اعتبر كثيرون أن ما وصفه البرلمان الليبي بـ”اتفاق الخيانة”، الذي وقعه فايز السراج.. كواجهة، مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 27 نوفمبر الماضي، خرج للنور في إطار صراع غاز شرق البحر المتوسط أولا، ونكاية في المحور العربي، الداعم لاستعادة مؤسسات ليبيا مهامّها الوطنية ثانيا. كلاهما صحيح، لكن يبقى الأهم.. الحنين التركي التاريخي لآخر البلدان العربية مُغادرة لتبيعة “الخلافة” في اسطنبول، ضمن توهّمات العثمانية الجديدة.
استبق أردوغان الاتفاقية بمذكرة سلّمها للأمم المتحدة، في 13 نوفمبر، عن حق تركيا في حدود بحرية وفق خارطة سماها “الوطن الأزرق”، تتجاهل وجودا مادّيا لجزر يونانية تفصل بين مياه طرفي الاتفاقية، منها روديس ودوديكانيسيا.. وكريت! للوطن الأزرق جذوره العاطفية، التي تترجمها أنقرة جيوسياسيا، فهو يعني “المياه الزرقاء” الممتدة بين الكتلة البشرية الأكبر التي احتل أسلافها الأناضول قبل 800 عام وبين كتلة بشرية، مهما كانت ضآلتها.. “الكراغلة”، زرعها جدوده في “ليبناتو”، خاصة مصراتة، قبل 450 عاما، تماما كما فعلوا في قبرص.
بعد شهور من احتلاله مصر، استقبل سليم الأول في القاهرة وفدا من القراصنة الأتراك يدعونه لضم الجزائر التي سيطر عليها أحدهم، خير الدين بربروس، إلى عرشه بحجة حمايتها من الإسبان، متجاهلين عرضا من أمير تونس الحفصي، الذي طالما ساعدهم وآواهم في موانئه مقابل خُمس الغنائم، بالحماية مقابل التبعية له. لم تلتفت الأستانة لأهمية “ما بين” مصر وشمال أفريقيا. “ليبانتو” قليلة السكان والعمران، وقتها، وانشغلت بملاحقة الحفصيين، وحين فشلت مرات اتجهت لجارتها الشرقية عام 1551، لتكمل سيطرتها على شاطئي المتوسط الجنوبي والشرقي.. عدا مراكش. محوّلة طرابلس الغرب إلى مركز لشبكة القرصنة البحرية العثمانية، سواء في مرحلة الاحتلال الأولى أو الثانية، فبينهما فترة قطعها أحد متمرّديها، أحمد القره مانلي، بين 17011 – 1835، مستغلا ثورة شعبية على فوضى غرقت فيها ليبانتو منذ قصفتها مدفعية أول سفينة تركية عام 1551 ضمن أسطول يقوده سنان باشا، الذي سيصبح أول “باي/والي” عثماني يحكم “إيالة طرابلس” التي شملت معها برقة والمناطق الداخلية. وبعدها نجحت محاولتها في احتلال تونس سنة 1574.
محدودية عمران وسكان ليبانتو شجعت الأستانة على آلية تعامل معها مختلفة عن باقي البلدان العربية المحتلة عثمانيا، وهو استعمار المنطقة الأهم فيها.. الغرب، لا احتلالها فقط. توافد عليها آلاف من الإنكشارية والقراصنة مستوطنين لها.. ارتبط أغلبهم بزوجات محليات. بالتوازي، أعاد العثمانيون تخطيط البلاد لتعزيز قرصنتهم في البحر المتوسط. تطورت مناطق مثل بنغازي، ونصبت الحاميات العسكرية في طرابلس ومرزق، وربطتا بمدينة سيرين القديمة بأطلالها التي تتوسط بنغازي وطبرق شرقا.
من اختلاط المستوطنين القراصنة والإنكشارية بالقبائل العربية والأمازيغية، عبر أجيال، ولدت مجموعة عرقية متمايزة اجتماعيا عرفت بـ”الكراغلة”، من “كول + أوغلي” أي أبناء الجنود وفق الترجمة الحرفية، في حين وصفتهم القبائل العربية بـ”أبناء العبيد”. وربما مقابل دونية الدلالة الأكثر رواجا، تباهى أولادها بالأصول التركية، وهم موزّعون على 13 قبيلة: بليبلو، الرملة، المقاصبة، عباد، الشواهدة، الزوابي، الجهانات، يدر، الضرارطة، رأس علي، الدرادفة، الفراطسة وقرارة وظلت لعقود محافظة على عاداتها الثقافية والاجتماعية الآتية بها من الأناضول.
نفس المسمى، الكراغلة، ستجده في تونس والجزائر، لكن فئاته لا تتمتع بنفس التأثير فيهما. لا توجد إحصائيات موثوقة لعددهم في لبيبا، أول تقدير لهم كان عام 1935 بـ35 ألفا، مثّلوا 5 بالمئة من سكان البلاد، غالبيتهم الساحقة في مصراتة (30 ألفا). بعد ثورة/انقلاب معمر القذافي التي تزامنت مع رحلة علاجية للمَلك إدريس في تركيا، وجد الكراغلة ثقافتهم وامتيازاتهم مهددة بالخطاب العروبي للحكم الجديد، وفق تقرير بعنوان “جذور التواجد التركي في ليبيا” نشره موقع “مفاتيح الشرق الأوسط، فشكّلوا جمعيات لتوثيق علاقات تجمّعاتهم ومساعدة الآتين الجدد منهم. فرغم توتر علاقة القذافي بأنقرة، ضاعف نشاطه الاقتصادي معها، ضمن تناقضاته! ويرصد “مفاتيح الشرق” قفز عدد العمالة التركية الجديدة من 664 عاملا، بين 1961 و1973، إلى 48457 عاملاً بين عامَي 1974 و1980، وإلى 106735 عاملاً من 1981 إلى 1985، استقرّوا بكثافة حول طرابلس ومصراتة، وعزّزوا التأثير التاريخي العثماني، وينشطون في مشاريع البناء التي منحها القذافي لشركاتهم التركية بمليارات الدولارات.