في رحاب الضمير الإنساني الحي صيغت قواعد القانون الدولي الإنساني للذود عمَن طالته النزاعات المسلحة و أنهكته أوزارها دون أن يكون له دورا فاعلا فيها، منتهى مسعاه حماية الإنسان زمن الحرب عبر إرساء ترسانة من القواعد لو لم يحد عنها أطراف النزاع المسلح لماثلت ظروف الحرب ظروف السلم لفئات عدة. هذه القواعد و إن نأت في المراحل الأولى لنشأتها عن الطابع الإلزامي و اكتفت بصبغة أخلاقية تجيز لمن لايوليها بالا الإقدام على جميع أنواع التنكيل و التعذيب و اقتراف أشد الأفعال خطورة تجاه خصمه إبان الحرب، فإنه بتطور المجتمعات و في ظل ظروف معينة في أواسط القرن التاسع عشر ما فتئت تلك القواعد تتمتن و أضحت تتمتع بقوة الإلزام لتشكل فيما بعد فرعا من القانون الدولي العام أطلق عليه مسمى القانون الدولي الإنساني، في مفهومه الحديث يعرف بتعبير جامع بأنه مجموعة القواعد الدولية العرفية و المكتوبة التي تحمي الأشخاص الذين لا يشاركون في الأعمال العدائية أو كفوا عن المشاركة فيها و تحمي الممتلكات المدنية زمن النزاع المسلح دوليا كان أو غير دولي و تقيد حق أطراف النزاع في استعمال وسائل و أساليب القتال.
وتعتبر اتفاقيات جنيف الأربع لسنة 1949 المؤرخة في أوت 1949 -التي سيحتفل العالم قريبا و تحديدا في هذا الشهر بمرور سبعين سنة على إبرامها- و بروتوكولاتها الإضافيان لسنة 1977 المؤرخان في 08 جوان1977 أفضل الأطر القانونية المتاحة لتوفير الحماية اللازمة لكل شخص او لمجموعة الأشخاص المشمولين بها زمن العمليات العسكرية.
هذه القواعد المكتوبة تعاضدها مجموعة أخرى من الإتفاقيات الدولية المتفرقة في الزمان و المكان و تدعمها قواعد عرفية مستمدة من ممارسات متداولة لدول ملزمة لأطراف فاعلة في النزاع المسلح سواء تلك التي صادقت على القواعد المكتوبة أو لم تصادق عليها.
وجاءت اتفاقيات جنيف مفسرة لهذا ألمبدأ، حيث حددت مفهوم فئات الأشخاص التي تعرف بالمحمية وهم بصفة عامة الأشخاص الذين لا يشاركون في الأعمال العسكرية أو شاركوا فيها و كفوا عن ذلك و على سبيل الحصر هم:
1-الجرحى و المرضى بالقوات المسلحة بالميدان
2- الجرحى و المرضى و غرقى القوات المسلحة بالبحار
3- أسرى الحرب
4- المدنيون
وبناءا على مبدأ عدم التمييز بين الفئات المحمية الذي يقوم عليه القانون الدولي الإنساني يتمتع الأشخاص المشمولون بهذه الإتفاقيات بالحماية أثناء العمليات الحربية على قدم المساواة و دون تمييز بينهم على أي أساس كان سواء العنصر أو اللون أو الدين أو المعتقد أو اللغة أو الثروة أو المولد أو الجنس...فالمرأة تعامل مثلها مثل الرجل وهي تتمتع بالحماية الممنوحة للفئة التي تنتمي إليها.
غير أنها و فضلا عن ذلك فهي تصنف على أن لها حاجة أكثر من غيرها في الحماية فإلى جانب تلك المرصودة لها كفئة محمية سواء كانت مدنية أو مقاتلة يمنحها القانون الدولي الإنساني في كلتا الوضعيتين المذكورتين حماية خاصة تتجسد في حقوق إضافية لتكون بذلك متمتعة بحماية مزدوجة عامة تتشارك فيها مع غيرها من أفراد الفئة التي تنتمي إليها و خاصة تنفرد بها.
