ثمة منهجية خاطئة في قراءة ما يجري في الساحة الفلسطينية بالنسبة إلى ما تتخذه كل من حكومة نتنياهو وإدارة ترامب من سياسات وممارسات، وهي وضع تلك السياسات والممارسات في الإطار القديم الذي كانت عليه موازين القوى طوال القرن العشرين، ولا سيما نصفه الثاني. فهذه المنهجية لا تلاحظ ما حدث من تغيير في موازين القوى في غير مصلحة كل من أمريكا والكيان الصهيوني، خلال العشرين سنة الأخيرة. ومن ثم راحت هذه المنهجية الخاطئة تتعامل، مثلاً، مع السياسات والممارسات التي اتخذتها إدارة ترامب وحكومة نتنياهو، وأخيراً وليس آخراً، إعلان مشروع "صفقة القرن" في 29 كانون الثاني/ يناير 2020، كما جرى التعامل خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
كان قيام الكيان الصهيوني عام 1948 واستيلائه على 78 في المئة من أرض فلسطين، وتهجير ثلثي الشعب الفلسطيني (تقريباً) من قراه ومدنه، والحلول مكانه يمثل مرحلة الصعود في القوة والنفوذ لأمريكا والكيان الصهيوني، فكانت سيطرة على أرض لم تكن بحوزتهما؛ واقتلاعاً لشعب سكنها منذ آلاف السنين.
وقد راح الكيان الصهيوني بعد ذلك، وبحماية أمريكية- أوروبية، يعزز قواه العسكرية ليصبح الأقوى، بصورة حاسمة، على كل دول المنطقة. وفي المقابل، عملت أمريكا وأوروبا على إبقاء التسلح العربي محدوداً ومحاصراً ليبقى ضمن تلك المعادلة. وترجم ذلك بحروب أنزلت الهزائم بجيوش عربية، وبالتوسع لاحتلال ما تبقى من أرض فلسطين (الضفة الغربية وقطاع غزة) والجولان العربي السوري وسيناء العربية المصرية حتى قناة السويس عام 1967.
فكل هذا كان يمثل حالة صعود في القوة والنفوذ والتوسع في الأرض. ومن هنا تشكلت منهجية تعتبر أن كل ما يفعله الكيان الصهيوني وتريده أمريكا سوف يتكرس ويتشرعن، ولا راد لما يفعلان ويريدان. وهذا يفسر خطأ هذه المنهجية- العقلية اليوم حين لم تلحظ الفرق بين حالة الصعود، وحالة التراجع،أو بداية التراجع والتدهور باتجاه الأفول. وهذه الحالة الأخيرة هي التي انتقلت فيها موازين القوى في غير مصلحة الكيان الصهيوني وأمريكا، الأمر الذي كان يتطلب منهجية مختلفة عن المنهجية الأولى السابقة في قراءة سياسات إدارة ترامب وحكومة نتنياهو وممارستهما، وذلك بما يتناسب مع موازين القوى الراهنة، لأن عدم التحرر من منهجية كانت صحيحة في حالة الصعود، وأصبحت خاطئة في حالة التراجع والتدهور حتى لو كانت الحالة الجديدة في بداياتها، ولم تصل بعد إلى الظهور بمظهر الحقائق الراسخة والصارخة، علماً أن ثمة مؤشرات مدوّية تفرض أن يُصغى إليها منذ الآن، ومن ثم يُبنى عليها فندخل مرحلة منهجية جديدة.
طبعاً عدم الانتباه بسرعة إلى ما ينشأ من جديد هو من آفات العقل الإنساني الذي يميل إلى المحافظة على ما تعود عليه، فيتأخر عن التقاط الجديد في الوقت المناسب. ودعك من الذين يتعمدون شنّ حرب نفسية.
والآن لنلحظ ما يلي بالنسبة إلى أمريكا:
1-فشلت في إقامة نظام عالمي أحادي القطبية إذ كان حملاً ثقيلاً ناءت به قدراتها. وقد راحت الدول الأخرى تبحث عن مصالحها وأدوارها، فدول أوروبا، مثلاً، ذهب عنها الخوف من الاتحاد السوفييتي، وكذلك اليابان من الصين، فأبعد عنهما الحاجة إلى الخضوع لأمريكا.
2-دفع النفوذ الأمريكي إدارتيْ بيل كلينتون وجورج دبليو بوش إلى التركيز على "الشرق الأوسط"، بدلاً من إبقاء الأولوية الأمريكية مركزة على عدم استعادة روسيا لقوتها كدولة كبرى، وعلى استمرار استراتيجية احتواء الصين، مما أتاح لهما، ولا سيما في العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين، لتتحولا إلى دولتين منافسَتيْن ومهدَدتيْن لأمريكا. ولعل الحديث اليوم عن عالم متعدد القطبية يشهد على هذا التراجع الأمريكي.
3-أدت الأزمة المالية العالمية للعام 2008 إلى الإطاحة بمشروع العولمة المؤمركة. وجاء عهد ترامب ليطلق عليه رصاصة الرحمة، فالعالم دخل مرحلة الحروب الاقتصادية التي ستنقلب بدورها على أمريكا.
4-خاضت أمريكا حربين في 2001 و2003 لاحتلال كل من أفغانستان والعراق على التتالي، وهي الآن تعاني الفشل في السيطرة عليهما، بقاءً فيهما أو انسحاباً منهما.
