بواقعية وصراحة نقول إنّ العراق بات جزءاً من مجموعة الدول العربية التي تعصف بها الريح السموم التي تهبّ في سياق الحريق العربي الذي شبّت ناره منذ بداية العقد الحالي. وعاد العراق ليشكل في أحداثه الداخلية ملفاً لدى مجلس الأمن . نعم أصبح العراق الدولة العربية التاسعة التي تنهشها الاضطرابات الداخلية.
ومع هذا نجد للحالة العراقية خصوصية وفرادة لم تتوفر في أيّ من الدول العربية السابقة وتعود هذه الخصوصية الى أمرين:
الأول سياسي دستوري يتمثل بوجود نظام سياسي العراق يستند الى دستور مكتوب يعتمد نظرياً الديمقراطية البرلمانية وفصل السلطات، وأشدّد على القول نظرياً
.الثاني امتلاكه قوة ميدانية فاعلة وقادرة على مواجهة أيّ خطر خارجي تمثله الإرهاب ، قوة تملك من المؤهّلات ما يجعلها قادرة على التصدّي للفوضى الداخلية ومنعها من الانتشار وأقلّه الحؤول دون اقتحام الفوضى لمناطقها أو حيث تقوم بيئتها الأساسية. فالنظام السياسي العراقي الواهن المرن الرخو المتعدّد الرؤوس ، ووحشده القوية الفاعلة عنصران أساسيان جعلا وضع العراق حالة خاصة لا تشبه مثيلاتها العربية.
أما في تشريح ما يجري وفي توصيفه، فمن الجيد أنه وفي أقلّ من ستة أسابيع افتضح الكثير الذي يساعد على فهم الحقيقة وتشخيصها خاصة بعد السلوكيات التي شهدها الميدان العراق والمواقف التي تسرّبت من أميركا وأوروبا، حيث بات من المؤكد أنّ في العراق اليوم تحرّكين غير متطابقَيْ الأهداف كالتالي:
ـ1- تظاهرات مطلبية شعبية تعبّر عن نفسها بالتظاهر السلمي والاعتصام الحضاري وتسعى لتأمين حقوق المواطن والإنسان وإقامة الدولة العادلة وهي حركة محقة يتوجب الإنصات إليها والعمل بما ترفعه من مطالب ويعتبر الاستنكاف عن الاستجابة لها وعدم تلبية مطالبها خيانة للوطن والإنسان، ودفعاً للعراق نحو الانتحار والانهيار.
ـ 2-مؤامرة خارجية بقيادة أميركا تترجم نفسها بالضغط على المواطن لشلّ الحركة عبر قطع الطرقات وإقفال المؤسسات العامة والمرافق الإنتاجية لترفع درجة الفقر والعوز ونشر البطالة أكثر.
3- مؤامرة تستهدف العراق وحقوقه السيادية في أرضه وسيادته وثرواته وحشده وسلمه الأهلي واستقراره الاجتماعي. وتعتبر مواجهتها واجباً وطنياً والاستنكاف عن المواجهة او تسهيل تمرير المؤامرة خيانة وطنية أياً كان الفاعل والشريك والمسهّل الساكت.
فالمشهد العراقي بات اليوم مسرحاً لهاتين الحركتين، والخطورة في الأمر تكمن في أنّ الخارج وأخذاً بالاعتبار الخصوصية العراقية المذكورة، يتكئ على مطالب الداخل ويستعملها قناعاً لتظاهراته، ولذا وضع خطة موازية للتطاهرات المطلبي الداخلي تقوم على أربعة أركان
أولها استثمار التظاهرات الشعبي السلمي والتحشيد المدني في الساحات.
ثانيها قطع الطرق الرئيسية لشلّ الحركة الداخلية وتعطيل الحياة في المستوى الرسمي والخاص.
ثالثها إحداث فراغ سياسي عبر استقالة الحكومة ومنع تشكيل البديل سريعاً مع منع مجلس النواب من الانعقاد
والرابع أما الأخطر والأهمّ فهو العنصر الرابع الذي تمثل بالحرب الاقتصادية بشكل عام وبالضغط النقدي والمصرفي بشكل خاص.
أما الأهداف التي يبتغيها الخارج من تدخّله أو لنقل أميركا ومَن معها من تدخلهم في الأحداث العراقية فهي الاستثمار في البؤس الشعبي العراق الذي تسبّبت به حكومات ما بعد 2003 من فقر وعوز وبطالة وما أغرقته بالفساد ومنعته من أبسط حقوقه وحجبت عنه أدنى احتياجاته، ما أوجد الحالة التي دفعت الشعب الى الصراخ والخروج الى الشارع ومكّنت أميركا من الاستثمار فيه لتحقيق أهداف سياسية واستراتيجية واقتصادية باتت واضحة حتى كاد يراها الأعمى في السياسة والاستراتيجية.