فالسؤال المطروح: ماهية دواعي تخصيص المرأة بحماية إضافية و الحال أنها مكتملة البنية الجسدية و العقلية و أن القانون الدولي الإنساني أقر مبدأ عدم التمييز بين الأشخاص المحميين؟
لعل الجواب يكمن فيما نصت عليه بعض قواعد القانون الدولي الإنساني التي أوجبت معاملة المرأة "بكل الإعتبار الواجب إزاء جنسها" ذلك أن هذه القواعد و لئن حظرت التمييز بين الفئات المحمية إلا أن إختلاف هذه الفئات أمر واقع يجعل من تطبيق مبدأ المساواة عليهم دون الأخذ بعين الإعتبار لهذا الإختلاف إذا ما استخدم بصفة مطلقة، قاصرا في حد ذاته عن تحقيق العدالة ، فللمرأة احتياجاته الخاصة التي ترتبط بطبيعة جنسها ووظيفته البيولوجية المتعلقة أساسا بدورها في الحمل و الولادة و الأمومة و احتياجات صحية خاصة بها تجعلها عرضة أكثر من غيرها للتأثر بالنزاعات المسلحة.
ولعله من نافلة القول أن المرأة لاتخوض تجربة الحرب كمدنية دائما ولا يتصور أنها تحتل مركز الضحية دائما فذلك لا يعكس كل الواقع، فهي تشارك بصفة فاعلة في النزاعات المسلحة و قد تكون مقاتلة حاملة للسلاح أو فردا من أفراد طاقم الطائرة أو السفينة الحربية...ففي هذه الصورة أيضا يتدخل القانون الدولي الإنساني لحمايتها عند مشاركتها في العمل العسكري و عند توقفها عن الأعمال العدائية لأي سبب من الأسباب.
ولدراسة أوجه حماية المرأة زمن النزاع المسلح كيفما حددتها قواعد القانون الدولي الإنساني سيكون على جزئين:
نتطرق في الجزء الأول إلى الحماية العامة للمرأة المدنية في القانون الدولي الإنساني و في الجزء الثاني إلى حماية المرأة زمن النزاع.
حماية المرأة المدنية في القانون الدولي الإنساني:الحماية العامة
إن الحماية العامة هي مجموعة الحقوق التي تشترك المرأة فيها مع جميع أفراد المجتمع سواءا كانوا رجالا أو أطفالا أو شيوخا مادامت توحدهم صفة المدني و يستظلون تحت مظلتها.
و المرأة المدنية هي التي لا تشارك بصفة مباشرة في الأعمال العدائية و هي –بطريق الإستبعاد- كل امرأة لا تنتمي إلى أفراد القوات المسلحة لأحد أطراف النزاع و الوحدات المتطوعة بمن فيهم أعضاء حركات المقاومة المنظمة...و لا تنتمي إلى سكان الأراضي غير المحتلة الذين يهبون لمقاومة القوات الغازية الحاملة للسلاح جهرا و الملتزمين بقواعد القتال.
وقد عرفت المادة الرابعة من اتفاقية جنيف لسنة 1949 المدنيين بكونهم "الأشخاص اللذين يجدون أنفسهم في لحظة ما و بأي شكل كان في حالة قيام نزاع مسلح أو حالة احتلال تحت سلطة طرف في النزاع ليسوا من رعاياه أو دولة احتلال ليسوا من رعاياها"و الشك في صفة المدني يؤول إلى إعتباره مدنيا.
وهذه التفرقة بين فئة المدنيين و فئة المقاتلين مبناها مبدأ التمييز بين الفئتين المذكورتين الذي يقوم عليه القانون الدولي الإنساني الذي أوجب على أطراف النزاع العمل دائما على التمييز بين السكان المدنيين و المقاتلين و بين الأعيان المدنية و الأهداف العسكرية و من ثمة توجيه عملياتها ضد الأهداف العسكرية دون غيرها. فالمرأة المدنية تتمتع بحماية عامة ضد جميع الأخطار الناجمة عن العمليات العسكرية و لا يجوز التعامل معها بصفة تسيئ لها بل يجب على أطراف النزاع معاملتها معاملة إنسانية كما أوجب القانون الدولي الإنساني على هذه الأطراف التقيد بمبدأ التناسب و الضرورة عبر تقييد و منع بعض وسائل و أساليب القتال.
