إنه يكاد يكون من المنطقي جدا والعلمي، أن نأخذ بعين الاعتبار ذلك الاحتمال الذي يقول بأن ثمة طفرة ما طرأت على أحد أفراد عائلة كورونا (المكتشفة منذ عام١٩٦٠) من الحمات الراشحة، وتسببت بتطور نوعي في هذا الفرد، مكنه من الانتشار بسرعة كبيرة، حيث ازدادت قدرته على البقاء خارج الأجسام المضيفة التي يتكاثر فيها، وأيضا ازدادت ضراوته وقدرته على التأثير في الخلايا التنفسية داخل الرئتين، عند نسبة من المصابين به، مما يجعله خطرا على حياة هؤلاء، إذا لم يتمتعوا بالمقاومة اللازمة، ولم يحصلوا على الرعاية الصحية المناسبة، للصمود في مواجهته لبضعة أيام، تكون كفيلة بإنتاج أجهزتهم المناعية للأجسام المضادة، التي ستقوم بالقضاء على الفيروس، إذا كان الجسم بحالة صحية مقبولة.
لا يمكننا، وعلى ندرة تضافر تلك الاحتمالات، وصعوبة اجتماعها معا، أن ننفيها وننكر أنها واردة، لأننا نتحدث بخلفية علمية صرفة. ولكنه أيضا ومن باب الاجتهاد العلمي، ولأن العالم لا يعيش فقط في ظل قوانين علوم الصحة والطب والكيمياء والفيزياء، بل أيضا ضمن وسط من نظريات علوم الاجتماع والسياسة.. فإنه يسعنا أيضا أن نتطرأ لاحتمالات أخرى، وانطلاقا من الواقعية كنظرية رئيسة في السياسة، وكأسلوب عمل وحياة.
إن القوى المهيمنة على العالم "أحادي القطب"، والذي كان منذ عقد أو أكثر من الزمن، بدأ يعيش حالة يمكن تسميتها "أحادي القطب، شديد المرونة"، حيث بدأت تتراخى وتضعف قبضة القطب الواحد (الولايات المتحدة) مع تزايد قوة وسطوة وتواجد قوى أخرى كالصين وروسيا بالدرجة الأولى. هذا التراجع من جهة، مع التصاعد من جهة أخرى، والمُعَبَّر عنه بوضوح في الاقتصاد والعلوم والقدرات العسكرية، هو الذي دفع شكل النظام الدولي للتحول من الأحادية نحو مرونة هذه الأحادية عبر زيادة مشاركة القوى الجديدة في مشهديته أكثر وأكثر.. هذه المرحلة تكاد تكون محكومة في بنيتها أن تكون مؤقتة. فهي تدفع مكوناتها بصورة درامية إلى مزيد من التوتر، والاقتراب من التمشكل والصدام، وربما النزاع. النزاع المؤهل أيضا وبصورة موضوعية حتمية، للتطور إلى صراع وربما حرب.. حرب عالمية جديدة. فالخوف لدى القطب الأوحد، من تطور قوة الأطراف الدولية الأخرى، وتوجهها للشراكة معه سيدفعه للتصعيد محاولا إعادة عقارب ساعة الكوكب ولو قليلا إلى الوراء. فيما شغف وإصرار الطرف/الأطراف المقابلة، على متابعة المسيرة والوصول، وإحساسها بتغيير الموازين، واستشرافها لضعف القطب الأوحد، سيشجعها على إبداء المزيد من السعي، حتى وإن حمل شكل التصعيد، لإنجاز المهمة والتغيير.. فالدول واقعيا، لا تكتفي بمطلق القوة والسيادة، ولكن تسعى بشكل حثيث نحو المزيد منهما، نسبة إلى الآخرين، وبشكل مستمر.