وعليه، فإن ما يبديه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من تنمّر على القضية الفلسطينية من خلال ما أسماه "صفقة القرن" يواجه عزلة دولية عامة، وقد يواجه اندلاع انتفاضة فلسطينية شاملة مدعومة عربياً وإسلامياً ورأياً عاماً عالمياً.
أما بالنسبة إلى الكيان الصهيوني الذي انهالت عليه هدايا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وآخرها إعلان "صفقة القرن"، فهو الآخر يعاني من أزمات داخلية وسياسية خانقة، ومن تراجع قوته العسكرية الإقليمية، ومن تدهور سمعته لدى الرأي العام العالمي، الأمر الذي يجعل تلك الهدايا وبالاً عليه، كما ظهر عندما حذرته أمريكا مؤخراً بألا يضم أية أراضٍ قبل موافقتها، والأهم ما قد يواجهه أيضاً من اندلاع انتفاضة فلسطينية شاملة مدعومة عربياً وإسلامياً ورأياً عاماً عالمياً، يمكنها أن تجعل الأرض في الضفة الغربية والقدس تميد تحت الاحتلال والاستيطان.
ولعل الدليل الصارخ على تراجع الكيان الصهيوني عسكرياً ما ناله من هزائم في أربع حروب: 2006 (في لبنان)، و2008/2009 و2012 و2014 (في قطاع غزة)، فضلاً عن انسحاب بلا قيد أو شرط من جنوبي لبنان (2000) ومن قطاع غزة مع تفكيك المستوطنات (2005).
والأهم، تردده الذي لم يسبق له أن وقع فيه، حين امتنع حتى الآن عن شن حرب ضد قطاع غزة، وهو يتحول إلى قاعدة مقاومة عسكرية جبارة، قوات مسلحة وأنفاقاً، وصواريخ، وكذلك حين امتنع عن شن حرب ضد حزب الله في لبنان. وقد راح يمتلك صواريخ ذكية تزيد على عشرات الآلاف وفقاً للتقديرات الإسرائيلية، ناهيك عن قوات ميدانية تهدد بالزحف (ولو الجزئي)، هذا دون ذكر امتناع الكيان الصهيوني عن قصف البرنامج الصاروخي الباليستي، ومراكز التطوير التقني العسكري في إيران، وذلك عكس ما فعل مع مركز الأبحاث النووية في العراق.
هذا التردد ليس له تفسير، قياساً بتاريخ الحروب التي شنها الكيان الصهيوني منذ 1948 حتى 2014، إلاّ الخوف من الرد على التدمير بتدمير مقابل، وعلى الخسائر بخسائر توجب عليه أن يحسب لها ألف حساب.
صحيح أن لديه قوة نيران تدميرية هائلة، ولكن لم يعد بمقدوره أن يشن حرباً بعيداً من جبهته الداخلية، وبدرجة عالية من ضمان كسبها، وتحقيق أهدافها العسكرية في الأقل.
هذان هما التفسيران الوحيدان اللذان يفسران ذلك التردد في شن الحرب وحسم الصراع.
ويا للهول حين تسمع تفسيراً يقول أن قادة الكيان الصهيوني مرتاحين تماماً لهدوء الجبهة اللبنانية وغير آبهين بقطاع غزة. أما إيران فقد ترك أمرها للحصار الخانق الأمريكي.
لاحظوا هذا التفسير الأخير الذي ينطبق عليه (بالنسبة إلى قطاع غزة وجنوبي لبنان) ما حدث مع الثعلب في "كليلة ودمنة"، عندما كرر القفز ليصل إلى عنقود العنب الذي تدلى وبلغ من النضج مبلغاً جعله شهية للآكلين. ولكنه عحز عن الوصول إليه، ويئس من المحاولة فتركه وهو يقول "حصرمٌ لما رأى أن لا يناله".
وهكذا أصبح قطاع غزة الذي احتله الكيان الصهيوني من 1967 إلى 2005 وزرع فيه المستوطنات (38 سنة) حصرماً، ولم يعد من "أرض إسرائيل"، ولم يعد يؤبَه له. وكذلك لم يعد جنوب لبنان ومياهه مطمَعيْن للكيان الصهيوني، وقد احتل على مراحل بين 1976 و2000 (24 سنة). أما الأخطر من الأطماع في الحالتين فهو القول "الركون إلى هدوء الجبهتين" بالرغم من المضي بالتسلح والإعداد، وبناء القوات وتطوير الصواريخ والأنفاق. فهذا التفسير يخطئ ببدهيات علم الحرب لأن الهدنة أو الهدوء، أو حتى السلم، إذا صحبه تسلح وإعداد للحرب، لا يُعتبر هدوءاً ولا أمناً ولا سلاماً، بل حرباً يجب أن يرد عليه بالحرب إن أمكن، أو بالتسلح المضاد والإعداد للحرب إن لم تكن الحرب فوراً ممكنة.
بكلمة، ليس هنالك من تفسير للواقع القائم على الجبهات في قطاع غزة وإيران، وأضف سوريا والعراق، إلاّ التفسيران الأولان: الخوف من الرد المضاد، وعدم ضمان نتائج شنّ الحرب. وهذا يشكل تغيّراً استراتيجياً في ميزان القوى، وذلك بالانتقال إلى شبه التوازن الاستراتيجي.
وإن ترجمة هذين التفسيرين، إلى جانب ما أُشيرَ إليه من تراجع أمريكي، يعني أن "صفقة القرن" التي أعلنها دونالد ترامب تواجه ميزاناً للقوى في غير مصلحتها آنياً ومستقبلاً ومآلاً.