الفقرة الأولى: حق المرأة في معاملة إنسانية
أضحى من البداهة القول- وفقا لما جاءت به اتفاقية جنيف الرابعة لسنة 1949 و البروتوكولان الإضافيان الأول و الثاني لسنة 1977- أن من واجب أطراف النزاع معاملة المرأة المدنية معاملة إنسانية و تتجسد هذه المعاملة في مجموعة من الحقوق منها أساسا:
-الحق في السلامة البدنية
كغيرها من الأفراد المدنيين تتمتع المرأة المنتمية لهذه الفئة بحماية عامة ضد جميع أثار النزاعات المسلحة فتحظر في حقها جميع التدابير التي من شأنها أن تسبب معاناة بدنية كما يجب المحافظة على صحتها و سلامتها و ذلك من خلال جملة من القيود المفروضة على أطراف النزاع و منها:
حظر التجويع: كثيرا ما تتسبب الحرب في تدمير مخازن الأغذية و المحاصيل الزراعية كما قد ينجر عنها تعطيل مرافق الإنتاج الفلاحي و الصناعي فتؤدي إلى شل الحركة الإقتصادية و بالتالي إلى حصول أزمة في الغذاء تؤثر حتما على الصحة و السلامة البدنية للمدنيين عامة و للمرأة المدنية بصفة خاصة و للحيلولة دون ذلك منع القانون الدولي الإنساني التجويع كأسلوب من أساليب الحرب و حظر مهاجمة أو تدمير أو نقل أو تعطيل المواد التي لا غنى عنها لضمان بقاء السكان المدنيين على قيد الحياة مثل المواد الغذائية و المناطق الزراعية التي تنتجها و محاصيلها و الماشية و مياه الشرب و شبكاتها و أشغال الري.
فأطراف النزاع يتحملون بواجب توفير السبل الضرورية للبقاء على قيد الحياة و في صورة عدم اضطلاعهم بهذا الدور أجازالقانون الدولي الإنساني للمنظمات الإنسانية تقديم المساعدات الغذائية اللازمة على أسس إنسانية محايدة و هو الأمر الواقع في أغلب الحروب المعاصرة إذ تتكفل اللجنة الدولية للصليب الأحمر و كذلك منظمة الهلال الأحمر بدور هام في تقديم شتى أنواع المساعدات، بالإضافة للدور الإنساني الذي تلعبه المنظمات غير الحكومية.
ويعد تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب انتهاكا جسيما لقواعد القانون الدولي الإنساني و هو بمقتضى النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية يعتبر جريمة حرب.
ضرورة تقديم الرعاية الصحية اللازمة: عادة ما تقوض الحرب إمكانية الحصول على الخدمات الطبية و الأدوية اللازمة بسبب عدم التمكن من التنقل إلى المصالح الإستشفائية نتيجة الأعمال القتالية الدائرة أو انعدام أو نقص الأدوية اللازمة بسبب عدم التمكن من التنقل إلى المصالح الإستشفائية نتيجة الأعمال القتالية الدائرة أو انعدام أو نقص الأدوية أو تدمير أو تعطيل عمل المؤسسات الطبية أو غياب الإطار الطبي...وهو ما يعود بالوبال على صحة المرأة المدنية ؛ فعلاوة على المرض الذي يكون الإنسان عرضة له لأسباب شتى ، تحمل النزاعات المسلحة مخاطر أخرى متعددة على صحته منها خطر الإصابة جراء العمليات القتالية كالإابة بطلق ناري أو بشظية أو بلغم أرضي أو الإصابة إثر هدم المساكن...وفي هذه الحالات من واجب أطراف النزاع الإعتناء بالمرأة المريضة أو الجريحة و توفير مايكفي من الإمدادات الطبية و السماح بحرية عبور المعدات الصحية و الأدوية دون قيد أو شرط و عليهم الإمتناع عن الإعتداء على المنشآت الصحية لضمان قيامها بالمهام الموكولة لها (المادة 16 من اتفاقية جنيف الرابعة) و في النظام الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية يعتبر الهجوم على المؤسسات الإستشفائية جريمة حرب.