بدأت معالم تطور الصدام، وتحوله إلى نزاع معلن، مع بداية العقد الحالي، ومشروع الفوضى الخلاقة الأميركي، الذي كانت طلائعه قد سبقت ذلك بقليل في دول شرق أوروبا، عند خاصرة روسيا الغربية، فيما عرف "بالثورات الملونة"، إضافة "لثورة الأرز" في لبنان، وهي محورية جدا لأنها ستعود وتثبت أنها كانت تشعل الفتيل الأول في الساحة المركزية للصراع، سوريا. وبينما تحولت معظم ساحات تلك "الفوضى الخلاقة" إلى معارك وحروب حقيقية كبيرة، من ليبيا إلى سوريا والعراق وأوكرانيا واليمن، كان ذلك يمثل بالفعل فصلا أولا من فصول الحرب العالمية الثالثة، حيث انقسم العالم شاقوليا، بين الشرق والغرب، في كل تلك الجبهات، التي أبدت المزيد من الترابط والرتابة في الاصطفاف، بين الولايات المتحدة و"حلفائها" من جهة، وبين روسيا والصين وحلفائهما من جهة أخرى.
كل ذلك، ومع عدم قدرة المعسكر الغربي على الحسم في أي من تلك المعارك المفتوحة، لا بل ومع ازدياد نسب الحسم في أغلبها، لصالح المعسكر الآخر، ومع استمرار النمو الاقتصادي في الشرق، وهو ما يمثل حجر الرحى في كل ذلك، مضافا إليه القفزات العظيمة في مجال التسليح والتكنلوجيا العسكرية الروسية، خلال السنوات الماضية.. أدى كما يبدو بالفعل إلى وقوف الطرفين على ضفتي خيار حتمي، بين المزيد من التصعيد ودخول حرب مباشرة، أو الجلوس إلى طاولة المفاوضات بكل ما وُضِعَ عليها من تنازلات.
هنا سنقدم رؤية غير تقليدية، لنتائج هذا التفاوض، كنظرية نسعى لإثباتها، تماما كما نقدمها للنقد والتفنيد. وهي بالمختصر أن الكبار وعلى وقع الحذر الشديد من الحرب المدمرة، لا بل عدم الرغبة الأكيد، في دخولها، وصلوا لاتفاق على تبريد المواجهة عالميا، وإعادة ترتيب الأوراق، وتوزيع الأدوار، مع ما يبدو من التسليم المتبادل والمتفق عليه، لاحتمالات تمدد بعض الأطراف على حساب أطراف أخرى، وكل حسب إمكاناته واجتهاداته خلال فترة التبريد. فإعادة توزيع الأدوار تتضمن وتنتج عن تعبير حقيقي لقدرات وكفاءة الأطراف، ونتاج عن مخزون القوة العلمية والمادية والمعنوية، الذي سيتمكنون بحسن الإدارة من استخدامه في هذه "المبارزة" المتفق عليها حتى لا تكون الحرب.
هنا لا يمكن الجزم في ماهية وباء كورونا من حيث النشأة، فهل هو مصنع أم مطور، أم جاء كنتاج طبيعي لعملية التطور والطفرات، كما وضحنا في السيناريو العلمي البحت أعلاه. ولكنه بإمكاننا التدليل على أنه يجري استخدامه كمحرك ودافع وسبب للدخول في عملية التبريد آنفة الذكر، عبر إشغال العالم به حصرا، وعبر دفع الكوكب لإيقاف الإنتاج والعلاقات المتبادلة بين الدول والمؤسسات والكيانات الصغيرة، وحتى بين الشركات والأفراد. هذا ما يبدو أنه مصنع "الأزمة الحل" حيث يكتفئ الاقتصاد المحلي والاقليمي والعالمي، فيما ينكفئ الجميع لمواجهة الوباء، ثم آثار الوباء وتداعياتها، ثم إلى محاولة الخروج مجددا إلى ساحة العمل والإنتاج والنمو.. الخ. في حالة ستشغل الجميع، وستحقق "انتعاشة التعافي بعد المرض" لأن الاقتصاد العالمي كله اليوم، يصاب بالمرض والإعياء والتعب، على خريطة ووصفة مواجهة الوباء المستجد.
أثناء هذه المرحلة، مرحلة المواجهة مع الوباء، سوف تتعثر الدول والكيانات والشركات، تماما كما مئات ملايين الأفراد، وفي كل مكان.. وهذا ما سيشكل فرصة للكبار والأقوياء، للاستثمار في تعثر الصغار، وربما وبالتأكيد بعض الكبار أيضا، وتحويل ذلك إلى ديون ومساعدات، وصفقات، ستصرف بشكل بيّن في ميزان توازع القوى الجديد، وستعرف على خريطة العالم السياسية الجديدة، كنقاط جذب وإشعاع، ونقاط تبعية وتهافت، غير تلك التي كانت سائدة لعقود، وكان يلزم حربا عالمية لإجراء التغييرات "العادلة" فيها، أو نموذج حرب منظمة ومدفوعة بقوة الإعلام والرعب، ضحاياها من الأفراد قلة مقارنة بالحروب، ولكن من الدول ورؤوس الأموال، والولاءات والتحالفات.. الكثير، الذي ربما يتقارب مع آثار الحروب الكبرى.
