تنتشر أحيانا على بعض صفحات التواصل "مقالات" ومنشورات تتحدث عن العقد الأول من هذا القرن، وتصدر عليها أحكاما تبدو جاهزة، وبطابع قراءة الأثر الرجعي، فتوصف المرحلة بأنها كانت تسير نحو "لبرلة الاقتصاد السوري" و"تنفيذ تعليمات البنك الدولي" وتصفها أيضا بالاقتصاد "الربيعي". كلمات وعناوين لا بد من البحث فيها، ليس بذاتها التي تبدو علمية وواقعية، ولكن في الواقع السوري، لنقتفي أثرها خلال السنوات العشر المقصودة، لنتبين حقيقة ما كان يجري، وبالتالي تبيان هل كانت هذه التوصيفات في مكانها، أن أنها تدس في دسم الحديث عن آلام المواطنين السوريين، ومعاناتهم اليوم.
بدأ الاقتصاد السوري عام ٢٠٠٠ بمعدل نمو دون الواحد بالمئة، ليقفز النمو في العام التالي إلى ٣،٨% وفي سنة ٢٠٠٢ بلغ ٤% ليحافظ بعدها على معدل نمو تراوح بين ٤ و ٦،٥% حتى العام ٢٠١٠ ليتضاعف إجمالي الناتج المحلي إلى ١٠٠ مليار دولار. هذه المعدلات من النمو، وخلال تلك السنوات كانت ضمن الأفضل عالميا، حيث فاقت معدل نمو الناتج العالمي المتراوح بين ٣-٤%
وقليلة هي الدول التي كانت تسير في هذا الركب، كالصين وروسيا والإمارات وسوريا.
بالنسبة للدين العام في سوريا، فكان قد بلغ رقم ٥،٥ مليار دولار سنة ٢٠٠٠ في حين تمت تسوية وسداد مجمل هذا الدين خلال السنوات الأولى من العقد، ليصير الدين صفريا. بمقارنة ذلك أيضا مع الدول آنفة الذكر، نجد أن روسيا سددت كل ديونها وبمواعيد سابقة للاستحقاق، في حين أن الإمارات دخلت العقد بدين صفري، لتخرج منه سنة ٢٠١٠ بديون تجاوزت ١٣٠ مليار دولار.
قفز أيضا متوسط الدخل في سوريا من حدود ٥٠٠٠ ليرة بداية العقد، إلى ما يقارب ١٥٠٠٠ ليرة سورية في نهايته. بينما تراجع سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأمريكي، من ما يزيد عن ٥٣ سنة ٢٠٠٠ إلى ما ينقص عن ٤٧ سنة ٢٠١٠ أي أن قيمة الليرة ارتفعت بنحو ١٠%.
مع بداية العقد الأول، بدأت رياح تحرير الاقتصاد من قيود ولوازم المرحلة السابقة، (التي كانت تقدمت جزئيا في هذا المضمار، عبر قانون الاستثمار ١٠ سنة ٩٠) وتمثل التوجه الجديد، والذي يبدو أنه كان لا مناص منه، في فتح مجالات اقتصادية وتنموية واسعة، ركزت على التنمية البشرية والاقتصادية على الصعد المختلفة ثقافيا وماليا وتجاريا وصناعيا. فتم الترخيص والتشجيع لإنشاء عشرات الجامعات الخاصة، وعلى مساحة الجغرافيا السورية، تزامنا مع إنشاء المزيد من الكليات الجامعية العامة. إضافة إلى ترخيص عدد كبير من المدارس الخاصة، وفي كل المحافظات السورية، فكان قطاع التعليم في صدارة المشهد، فحتى الدراما السورية شهدت تطورا بني على تبنيها ودعمها من قبل الدولة، ما أوصلها لصدارة العالم العربي خلال بضعة سنوات.
في نفس السياق والتوجه تم السماح لقطاعي التأمين والبنوك الخاصة، ليدخلا السوق السورية، ويفتتحان عددا كبيرا من الفروع، ووفق ضوابط حكومية شديدة، لجهة التأمين على رؤوس الأموال، وتقييد حركتها بأنظمة وطنية سيادية، لحمايتها من الإفلاس أو حتى من التلاعب بحقوق وودائع المواطنين، الأمر الذي ثبتت نتائجه ليس في زمن السلم، ولكن حتى في زمن الحرب، حيث لم يفلس بنك واحد في سوريا.
