في الـ 9 تشرين الثاني عام 2009 أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة اعتبار يوم الـ 18 من يوليو / تموز من كل عام «يوماً عالمياً لنيلسون مانديلا» تقديراً وعرفاناً لدفاعه عن قيم السلام والحرّية والتسامح وحقوق الإنسان والمساواة ومناهضة التمييز العنصري، الذي قضى جلّ حياته يناضل من أجلها. وأصبحت تلك المثل والمعاني الإنسانية ملازمة له، سواء في سجنه المعتّق، والذي دام 27 عاماً، أو بعد تحرّره وإطلاق سراحه، ولا سيّما عند انتخابه رئيساً للجمهورية عام 1994، فلم يدع الكراهية أو الحقد أو الانتقام تتسلّل إلى قلبه وتسيطر على عقله، لأنه ترك الماضي وراءه، وكان يتطلّع إلى المستقبل بثقة وأمل.
وكان مكسيم غوركي الروائي الروسي قد وصف أحد ثوريّي عصره بأنه كان «نصف عقله يعيش في المستقبل»، وأظن أن مثل هذا الوصف ينطبق بدرجة كبيرة على مانديلا، فحين أصبح رئيساً لجنوب إفريقيا شرع بإعداد خطة للمصالحة الوطنية عبر مقتضيات العدالة الانتقالية، ولم يبقَ أسير الماضي، بل ذهب بنظره بعيداً إلى المستقبل، ولا سيّما في البحث عن سبل التعايش بين الأجناس والأعراق والتكوينات وعن المشترك الإنساني القاسم المشترك الأعظم.
وتستوجب العدالة الانتقالية المساءلة لما حصل، وذلك لكشف الحقيقة كاملة، ليطلع عليها الضحايا أو عوائلهم، ومن ثم لجبر الضرر على المستوى الاجتماعي والأخلاقي، بهدف إبقاء الذاكرة حيّة وإطلاق أسماء الضحايا على مؤسسات ومرافق عامة ثقافية واجتماعية، إضافة إلى التعويض المادي والمعنوي على المستوى الشخصي.
ولكيلا يتكرّر ما حصل، لا بدّ من إصلاح الأنظمة القانونية والقضائية والأمنية، وتهيئة الظروف المناسبة للانتقال الديمقراطي عبر مصالحة وطنية بعيداً عن الثأر والكيدية، في ظل أوضاع انتقالية، تتجه فيها البلاد للانتقال من ضفة إلى أخرى، ومن حكم عنصري «أقلوّي» إلى حكم ديموقراطي «تعدّدي».
وفي عام 1989 أُسست «مؤسسة مانديلا»، ودعت كل فرد إلى تخصيص 67 دقيقة من وقته لمصلحة «العمل من أجل الآخرين»، وتعود رمزية الرقم 67 إلى أن مانديلا قضى 67 عاماً من حياته في خدمة الآخرين ومساعدتهم، فمقابل كل عام دقيقة، وإذا ما أضيفت الجهود الجماعية إلى بعضها، فستكون لها قيمة حقيقية، سواء على مستوى المؤسسة أو الجمعية أو منظمة المجتمع المدني أو الحي أو البلدة أو المدينة أو الدولة، فضلاً عن هدفها الإنساني وتأثيرها النفسي في المضحي بجزء من وقته أو راحته أو ماله أو على الآخر الذي يحتاج إليها.
وإذا كان الاحتفال هذا العام اختار شعار «العمل من أجل الآخرين»، فإنه في سنوات سابقة رفع شعارات عديدة منها «العمل ضد الفقر»، أو ضد «مرض نقص المناعة - الإيدز» أو غيرها، والذي كانت ترافقه حملات توعوية وتعليمية تتعلّق بالشعار الأساسي، فضلاً عن مساعدة اللاجئين والنازحين والمهاجرين من إفريقيا ومن البلدان النامية، بما فيها من البلدان العربية.
ومنذ عام 1999 بدأت مؤسسة مانديلا عملاً مكثفاً في المجال الإنساني مركزة على التنمية الريفية والتعليم، وخصوصاً بناء المدارس والصحة، ولا سيّما ضد وباء «الإيدز»، فضلاً عن سوء التغذية ونقصها وضعف وتدهور التعليم وازدياد البطالة واتساع نطاق الهجرة، ولعل جميع تلك الإشكاليات حين لا تجد حلاً مناسباً وإنسانياً، فإنها ستكون تربة صالحة لتفقيس بيض العنف بكل أشكاله وألوانه ومبرّراته، بما فيه «الإرهاب الدولي»، ولا سيّما في ظلّ التعصّب والتطرّف التي تولّده تلك التحديات الأساسية.
لقد تسامى مانديلا على الأحقاد والضغائن، وجنح خارج ردود الفعل إلى الفضاء الإنساني، وسعى لمشاركة وشراكة الجميع وفقاً لمبادئ المواطنة التي آمن بها، والتي تقوم على الحرية والمساواة والعدالة، إضافة إلى المشاركة، وكانت مساعدة المستضعفين والنساء والأطفال هدفاً أساسياً لديه، خصوصاً في المجتمعات الأقل تطوراً، بل إنه كان يشعر بالسعادة حين يساعد الآخرين، فثمة تلازم بين التضحية والعطاء، وإذا كان الأخير للغير، فإن التضحية للنفس، وهكذا يجد الإنسان قيمة في نفسه يريدها قيمة عند الآخر، وكلّ ذلك جزء من العمل الخيري والتطوّعي.
ووفقاً لعلم النفس الاجتماعي، فإن الإنسان يشعر بالرضا والتأثير الإيجابي الذي يحدثه عمل الخير لمصلحة الآخرين، وقد توصل مانديلا إلى ذلك من خلال سيرته المهنية والقانونية وفترة سجنه ومعاناته وقناعته بأن العنف لن يولد إلّا العنف، وإنّ أي تقدّم حقيقي لن يحدث إلّا في ظروف السلام والتعايش والتسامح، وكان نيله جائزة نوبل للسلام حافزاً جديداً ومسؤولية إنسانية مضاعفة لمواصلة مشواره بعد إنهاء نظام الفصل العنصري الذي حكم البلاد أكثر من قرنين من الزمان، وهو الذي كان يردّد «لا يمكن إيقاف سيرنا نحو الحرية، وعلينا ألا نسمح للخوف بأن يقف في سبيلنا».
إن 67 دقيقة من عمل الخير من كل عام لا تعيق مسيرة أي إنسان، بل على العكس تسهم في «أنسنته» وجعله يرفل بالسعادة والراحة، فعسى أن يكون لكل إنسان 67 دقيقة!