هذا لن يكون كل شيء، إذا توارد السؤال مبسطا لأذهان البعض.. فالتاريخ الذي لم ينتهي حسب وصفة فوكوياما، لن ينتهي أيضا على أنقاض الكورونا.
ولكنه وبرغم أنه قد يحمل نهايات كيانات عملاقة كالاتحاد الأوروبي، وقد يحمل المزيد من التصدع في بنية الولايات المتحدة المجتمعية والسياسية، سوف يدخلنا في مرحلة حرب باردة جديدة، بين الشرق والغرب، مع بعض التباينات على جانبي خط التماس الفاصل بين المعسكرين، فسوف تنتقل دول من هذا الجانب إلى ذاك، وسوف يبرز وارثو الكيانات القابلة للتصدع والتفكك، ويكونون أشد بأسا منها. فبريطانيا أو ألمانيا مثلا، لن تكونا بحال أسوأ عندما تنسحبان من أوروبا الموحدة، وكذلك الولايات الغنية بالنفط والتكنلوجيا والصناعة والإعلام في أميركا.
إن كل ذلك، لا يرجح سيناريو "الاستخدام السياسي الاستراتيجي" للوباء وحده، ولكن الكثير من المؤشرات السياسية والعالمية تودي إلى نفس المعنى. فالمبالغة بتصوير العدوى تبدو متفقا عليها، برغم أن أقل نسبة انتقال بين الأفراد من المروج لها، كانت ستؤدي إلى إصابة كل البشرية خلال فترة لا تصل ثلاثة أشهر، وهذا لم يحدث، لا بل لم يحدث ما هو أقل منه بسبعة آلاف مرة، مع وصول العدد لأقل من مليون إصابة خلال هذه الفترة. كما يقول أيضا وجود دول من المتربعة على قمة هرم أتمتة وتنظيم وإدارة الحياة العامة، كالسويد وسويسرا، والتي لا تطبق الوصفة المعلنة لمجابهة الوباء، والمختصرة بدعوة "البقاء في المنزل" لتشكل بالواقع فرضا لإغلاق أغلب القطاعات الانتاجية، وأيضا التعليمية والخدمية .. الخ، لتشكل شللا في الاقتصاد من مستوى الفرد والعائلة، ووصولا لمستوى الشركات والدول. كما ويطل إهمال المنظمة الدولية للأمر برمته، وعدم تعاطيها معه بنفس السخونة التي يعبر عنها بعض المسؤولون فيها، وخاصة في القطاعات الصحية، ليبدو حديثهم داعما لخطة الإغلاق أكثر مما هو ساعيا للعلاج.. فلماذا لم يجتمع مثلا مجلس الأمن ليقر وصفة وإجراءات معيارية دولية، يقدمها لدول العالم ويطالب بتنفيذها، كون الوباء كما يقال عنه يمثل خطر عالمي ليس فقط على السلم الدولي، ولكن على حياة ملايين البشر، وحياة المؤسسات والقطاعات الصحية والدول في هذا العالم!!
برغم كل ذلك، نجد أن الأفراد على مستوى العالم، كما الدول وخاصة النامية والمستضعفة، لا يملكون خيارا سوى تصديق السيناريو الذي دخل حيز التنفيذ، والانصياع لكل التدابير التي بدأت تجتاح الدول وكأنها الحقيقة الواحدة، أو المصير. فليس هناك ثمة من يستطيع تحمل مسؤولية حياة الناس، تماما كما مسؤولية مواجهة اتهامات التقصير والفشل واللامبالاة. لذلك فالجميع، على مستوى هذه الدول، سوف يصادق على الأمر، وسوف يجتهد في السير ضمن الأطر والخطط المرجحة، لمواجهة الوباء، كما لا يمكن نصحهم بغير ذلك.