حماية المرأة النازحة أو اللاجئة: بحثا عن ملجإ آمن و هروبا من أهوال الحرب قد ترغم المرأة على هجر مسكنها و مغادرة مدينتها أو قريتها التي ألفت العيش بها و ما يستتبع ذلك من فقدان لممتلكاتها و تهديد لمورد رزقها. فالنزاع المسلح يدفع في أحيان كثيرة إلى النزوح داخل البلد الواحد أو إلى اللجوء من بلد إلى آخر بحثا عن ملاذ أكثر أمن يكون بعيدا عن مناطق العمليات العسكرية قدر الإمكان.
ولا يخفى على كل ذي لب ما تحمله رحلة النزوح أو اللجوء من مخاطر على المرأة التي تجد نفسها فجأة دون مأوى و دون مورد رزق و ربما بلا غذاء و دون رعاية صحية فضلا عما يحمله التنقل في حد ذاته من مخاطر خاصة إذا تم سيرا على الأقدام و ما قد ينجر عن ذلك من إمكانية الإصابة جراء إنفجار الألغام الأرضية و الذخائر الحية... وقد يتشتت أفراد أسرتها و تنفصل عنهم كأن تنفصل عن أبنائها القصر أو عن زوجها أو عن والديها أوهي فتاة لم تتزوج علاوة على ما يحمله هذا الوضع من ألم نفسي و ما يبعثه من خوف. فحتى و إن إستطاعت الوصول إلى مخيم لللاجئين فإن ذلك لا ينهي المعاناة و لا تجاوز فيه للمراحل الخطرة ذلك أن العيش في مخيم و الذي عادة ما يكون مكتظا قد يحمل مخاطر التحرش و شتى الإعتداءات الجنسية كما قد لا تتوفر فيه مرافق النظافة و الصحة اللازمة فضلا عن السكن الهش الذي يكون في أحيان كثيرة في خيام لا تقوى على مقاومة الظروف الطبيعية الصعبة.
وعلى المستوى القانوني يوفر القانون الدولي الإنساني الحماية للمرأة اللاجئة عبر الحدود الوطنية شريطة أن تكون الدولة المضيفة أيضا في حالة نزاع مسلح أما المرأة النازحة داخل حدود بلدها فإنها تمثل جزءا من السكان المدنيين الذين يحق لهم التمتع بالحماية الكاملة و الحقوق المنطبقة على المدنيين و قد حجر القانون الدولي الإنساني إجبارها على النزوح بشكل تعسفي كمبدإ عام و لم يجز ذلك إلا إستثناء إذ جاء بالمادة 17 من البروتوكول الإضافي الثاني لسنة 1977 و المتعلق بحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية أنه "لا يجوز الأمر بترحيل السكان المدنيين لأسباب تتصل بالنزاع مالم يتطلب ذلك أمن الأشخاص المدنيين المعنيين أو لأسباب عسكرية ملحة و إذا ما اقتضت الظروف إجراء مثل هذا الترحيل يجب اتخاذ كافة الإجراءات الممكنة لإستقبال السكان المدنيين في ظروف مرضية من حيث المأوى و الأوضاع الصحية الوقائية و العلاجية و السلامة و التغذية".
أما إذا لم يتخذ أطراف النزاع الإجراءات اللازمة الملمع إليها فقد خول القانون الدولي الإنساني للمنظمات الإنسانية على غرار اللجنة الدولية للصليب الأحمر و الهلال الأحمر توفير المساعدات اللازمة بدون تحيز، و يعتبر إبعاد المرأة المدنية أو النقل القسري لها جريمة ضد الإنسانية إذا ما ارتكبت في إطار هجوم واسع النطاق و منهجي ضد السكان المدنيين عملا بأحكام المادة السابعة من ميثاق روما.