تمثل العلاقات العربية-البريرية في الجزائر واحدة من أهم الملفات الأكثر حساسية، ليس فقط لأنها ترتبط بالعرق واللغة والثقافة، ولكن بالنظر إلى التداخلات الإقليمية والدولية التي ميزت تاريخ الجزائر، وعلى رأسها خضوعها لاستعمار فرنسي طويل.
ويعتبر عثمان سعدي، السياسي والكاتب الجزائري من أصول أمازيغية، واحدا من ألمع الأسماء التي عملت على هذا الملف، لجهة وحدة الجزائريين تحت اليافطة العروبية.
إذا نظرنا إلى المجتمع الجزائري من زاوية المسألة القومية العربية، والوعي القومي الديمقراطي، فإنه يبدو جليا إلى أي حد هو في حاجة إلى إلقاء الأضواء على الأسباب الموضوعية والعوامل التاريخية التي شكلت عائقا دون تبلور وانتشار الوعي القومي العربي، لكي يصبح منغرسا في صلب المجتمع الجزائري بكل فئاته الاجتماعية، وليشكل جزءا من كيان الدولة، كما هو شأن الدين الإسلامي، الذي يتجاوز الوعي القومي.
إن غياب الوعي القومي مرتبط تاريخيا بطبيعة تشكل الدولة السياسية القائمة في الجزائر. فمن المعروف أن مناطق الأوراس والشرق والقبائل كانت مراكز ثقل الحرب التحريرية ضد المستعمر الفرنسي، وعندما تأسست الدولة الوطنية المستقلة تم إدارتها من قبل الأقلية الشاوية، وهي الأمازيغية المتعربة التي تحكم الجزائر منذ لحظة استقلالها. فعلى مستوى الرؤساء نجد كلاً من هواري بومدين والشاذلي بن جديد وعلي كافي واليمين زروال هم من أصول شاوية (البربر المستعربين)، وعلى مستوى رؤساء الحكومات نجد قاصدي مرباح وعبد السلام بلعيد ومقداد سيفي وأحمد أويحيى وعلي بن فليس وغيرهم ، هم كذلك من أصول شاوية أيضا..
البربرية هي التيار الذي أوجده الفرنسيون بالجزائر من أجل تفكيك الوحدة الوطنية فيها.
أما على مستوى ساحة العمل السياسي، فإن حزب جبهة التحرير الوطني الذي حكم البلاد طيلة ثلاثة عقود تنتمي معظم قياداته التي عمرت طويلا إلى أصول بربرية مثل محمد الشريف مساعدية ومحمد الصالح يحياوي. ولعل مراجعة للملاحق التي أوردها المؤرخ الجزائري اليساري محمد حربي في كتابه الشهير "جبهة التحرير الوطني بين الأسطورة والواقع" نجد أن معظم الإطار البشري القيادي في هذا الحزب هم من هؤلاء البربر.
إقرأ أيضا: لأول مرة في تاريخها.. الجزائر تصدر أول بيان بالأمازيغية
في كتابه الجديد، يستمر الدكتور عثمان سعدي في الدفاع عن عروبة الجزائر عبر التاريخ، من خلال تعرضه للمسألة الأمازيغية، تحت عنوان: "الأمازيغ (البربر) عرب عاربة، أوعروبة الشمال الإفريقي عبر التاريخ"، الذي يتكون من المقدمة، وخمسة فصول: "من هم الأمازيغ"، و"الأصول العربية للأمازيغ"، و"البعدان الوطني والقومي للثقافة الجزائرية"، و"حوار حول مقومات الشخصية الوطنية"، و"دور الشعر الجزائري في بث الوعي القومي"، إضافة للملاحق، التي تتضمن العديد من المقالات المنشورة عن المسألة البربرية في الجزائر، وضمنها ضمن هذا الكتاب.