فأميركا تريد من العراق
أولاً نفطه فيه ، فترامب كما يصف نفسه يحب النفط.
ثانياً أن تهدي إسرائيل من أرض العراق ومائه مساحات شائعة تلزمها كما تقول لأغراض دفاعية في البر وتحتاجها لما فيها ضد إيران .
ثالثاً إقامة حكومة العراقية لا تعترف بالمقاومة وطبعاً لا تضمّها ولا تصغي إلا لأوامر أميركا. حكومة تكون طيّعة لها لا صوت فيها لمعترض على إملاءات أميركا أو لمطالب بحكومة سيادية. وحتى يكون لها ذلك وتطمئن لتحقيقه فإنها تريد إخراج الحشد الشعبي من تشكيل العسكرية ثم تحجيمه ثم عزله عن بيئته ثم خنقه ودفعه الى الموت البطيء من غير حرب او مواجهة.
اذن لأميركا والغرب أهدافهما وللشعب العراقي مطالبه، اما الخطورة في الأمر فإنها تكمن في إصرار الخارج على المزج والخلط بين مؤامراته وأهدافها وبين التظاهرات الشعبية ومطالبها، ليتمكّنوا من تحقيق أهداف المؤامرة على العراق عبر استغلال جوع الشعب العراقي وألمه الذي أنتجته سياسات أتباع أميركا في العقود الأخيرة، علماً أنه عندما تتحقق أهداف المؤامرة في وضع اليد على النفط واقتطاع الأرض وتحوّل العراق محمية أميركية لا مقاومة فيها، عند ذلك ستغيب مطالب تظاهرات الشعبي وقد يتحوّل الوضع العراق الى أسوأ مما كان عليه قبل التظاهرات . وقد بدأت نذر ذلك بالظهور كما وسيتمسك الأميركي بالطبقة السياسية الفاسدة والناهبة للعراق لتتابع سياسة النهب. ومن المفيد أن نذكر هنا بأنّ ما رفع من مطالب في إطار ما أسمي ثورة سورية وما انتهت اليه الأمور من سرقة أميركا للنفط السوري واحتلال تركيا لأرض سورية، واقع فرض على سورية وشعبها التحضير لإجراءات فاعلة لتحرّر أرضها وثروتها.
نقول هذا لنحذر العراقيين عامة وأهل التظاهرات المطلبي الذي نؤيد وندعم خاصة، نحذرهم مما هو آتٍ ومما يتهدّد العراق ، بعد أن باتت الأدلة على الاستثمار الأجنبي لحراكهم واضحة. يكفي أن نلفت الى تعطيل مجلس النواب الذي كان متأهّباً لإقرار قوانين يطالب بها العراق ، ولما يعترض تشكيل الحكومة من عوائق يضعها الفريق العامل بالأوامر الأميركية ما يفرض تحمّل الجميع مسؤولياتهم والإعداد لمواجهة المؤامرة وعلى مستويات أربعة:
ـ المستوى الرسمي السياسي ويتمثل بالإسراع في تلبية مطالب الحراك الشعبي وعدم الاستجابة لما تطلبه أميركا بدءاً بتشكيل حكومة التكنوقراط، وصولاً الى موضوع الحشد الشعبي وما يرافق الأمر من تسريبات وحرب نفسية ليس أقلها تهكير صفحة مكافحة الارهاب و أعلان الانقلاب العسكري ، وما نصح به من تحضير خطط لمواجهة بين الجيش العراقي وحشده . وهو يعلم أنّ مثل هذا الصدام لن يكون الا لمصلحة إسرائيل ودول الخليج وامريكا ونشر الفوضى في العراق لعراق . وهذا يتقاطع مع ما يتسرّب من قول أميركي مطالبنا او الفوضى .
ـ المستوى الأمني الميداني، ويتمثل بمنع وضع الكتل الشعبية في مواجهة بعضها وبقيام قوى الأمن الداخلي والجيش العراقي بإبقاء الطرقات مفتوحة ومنع التعديات على حقوق المواطنين ومصالح الناس.
ـ المستوى الاقتصادي المالي، مع علمنا بأنّ العمل عليه أمر حساس وصعب لما تكمن فيه من الصعوبات في ظلّ سياسات مالية يقوم بها القطاع المصرفي، ولكن تنبغي مواجهة الحقيقة والواقع في إطار الحدّ من الخسائر حتى تمرير أشهر المواجهة غير القصيرة.
ـ المستوى الشعبي الأهلي المدرك بوعي ما يجري وعدم الانجرار او الانجراف في ما يخطط دعاة المؤامرة على كلّ الصعد السياسية والنفسية والاقتصادية والأمنية. إنّ الوعي الشعبي هو سلاح مهمّ للتصدي للمؤامرة. وهنا يدخل دور الإعلام الوطني الذي ينبغي ان يكون لرفع منسوب المناعة الوطنية والشعبية وليس العكس.