انطلقت في لبنان احتجاجات غير مسبوقة، بعد إعلان ضريبة جديدة على الإتصالات، يوم الخميس 17/10/2019، وشملت المظاهرات، انطلاقًا من يوم الإثنين 21/10/2019، جميع مناطق البلاد، واخترقت التقسيم الطائفي للمجتمع، وكان المتظاهرون أكثر عددًا من متظاهري "أزمة إدارة النفايات" في بيروت ومنطقة جبل لبنان سنة 2015، وخلقت المظاهرات عدة أزمات فرعية أدّت إلى استقالة أربعة وزراء، وأعلن رئيس الوزراء بعض الإجراءات التي تهدف تهدئة الوضع، لكن يبدو أن هذه المناورة لم تُؤْتِ أُكْلَها، وأعلن الصليب الأحمر اللبناني وفاة ما لا يقل عن إثنين وجرح مائة شخص، في منطقة بيروت لوحدها، وأدانت منظمة "هيومن رايتس ووتش" (تمويل حكومي أمريكي) "الاستخدام المفرط للغاز المسيل للدموع من قِبَلِ قوات الأمن الداخلي" التي اعتقلت ما لا يقل عن 132 متظاهرًا يومي الخميس 17 والجمعة 18/10/2019، وأطلق الحراس الشخصيون لنائب سابق النار، فقتلوا شخْصَيْن في طرابلس، يوم الجمعة 18/10/2019، ومع تراجع حدة التّوتّر في الشارع، انضمت العديد من العائلات والشباب من جميع الطبقات الاجتماعية والطوائف الدينية والخلفيات السياسية إلى ساحة الشهداء وساحة رياض الصلح، في بيروت، وفي مناطق أخرى من البلاد، وفي المدن الكبرى مثل صور والنبطية وطرابلس (ثاني أكبر مدينة بعد بيروت)، ويُجْمِعُ المتظاهرون على الإنطلاق العفْوِي للإحتجاجات، ما جعل أبناء الأحياء البرجوازية في شرق بيروت يختلطون بأبناء الأحياء الشعبية في الضاحية الجنوبية للعاصمة (لن يدوم ذلك لكنه حَدَثٌ هام في لبنان)، وحاول أنصار "القوات اللبنانية"، وبعض القوى التي تدعمها السعودية رفع شعارات مناوئة لحزب الله وأمل، وبالمقابل حاولت مليشيات أمل مَنْعَ المتظاهرين من عبور بعض المناطق في مدينة "صور" أو "النّبطية"، مما أدى إلى اشتباكات...
بلغ معدل النمو الإقتصادي السنوي في لبنان، قبل 2011، سنة الحرب والعدوان على سوريا، نحو 9% سنويًّا في المتوسط، لكن الحرب أضرّت كثيرا بالحركة التجارية وبالصادرات اللبنانية، وبحركة السياحة، فانخفضت نسبة النمو سنة 2018، ولم تتجوز 0,2%، بسبب الركود الاقتصادي، كما نزح أكثر من مليون لاجئ سوري نحو لبنان، واجتمعت هذه العوامل السلبية، مع الركود السياسي أيضًا، لتُضخّم من حجم الغضب الشعبي، وإضافة إلى أزمة الصادرات والتجارة الخارجية، ساهم القطاع المصرفي اللبناني في تدهور الوضع الاقتصادي، وفاق عجز ميزان المدفوعات ثلاثة مليارات دولارا، بنهاية الربع الأول من سنة 2019، بسبب انخفاض الصادرات والتباطؤ في تدفقات رأس المال، وتحويلات المغتربين اللبنانيين، وأصبح اقتصاد لبنان يعاني من انخفاض قيمة الليرة ومن نقص الدولارات، منذ نهاية شهر أيلول/سبتمبر 2019...
