قلما يتم الحديث عالمياً عن إرهاب الدولة، الذي يعد أخطر أنواع الإرهاب. تتغاضى الدول عن التطرق إلى هذا الإرهاب لأسباب سياسية مريبة، بالرغم من أن خطورته تفوق كثيراً ارهاب الأفراد ـ الجماعة، إلا أن المعايير المزدوجة لدى الغرب تجعل الدول الكبرى تمنع التعريج إلى تعريف إرهاب الدولة من قبل المنظمات الدولية. وقد رفضت الولايات المتحدة الأميركية ودول الغرب تعريف إرهاب الدولة وذكره من ضمن أنواع الإرهاب الذي تطرق إليه مجلس الأمن والمؤتمرات الدولية مع أن الدول النامية طالبت وتطالب بتعريفه بشكل مستمر، لكن الرفض الأميركي كان سباقاً دائماً، لأمور تتعلق بالسياسة الأميركية والاستمرار في استراتيجياتها الإرهابية من خلال سياستها الخارجية وحروبها وغزواتها.
يشكل إرهاب الدولة جزءاً لا يتجزأ من الحروب التي تشنها الإدارة الأميركية وحلفاؤها على الشعوب، خاصةً في منطقة الشرق الأوسط. وتعد أميركا أحد أكثر الدول إرهاباً في العالم، لا بل إنها تتفرد في القرن الواحد والعشرين إلى جانب حلفائها وعلى رأسهم "إسرائيل" والسعودية بإرهاب الدولة. لكن المشكلة أن الحديث عندما يتعلق بالإرهاب يكون من خلال الإشارة إلى أعمال العنف والقتل والتسبب بالجروح البليغة لأسباب سياسية أو دينية أو عرقية أو من أجل إخضاع حكومة ما لسياسات محددة، لكن قل من تحدث عن ارهاب الدولة الذي هو ذلك الفعل الذي يُرتكب لتحقيق أهداف سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية ولكن ليس بوسائل عسكرية وعنفية إنما من خلال الحصار الاقتصادي والعقوبات التي تخضع الكثير من دول العالم لسياسات محددة.
الإرهاب الاقتصادي:
هذه الحرب الاقتصادية قد يناقش البعض في مدى إمكانية وصفها بالإرهاب، لكننا إذا تحدثنا عن نتائجها فإننا سنصل إلى حتمية كونها جزءاً من إرهاب الدولة، لأن الهدف منها لا يقل عن هدف الأعمال العنفية التي تكون لإخضاع الدولة، وبالتالي فإن الحصار الاقتصادي لا يؤثر على الدولة ـ الحكومة وحدها، بل إنه يطال الشعب القاطن في هذه الدولة، والذي يمكن أن يصل إلى حد الجوع والفقر المدقع، كما حصل من خلال حصار السعودية للشعب اليمني خلال العدوان الذي تشنه منذ 5 سنوات، وكما تتعامل الولايات المتحدة الأميركية مع سوريا اليوم حيث تم إحراق حقول القمح والسيطرة على الابار النفطية السورية وفرض حصار مدقع عليها من خلال ما يعرف حالياً بقانون قيصر، وكما يحصل ايضاً مع ايران التي لا زالت ترزح تحت حصار اقتصادي منذ 40 سنة لتزداد حدته من قبل الإدارة الأميركية في السنوات الأخيرة، ولولا أن الدولة الإيرانية لديها قدرات وخطط دائمة للخروج من الحصار لكان الشعب الإيراني اليوم يرزح تحت المجاعة. كما تتمثل هذه الحرب من خلال العقوبات على فنزويلا التي بدأت تفتقد للوقود فيما هي تملك أهم احتياطات نفطية في العالم، وكذلك على دول أخرى في العالم، حتى أن حلفاء واشنطن لا يسلمون من هذه العقوبات، كما أنها دائماً ما تطالب الدول بالتعويض عليها كما يفعل ترامب بالنسبة لحلف شمال الأطلسي، أو في علاقته مع دول الخليج وفي مقدمتهم السعودية على الرغم من خضوعها لهيمنة واشنطن وقبولها بالتطبيع مع "اسرائيل".
