بعد أربعين يوما على المأساة، تهبط المستشارة الألمانية في مطار أتاتورك بمدينة إسطنبول التركية، يوم الأحد 18 تشرين الأول 2015. في الطريق نحو القصر العثماني «دولما بهتشة»، حيث ينتظرها رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو، غابت عن عينيها دموع إيلان، وهي تفكر بشيء وحيد بات يقلق القارة العجوز، ضبط الحدود التركية أمام تدفق اللاجئين إلى دول الإتحاد الأوربي. في مؤتمرهما الصحفي، أشاد أوغلو بشجاعة ميركل، وموقفها الإنساني من اللاجئين، وعاتب المجتمع الدولي على "ترك تركيا وحيدة في تحمل أعباء اللاجئين، خلال السنوات الأربع الماضية". أكدت ميركل على المعاناة التركية، وأن الموضوع الملحّ حاليا هو وقف موجات اللجوء إلى أوربا.
»»» في زيارته الأخيرة، وقف الرئيس التركي رجب طيب اردوغان، أمام مؤسسات الإتحاد الأوربي، وأعلن الخطوات الثلاث لحلّ أزمة اللاجئين السوريين: تدريب المعارضة السورية، وإعلان منطقة حظر جوي، وإنشاء منطقة آمنة. قبل أن يطلب استئناف مفاوضات انضمام بلاده إلى الإتحاد الأوربي. كان على المستشارة الألمانية، بعد إسبوعين من خطوات أردوغان الثلاث، أن تتوجه بعد نهاية لقائها مع أوغلو، إلى قصر «يلدز»، لتلتقي الرئيس العثماني المريض، وأن تعيد تأكيدها له بضرورة تقاسم أعباء اللاجئين، وتعلن عن استعداد برلين، لتسريع عملية انضمام تركيا إلى الإتحاد الأوربي.
»»» في كتاب «العمق الإستراتيجي» تحدث رئيس الوزراء التركي «أحمد داود أوغلو» عن موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية. أعلن منذ البداية، في مقدمة كتابه بأنّ تركيا ترى أن مصيرا مشتركا يجمعها بالدول العربية، لذلك فإنها تعمل بكل ما أوتيت من جهد وتأثير على حلّ مشكلات المنطقة باعتبارها مشكلاتها الخاصة. أما في أسس السياسة الخارجية التركية الجديدة، برزت مسألة «تصفير المشكلات» مع دول الجوار، فقال بأن مشكلة حزب العمّال الكردستاني والأزمة السورية – التركية خلال عقد التسعينات لعبت دورا كبيرا في تعطيل النفوذ إلى الشرق الأوسط. يزعم الأتراك أن العرب خانوا الدولة العثمانية، بينما يزعم العرب بأن الأتراك احتلوا الأرض العربية لأربعة قرون، هذه الصورة السلبية حسب أوغلو، كانت السبب الرئيسي في عدم انفتاح الطرفين على بعضهما. ويقول بأن هذه الصورة السلبية تغيرت منذ العام 2002، وتحطّمت «الحواجز التاريخية والنفسية»، حتى أضحت تركيا بقدراتها وقنوات اتصالها، قادرة على متابعة كافة التطورات التي يموج بها الشرق الأوسط. مبدأ الدبلوماسية المتناغمة يعتبره أوغلو أحد أسس السياسة الخارجية التركية الجديدة، ويقول بأنّ تركيا أضحت (أيضاً) لدى الرأي العام العالمي، دولة ذات دور في تأسيس الاستقرار، ليس من اجلها فقط، بل من اجل الدول المحيطة بها ايضا . كانت تركيا في نظر العالم دولة جسرية، كان من الضروري رسم خريطة جديدة لتركيا تجعلها مرشحة لأداء دور مركزي، وأن تصبح دولة قادرة على انتاج الحلول في الشرق، ومناقشة مستقبل أوربا، هذا ما قاله أوغلو في اسلوب الديبلوماسية الجديد لتركيا العدالة والتنمية في عمقه الإستراتيجي.