لم تكن هذه المخاطر مُفاجئة، بل كانت متوقعة، وناقشها "المانحون الدّوليون" في مؤتمر "سيدر" (باريس، نيسان/ابريل 2018) بهدف مواجهة مخاطر الركود الإقتصادي في لبنان، وتعهد هؤلاء "المانحون" (وهم ليسو مانحين وإنما مُقْرِضِين بفوائض )، ب"دعم اقتصاد لبنان بقيمة بقيمة 11 مليار دولار"، في شكل تبرعات وقروض (لم تَصِلْ بعدُ، وقد لا تصل أبدًا)، بشرط تنفيذ إصلاحات اقتصادية ومالية، وكلمة "إصلاحات" تعني دائمًا وبدون استثناء، في لغة الرأسمالية، زيادة الضرائب والأسعار وخفض التقديمات والحوافز والإنفاق الإجتماعي، ولذلك أعلنت حكومة الحريري وشركائه فرضَ ضرائب جديدة، بهدف سَدّ عجز الميزانية، ومن بين هذه الضرائب، ضريبة استخدام وسائل الإتصالات التي كانت بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس، وكانت سببًا مباشرًا في انطلاق المظاهرات والإحتجاجات، وما هي سوى جزء من إجراءات تقشف عديدة، وهي ضرائب غير مباشرة ، تلحق ضررًا كبيرًا بالطبقة العاملة، والفئات ذات الدّخل المتوسّط، وهي نفس الفئات التي تأثرت كثيرًا بالأزمة الاقتصادية، وبنظام الضرائب على الدخل والضرائب غير المباشرة على الاستهلاك، خصوصًا منذ الأزمة الإقتصادية العالمية في 2008، مقابل استفادة الأثرياء من هذا النظام الضريبي الذي وقعت صياغته على قياس أصحاب الدخل المرتفع، من أرباح الشركات ومكاسب رأس المال والمضاربة والعقارات...
يتميز لبنان أيضًا بارتفاع ثمن العلاج والأدوية، وبانقطاع الكهرباء، فيضطر المواطنون والتجار والشركات الصغيرة إلى شراء مُولدات، لتوفير التيار الكهربائي، مع انتشار الفساد، حيث احتل لبنان سنة 2018، المرتبة 138 من بين 180 دولة في أكثر البلدان فسادًا، وفقًا لمنظمة الشفافية الدولية، ولذلك كانت قضايا هدر المال العام، والفساد، من المسائل التي يُردّدها المتظاهرون في شعاراتهم ويافطاتهم، وتشترك كافة مكونات الحكومة (والأحزاب) في تقاسم "كعكة" موارد الدولة (أي موارد الشعب)، لأن النظام السياسي اللبناني، بمثابة "الديمقراطية التوافقية"، حيث يتم ضمان تمثيل كافة الطوائف والمذاهب، عبر نظام مُحاصَصَة وضعه الإستعمار الفرنسي، وبقي ساريًا، يضمن نوعًا من التوازن بين مختلف الطوائف، وهي تعبير عن طبقات اجتماعية تستفيد من النظام السياسي ومن نموذج الإقتصاد الريعي...
تتخوف بعض هذه القوى السياسية من أي حراك يُهدّدُ مصالحها ومكاسبَها، ولذلك تتحيّنُ الفُرصة للإلتفاف على هموم الفُقراء الذين تظاهروا من فرط الغضب ومن فرط القَهْر، وأظْهر بعض أُمراء الطوائف اللبنانية براعة فائقة في التّلوُّن والتقلب في المواقف، فاقت براعة الحرْباء، ومن بين هؤلاء وليد جنبلاط، الذي ورث عن أبيه زعامة "الحزب التقدّمي الإشتراكي" (وما هو بتقدّمي ولا باشتراكي) والمجرم سمير جعجع (القوات اللبنانية) الذي يَتَمَوْقَعُ على يمين اليمين المسيحي، مع حزب الكتائب (ملكية أسرة الجمَيّل)، ومن المعروف أن معظم الأحزاب والقوى الطائفية اللبنانية مَدْعُومة من قوى خارجية (أمريكا أو فرنسا) وعربية (كالسعودية) أو من إيران (حزب الله، وهو لا يُخْفِي ارتباطه بإيران)، وبدأت القوى التي تدعمها فرنسا والسعودية والولايات المتحدة تعمل على تقسيم صفوف المُحتَجِّين، وتخريب الوحدة التي ظهرت منذ بداية الإحتجاجات، للتهجّم على ميشال عون أو حزب الله، وترفض محاسبة اللصوص والمُرْتَشِين...