بالانتقال إلى الصناعة، تم تشييد وإنشاء عدد من المدن الصناعية الضخمة، (بما فيها معامل السيارات، ووصول نسبة انتاج الدواء إلى حدود تلبية ٩٠% من اكتفاء السوق المحلية بوجود ٥٧ معمل أدوية)، في عدد من المناطق السورية، ووصلت مساهمة الصناعة في الناتج المحلي السوري إلى ما يزيد عن ٢٠% في حين تراجعت حصة النفط والتعدين من الناتج المحلي، في مؤشر إيجابي يدل على نمو وتنوع الاقتصاد. فحتى الناتج الزراعي شهد تحسنا كبيرا، خاصة في المحاصيل الاستراتيجية الكبيرة، فوصل انتاج القمح سنة ٢٠١٠ إلى ٣٠٨٣١٠٠ طن
أكثر من ثلاثة ملايين طن (٣٠٨٣١٠٠طن) لتصبح سوريا دولة مصدرة للقمح، مع دخولها في المراتب الثلاثة الأولى لمصدري زيت الزيتون والقطن، مع دول تفوق حج سوريا بعشرات المرات كالولايات المتحدة وإسبانيا.
كانت سوريا تطور ذلك التنوع الاقتصادي الكبير، وتخلق من خلال كل تلك الحقول الانتاجية التي افتتحتها أو دعمتها، أعدادا كبيرة من فرص العمل لتتراجع البطالة من رقم يتجاوز ١٨% إلى ما دوم ١٠% خلال ذلك العقد الذي يسعنا تسميته بالعقد الذهبي، ليس لأنه تم فيه إنجاز كل ما سبق فقط، ولكن لأن ذلك تم في ظروف فيها تحديات موضوعية ذاتية، ومحيطة سياسية، تم التغلب عليها والحفاظ على مسيرة النهوض. فلم يكن من السهل والمعتاد أن تحقق الدول انفتاحا اقتصاديا، بعد فترة من الاقتصاد المحافظ والمضبوط بشدة، دون السقوط في تدني سعر الصرف إن لم نقل انهياره، الأمر الذي حدث عكسه في سوريا، فارتفعت قيمة العملة الوطنية، وزادت احتياطيات سوريا من العملة الصعبة وفق سلة من العملات، لم تقتصر على الدولار، كما زيادة احتياطي الذهب ليصل إلى ٢٨ طن وتصبح سوريا في المرتبة ٥٥ عالميا والسادسة عربيا من حيث الاحتياط.
ومن ناحية أخرى نجحت سوريا في كل ذلك، وسط أمواج من العواصف المتتالية التي ضربتها هي ومحيطها والعالم، من احتلال العراق ٢٠٠٣ إلى اغتيال الحريري ٢٠٠٥ إلى حرب تموز ٢٠٠٦ وصولا إلى الأزمة المالية العالمية ٢٠٠٨.
نجحت سوريا في ذلك، لأن سياساتها كانت تحسن الاستثمار في طاقات المجتمع، وتبدع في إطلاقها. الأمر الذي أكدته الأرقام من جهة، والأحداث والوقائع من جهة أخرى، فلم يكن هناك تفسيرا له أصدق تعبيرا من وقوف أغلبية أبناء الشعب السوري مع دولتهم عندما هبت رياح "الربيع العربي" من عواصم الصهيونية السياسية والإعلامية، وبعد عقود من التهيئة والتحضير الميداني والاجتماعي، والذي كان يهدف دون رجعة، إلى إسقاط الدولة السورية تحديدا، وفشل، لأنها كانت قد استثمرت بنجاح في شعبها، فحماها هذا الأخير وتمسك بها، تمسك الابن بوالديه.
ولنسأل أنفسنا بعد مرورنا على كل تلك المعطيات والوقائع، كيف يمكن تسمية اقتصاد الصناعة والزراعة والتصدير والمدن الصناعية وصناعة السيارات "بالاقتصاد الربيعي"؟!!
كيف يكون اقتصاد الاكتفاء بالدواء والغذاء، هو "انصياع لرغبات الليبرالية الغربية"؟!
وكيف ولماذا ستسعى دولة غير مدينة، ولديها فوائض واحتياطيات، "لتلبية متطلبات البنك الدولي "؟! وما حاجتها له أساسا!!
ولماذا سيهاجم الغرب سوريا إذا كانت "تنتهج سياسات تنصاع لرغباته ولأوامر مؤسساته، وتقوم بتدمير المجتمع السوري"؟! كان الحري به أن يدعمها..
إن محاولات الهجوم بأثر رجعي يخلط نتائج الحرب وسنواتها ونتائجها الموضوعية من ترهل وفساد وتراجع لمنظومة القيم الاجتماعية والعامة، أدى مع سلسلة الهجمات والعقوبات والحصار إلى الحالة الصعبة جدا التي يعيشها السوريون ، بالعقد الذي سبقها، تبدو إما محاولات ينقصها الوعي والحكمة، أو أنها خبيثة كفاية، لتحاول النيل من سياسة الرئيس بشار الأسد النهضوية تلك، والتي على العكس مما تحاول أن تقول هذه المحاولات، كانت أهم أسباب النقمة الغربية على النموذج السوري، الذاتي والمتفرد وقتها في اجتراح تجربة النهوض والتطور، والتي تفسر أهم أسباب الحرب على سوريا من جهة، وتفسر وقوف الشعب السوري بمجمله مع دولته، لأنها كانت تبلي بلاء حسنا.