»»» التقييم الموضوعي لموقع تركيا الحالي ودورها في الساحة الدولية، يشير إلى استبدال العمق الإستراتيجي بالعمق الإرهابي، بعد أن فقدت عمقها العربي والإقليمي، و أضحت حضناً دافئاً لكل التنظيمات الإرهابية والتكفيرية. أما عن تصفير مشكلاتها مع دول الجوار، فصارت دولة بلا أصدقاء ضمن فضائها الإقليمي. دولة ذات دور رئيسي في تدمير الإستقرار في الداخل التركي وفي محيطها الإقليمي وفي العالم عموما. دولة قادرة على انتاج المشاكل فقط، في الشرق والغرب عبر دعمها للإرهاب واستغلال اللاجئين. الصورة السلبية التي تشكلت مع "الربيع العربي"، وخيانة تركيا الأردوغانية لمحيطها العربي، خلق خلال أربع سنوات فقط، ما يكفي من «الحواجز التاريخية والنفسية» التي تؤكد بأن المصير المشترك الذي بات يربط تركيا مع جوارها العربي، هو أن جزءا كبيرا من مشاكل تركيا والمنطقة العربية والإنسانية برمتها، مرهون بنهاية «العدالة والتنمية»، بعد أن أضحت تركيا الأردوغانية، دولة جسرية وراعية للإرهاب وما نتج عنه من تدمير وقتل وأزمة لاجئين.
»»» بعد سقوط أوهام وأحلام السلطنة الإخوانية الأردوغانية، وجد نفسه، بعد انتخابات السابع من حزيران الماضي، يفقد الأغلبية البرلمانية التي اعتاد عليها خلال ثلاثة عشر عاما، مما جرّه إلى مفاوضات مع بقية الأحزاب لتشكيل حكومة ائتلافية، ستفقده هيمنته على المؤسسات التركية. منذ السابع من حزيران، بدأ أردوغان بالتفكير في الإنتخابات المبكرة وتهيئة المناخ الملائم، حسب اعتقاده، لاستعادة الأغلبية المفقودة. لذلك وجدناه يستعين بحليفه الداعشي في 20 تموز الماضي، ليقتل 32 شخصا في بلدة سروج الكردية في تركيا، ويقرر الإنضمام إلى "التحالف الدولي"، والسماح للولايات المتحدة باستخدام القواعد التركية للهجوم على تنظيم داعش الإرهابي. الطائرات التركية كانت تحلق بسلام فوق الأهداف الداعشية، وهي تلاحق حزب العمال الكردستاني. ثم استعان مجددا بشقيقه الداعشي، ليقتل مائة من المتظاهرين السلميين في شوارع أنقرة. لم يكتف أردوغان بأن يحوّل تدفق العمليات الإرهابية نحو الداخل التركي، بل قام بدفع اللاجئين السوريين إلى قوارب الموت على شواطئ بلاده، ووجههم نحو دول الإتحاد الأوربي.
»»» يدرك أردوغان جيدا، وأكثر من أي وقت مضى، بأن خطواته الثلاث لحلّ أزمة اللاجئين، التي أعلن عنها في بروكسل، أصبحت من أحلام الماضي. كما أنه على يقين من أن إمكانية انضمام السعودية إلى الإتحاد الأوربي، تفوق إمكانية تركيا الأردوغانية في العبور نحو أوربا. يحاول أردوغان عبر مقايضته وقف تدفق موجات اللجوء إلى أوربا، باستئناف مفاوضات انضمام بلاده إلى الإتحاد الأوربي، رغم المعارضة القوية من غالبية دول الإتحاد، ، تماما كما يفعل مع الشعب التركي، عبر توجيه إرهابه إلى معارضيه، وخاصة إلى التيارات الكردية، أن يكسب بعض الأصوات الإنتخابية في انتخابات الأول من تشرين الثاني، التي يحلم من خلالها باستعادة الأغلبية، والهيمنة على الدولة التركية.
»»» أزمة اللاجئين إحدى نتائج الأعمال الإرهابية على الشعب السوري، لذلك فإن الحلّ الحقيقي للأزمة مرتبط بالجدية في محاربة الإرهاب ووقف دعمه وتمويله. الانتخابات التركية القادمة، ربما ستشكل أول الخطوات الجدية، من الشعب التركي، بإزالة عقبة رئيسية أمام استقرار المنطقة والعالم. فهل سنشهد في الأول من تشرين الثاني سقوط العثماني المريض ؟