد عاصمة أخرى لإيران في العراق. فهي تدلّ على ذهنية لا تريد التفاعل الإيجابي مع العربي بشكل عام والعراقي العربي بشكل خاص ولا تكترث للشعور عند مجمل العروبيين. غير أننا كنّا وما زلنا ننادي لتشكيل الكتلة التاريخية بين العرب والأتراك والإيرانيين على قاعدة الندّية والتكامل والاحترام المتبادل، وليس على قاعدة القوّامة والتنافس.
الحل لحال التجزئة التي نعيش والحروب التي تدمّرنا هو في وحدة الأمة العربية وإقامة دولة الوحدة. ففي الوحدة قوة وصون حقوق جميع مكوّنات الأمة وصنع الاستقرار وإقامة مجتمع الكفاية والعدل وتكافؤ الفرص. فهل من يعتبر؟.