تنامي النزعة البربرية BERBERISME:
في تعريفه للنزعة البربرية، يرى الباحث البربري المتعرب الدكتور عثمان سعدي، المتخصص في دراسة البربر، أن البربرية هي التيار الذي أوجده الفرنسيون بالجزائر من أجل تفكيك الوحدة الوطنية فيها. فقد عمل الفرنسيون قبل استقلال بلدان المغرب العربي، على عزل أقلية الجماعات الناطقة بالبربرية عن غالبية السكان العرب، ونشر التعليم الفرنسي والمبشرين بمناطقهم، وبث فيهم فكرة "أنهم هم أصحاب البلاد الأصليون، وأن العرب مستعمرون، وأن اللغة العربية دخيلة، وأنه لا بد من التكتل للتخلص من الوجود العربي، وأنهم أي البربر لا علاقة لهم بالعرب ولا بالساميين، وأن أصلهم أوروبي، وأن مجيء فرنسا لشمال إفريقيا هو لمساعدتهم على العودة إلى أمهم أوروبا" (ص33 من الكتاب).
ولأجل تطبيق خطتهم هذه، عمد الفرنسيون إلى نشر التعليم في المناطق البربرية، خاصة في منطقة القبائل التي قاومت جيوشهم بشراسة، من 1830 وحتى 1857. "فإحصائيات 1892 تبيّن أن المدارس الفرنسية المخصصة للجزائريين، انتشرت بالمناطق الناطقة بالبربرية، بنسبة خمسين في المائة من كل انتشارها بسائر القطر الجزائري، وأن نسبة 34 في المائة منه تركت في ولايتي تيزي وزو وبجاية". علماً بأن عدد ولايات الجزائر 48 ولاية، وأن ونسبة البربر لسائر السكان عشرون بالمائة، وفقاً لإحصائية الإدارة الاستعمارية.
أما الإرساليات التبشيرية المسيحية الفرنسية فقد لعبت دوراً كبيراً في التبشير للاستعمار الفرنسي، وسخّرت المسيحية لخدمته كما فعلت الكاثوليكية في العهد الروماني، فالكابتن لوغلاي، المشرف على التعليم بالجزائر يخطب في المعلمين الفرنسيين في بلاد القبائل، فيقول لهم:"علموا كل شيء للبربر ما عدا العربية والإسلام". ويقول أحد المبشرين: "إن السماح للمسيحية بأن تؤثر على الروح البربرية يعني ولا شك تفتيت الكتلة العربية، والقضاء عليها بقوة، ويعني تبعاً لذلك القضاء على الإسلام في أرضنا بشمال إفريقيا. لفائدة حضارتنا ولا يجوز أبداً السماح بتعريب البربر". ويقول (الكاردينال لا فيجري ch M lavigerie) في مؤتمر التبشير المسيحي في بلاد القبائل، سنة 1867: "إن رسالتنا تتمثل في أن ندمج البربر في حضارتنا التي كانت هي حضارة آبائهم، ينبغي وضع حد لإقامة هؤلاء البربر في قرآنهم، لا بد أن تعطيهم فرنسا الإنجيل، أو ترسلهم إلى الصحراء القاحلة بعيداً عن العالم المتمدن"، (ص34).
الإرساليات التبشيرية المسيحية الفرنسية فقد لعبت دوراً كبيراً في التبشير للاستعمار الفرنسي، وسخّرت المسيحية لخدمته
وكان الفرنسيون أجبروا سنة 1930 ملك المغرب على إصدار الظهير البربري، وهو مرسوم ملكي يعترف فيه للبربر بأن لا تطبق عليهم الشريعة الإسلامية في الأحوال الشخصية، وإنما يطبق عليهم العرف البربري، فتصدى له زعماء البربر أنفسهم، عندما توجه شيوخ قبائل آيت موسى وزمور إلى فاس، وأعلنوا أمام علماء جامع القرويين رفضهم للظهير البربري، وفشلت خطة فرنسا هذه. وفي نفس السياق عاملت الإدارة الفرنسية بالجزائر معاملة تفضيلية في (القضاء) ببلاد القبائل سنة 1841 - 1854.