لقد تحولت العقوبات الاقتصادية إلى الاستراتيجية الأكثر استخداماً في سياسة الهيمنة الأميركية. أصبحت البديل عن الحروب العسكرية، لمحاولة تغيير القرارات الإستراتيجية للدول والجهات الفاعلة التي تهدد مصالحها، ولفرض تغيرات جيوسياسية تصب في استراتيجية الهيمنة. وقد ذهبت الإدارة الأمريكية برئاسة دونالد ترامب إلى عملية ضخ كبرى للعقوبات كإحدى أدوات سياساتها الاقتصادية. وتعد سياستها هذه من أخطر أنواع السياسات التي تندرج في إطار السياسات الدولية، من خلال ممارسة الضغط على الدول المستهدفة بالعقوبات بهدف تغيير مواقفها في الاتجاه الذي تريده.
وإذا تطرقنا للمخالفات القانونية التي تقوم بها الولايات المتحدة الأميركية للمواثيق الدولية، سنرى أنها لا تقل مخالفةً للشرعية الدولية التي ترفض استخدام القوة في العلاقات الدولية كما ورد في الفقرة الرابعة من المادة الثانية في ميثاق الأمم المتحدة، وبالتالي فإن الحديث عن الانتهاكات الأميركية للقانون الدولي، ينطلق من مسلمة قانونية أساسية، هي أن هذه العقوبات لا يحق لدولة ما أن تفرضها من خارج سياق الأمم المتحدة، سواء فرضت ضد دول أو كيانات إلا إذا كانت لا تتناقض مع ما تنص عليه مبادئ الأمم المتحدة أو قراراتها الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، أو مجلس الأمن.
إرهاب قيصر:
ويمكننا الإشارة إلى أن أحد أكثر النماذج خطورة للإرهاب الاقتصادي اليوم هو قانون قيصر الذي يدخل حيّز التنفيذ في الـ17 من الشهر الجاري، ليكمل الحرب على سوريا عبر العقوبات، التي تهدف إلى خنق سوريا، وقد بدأ ذلك من خلال الارتفاع الجنوني لسعر الصرف نتيجة العجز الشديد الحاصل في الميزانية السورية. والمشكلة الكبرى هي أن هذا القانون لا يمس سوريا فقط بل يمس أيضاً كل الدول التي يمكن أن تتعامل معها بشكل أو بآخر ما سيؤدي إلى خنق سوريا وغيرها من الدول مثل لبنان الذي كان من المفترض أن يعيد ترتيب علاقاته مع سوريا للتخفيف من حدة الأزمة الاقتصادية فيه.
هذا القانون الجائر هو اسمٌ للعديد من مشاريع القوانين المقترحة من الكونغرس الأمريكي موجّهة ضد الحكومة السورية. ويستهدف القانون أيضًا الأفراد والشركات الذين يقدمون التمويل أو المساعدة للدولة السورية؛ كما يستهدفُ عددًا من الصناعات السورية بما في ذلك تلك المُتعلِّقة بالبنية التحتية والصيانة العسكرية وإنتاج الطاقة عدا عن استهدافهِ للكثير من الكيانات التي تقدّم الدعم لسوريا.
ومن المفاعيل الأولى لهذا القرار حاجة سوريا للقمح بكميات كبيرة لا يمكن الحصول عليها بسهولة، ما سيؤثر على الشعب والحكومة معاً، خاصةً أن كمّية القمح التي كانت تحصل عليها سوريا عبر الشراء من الفلاحين في منطقة شرقي الفرات، لم تعد الحكومة قادرة الآن على تحصيلها بسبب منع الإدارة الذاتية تسليم القمح للحكومة السورية، وبعد حرق حقول القمح، ما يعني أن الحكومة أصبحت بحاجة إلى استيراد مليون طن قمح زيادة، وهي الكمية التي كانت تأتي من شرقي الفرات. ومن النماذج ايضا ما أوصَت به لجنة الدراسات في الحزب الجمهوري بالكونغرس الأميركي، في غمرة اشتداد الأزمة المالية الاقتصادية النقدية المعيشية في لبنان من عقوبات يمكن أن تستهدف شخصيات في المقاومة أو مقربة منها أو من حلفائها.
وفق كل ذلك، فإن ما تقوم به واشنطن في تعاملها مع الدول هو إرهاب اقتصادي يخرق السيادة الوطنية التي تعد السلطة العليا للدولة في إدارة شؤونها في الداخل وفي علاقاتها الخارجية.