في المقابل عنّفت مليشيات حركة "أمل" و"حزب الله"، بدعم من بعض فرق الشرطة والجيش، المحتجين الذين أغلقوا الطرقات والجسور، لتتحول المواجهة في بعض مدن الجنوب عن أهدافها الأساسية، وتصبح صراعًا داخل صفوف الشعب...
نشرت "الوكالة الوطنية للإعلام" (رسمية) خبراً، يوم الإربعاء 23/10/2019، عن صدور قرار قضائي بمتابعة بعض الأعيان (ومن بينهم رئيس الحكومة السابق "نجيب ميقاتي" وبعض أفراد أُسْرته)، والمصارف، ومنهم مصرف "عودة"، بتهمة "الإثراء غير المَشْرُوع"، ونشرت سبق أن قامت "لجنة الرقابة على المصارف" بتحقيق عن عديد الأشخاص (قائمة ب22 شخص، ومن بينهم قُضاة) المتورّطين في قضايا "اختلال المال العام"، عبر الحصول على قروض سكنية مدعومة من قِبَل "مصرف لبنان" (المصرف المركزي)، ومن بين هؤلاء أفراد قاصرون (تحت سن 18 سنة) من عائلات أعيان نافذين، استفادوا من قروض سكنية (من المؤسسة العامة للإسكان) مَدعومة بقيمة حوالي تسعين مليون دولار، واستفاد العديد منهم بأكثر من قرض واحد، ويُفترض أن لا يستفيد من هذه القُروض سوى من لا يملك مسكنًا، من أصحاب الدّخل المحدود، وأن يُوافق حاكم مصرف لبنان على صرف هذه القُروض، واستفادت شركات أسرة الحريري (سعد وأيمن ونازك...) وشركات ومصارف أخرى، من بناء العقارات ومن القُروض المضمونة من المصرف المركزي، دون احترام شروط إسناد هذه القُرُوض...
خاتمة:
تأسّس لبنان بإرادة استعمارية، وجرى تقسيمه إلى طوائف ومذاهب، تتقاسم أجزاء من الوطن الصغير، المُقْتَطَع بدوره من سوريا، وأظهرت بعض الأحداث عُمق الإنقسام الطائفي، الذي يعكس انقسامًا طبقيا، لكن المُستَغَلِّين والمُضْطَهَدِين في هذه الدُّوَيْلَة لم يتمكّنوا (موضوعيًّا) من الخروج عن الحدود الطائفية المَرْسُومة، لأن ميلادهم وحياتهم وزواجَهُم ووفاتهم، وشُغْلهم، وجميع تفاصيل حياتهم مُرتبطة بالطائفة التي لم يختاروها، وإنما فُرِضت عليهم، وعندما حاولت نقابات الأُجَراء فَرْضَ تطبيق إجراءات "سلسلة الرّتَب والرّواتب" لم يجدوا دَعْمًا من الأحزاب المُمثّلَة في المجلس النيابي وفي الحكومة، ولم يدعم أي حزب، باستثناء القليل من الأحزاب غير البرلمانية، مطالب فك الإرتباط بالطوائف والزواج المدني و"توريث" الأم لأبنائها الجنسية اللبنانية، إذا كانت متزوجة بغير لبناني، وغير ذلك من الحقوق الأساسية الدُّنْيا التي يُحْرَمُ منها الرعايا اللبنانيون (رعايا الطوائف)...
إن الإحتجاجات الأخيرة جَمعت المُسْتغَلِّين والمُضْطَهَدين في نفس الساحات ونفس الشوارع، وهو ما لا يُرْضِي كافة الأحزاب المُمَثَّلَة في المجلس النيابي وفي الحكومة، لأن انتصار مثل هذه الحركات الإجتماعية يُشكّل بداية النهاية للنظام المَبْنِي على التّقسيم الطائفي، الذي يتقاطع مع التقسيم الطّبَقي، ولذلك، من الطبيعي أن لا يُساندَه أي قيادي أو زعيم من هذه الأحزاب، وأما الأمر الإيجابي في هذه الإحتجاجات، فيتمثل في وضع الإصبع على الدّاء: النظام برُمّتِهِ والوفاق الطبقي-الطائفي ونهب المال العام...