وقام المقيم الفرنسي العام بالمغرب لوسيان بتأسيس (الأكاديمية البربرية) لإحياء اللغة البربرية، وكتابتها بحروف لاتينية. ووضع المستشرق الفرنسي (جود فري دي مونييه) مستشار التعليم بالمغرب، مشروعاً مفصلاً لهذا الغرض، سنة 1914، وفي سنة 1929 أقامت الإدارة الفرنسية بالمغرب كلية بربرية في (أزرو)، لإعداد حكام لتولي الإدارة بالمناطق البربرية، على أساس التنكر للعروبة، وفشلت هذه الكلية لأن معظم خريجيها صاروا من المناضلين الأشداء ضد الاستعمار الفرنسي.
مؤامرة النزعة البربرية في الأربعينيات:
ويرى الباحث المتعمق في دراسة البربر بالجزائر عثمان سعدي، أنّ أخطر مؤامرة حبكت على الشعب الجزائري، ما عُرف بالنزعة البربرية (Berberisme) التي كان مهندسها الحاكم الفرنسي العام شاتينيون، الذي أدرك أن سر قوة الحركة الوطنية في وحدتها، وأوعز إلى عملاء المخابرات الفرنسية أن يحرّكوا هذه النزعة داخل حزب الشعب الجزائري، العمود الفقري للحركة الوطنية. وقد خصص الأستاذ بن يوسف بن خدة أحد زعماء هذا الحزب، والرئيس الثاني للحكومة المؤقتة، في كتابه (مصادر أول نوفمبر 1954) فصلاً كاملاً لهذه الأزمة، تحت عنوان (أزمة النزعة البربرية)، في ثماني عشرة صفحة، لخصها عثمان سعدي على النحو التالي:
"في سنة 1949 تعرّض حزب الشعب الجزائري - حركة انتصار الحريات الديمقراطية الذي أسسه مصالي الحاج، لمؤامرة داخلية هددت وحدة الحزب والأمة الجزائرية، وعرفت هذه المؤامرة بالنزعة البربرية، وقد دعم هذه المؤامرة الحزب الشيوعي الجزائري. وكان المؤسسون للتيار البربري داخل حزب الشعب: علي لعمش، وحسين آيت أحمد الطالب بالثانوية؛ عمار ولد حمودة، وعمر أوصديق، الطالبان بمعهد المعلمين بحي بوزريعة بالعاصمة، وعلي بناي".
"في سنة 1946 أسّس حسين آيت أحمد، وولد حمودة، وعمر أوصديق، وبناي، نواة للمجموعة البربرية، وكانوا كلهم أعضاء في اللجنة المركزية، لحزب الشعب الجزائري - حركة انتصار الحريات الديمقراطية. وكان هؤلاء متأثرين بالماركسية، ويرفضون العروبة والإسلام، اللذين يعتبرهما حزب الشعب ثابتين من الثوابت الوطنية".
ومع انطلاقة الثورة الجزائرية في سنة 1954، والدعم الذي بدأت تتلقاه من الزعيم الراحل جمال عبد الناصر رائد القومية العربية بعد العدوان الثلاثي علىى مصر 1956، اتخذت الحكومة الفرنسية موقفًا صارمًا مناهضًا لتأسيس دولة عربية في الجزائر، فعملت على عقد اتفاقات مع الجماعات البربرية، لأن القبائل ورغم إسلامهم العميق فهم أقرب نفسانيًا إلى الشعب الفرنسي الميتروبوليتان (المدني)، وإقامة شراكة فرنسية - قبائلية (...). إن القبائل محتاجون لفرنسا (...) إننا نتمنى أن تصير الشراكة الفرنسية - القبائلية حقيقة وبسرعة، حسب قول الجنرال أندريه الذي أشار في كتابه "مساهمة في دراسة الطوائف الدينية المسلمة" إلى ضرورة الإعداد للمستقبل "لأن المسألة البربرية تطرح الآن (1956) بالجزائر وبالمغرب الأقصى" (ص 38).