(بمناسبة مرور سبعين عاماً على إعدام أنطون سعادة من قِبل السلطات اللبنانية في الثامن من تموز 1949).
يداهمني السؤال: هل كان ذلك عدلاً؟ وكيف نقوّم العدالة في ظرف كهذا؟
العدالة مفهوم نسبي يرتبط بدرجة التقدم التي وصل إليها المجتمع، فالعدل في المجتمعات القبلية مغاير تماماً لمفهومه في الدول الحديثة.
أمضى سعادة 44 حولاً من حياته محاولاً نقل أمته إلى مصاف الأمم الحية المبدعة والخلّاقة، تراءت له جامعة لكل صفات الحق والخير والجمال إن فُكت القيود الخارجية والداخلية عنها. أضحى تحريرها همّه الأوحد، فهو اعتبر أن «الحياة دون الحق والحرية عدم» وأن «الانتصار لا يكون إلا بالحرية، فالحرية صراع» (1).
صراع مرير أمضاه في مواجهة الاحتلالين الفرنسي والبريطاني لوطنه السوراقي، رافضاً تقسيمه، ومحذّراً من ضياع فلسطين إن لم تتصدَّ كل دويلات سوراقيا للهجمة الاستعمارية والصهيونية الاستيطانية، وصراع آخر أشد مرارة مع سياسيي الداخل المتواطئين مع الخارج لمنع المجتمع من التحرر والتقدم.
ثار على رجال الإقطاع الذين يعاملون الفلاحين كالعبيد، وثار على أنظمة الحكم في الدويلات السوراقية التي تريد أتباعاً لا مواطنين، فتمنع الحريات الشخصية والسياسية، ومنها حرية إبداء الرأي، وحرية الاجتماع، وسعى لاستبدال الدويلات الطائفية بدولة وطنية قومية علمانية سوراقية تفصل ما بين الشؤون الدينية وشؤون الدولة المدنية، ذلك أن الدولة العادلة عليها أن تؤمّن المساواة الكاملة بين المواطنين والمواطنات بمعزل عن دينهم ومعتقدهم وعرقهم وجندرهم. نادى بدولة القانون، القانون الوضعي العقلاني الذي يتناسب ورقي المجتمع، ورأى أن السياسة تُبنى في العالم الحديث على تنافس الأحزاب وبرامجها المختلفة لا على تناحر الأشخاص ومصالحهم الخاصة، إلا أنه قبل كلّ ذلك شدد على «التراحم الداخلي الذي هو أساس كلّ مجتمع لا يريد أن يخرب».
أراد سعادة تغيير أسس المجتمع وتطويره كي لا يبقى رهينة الاستعباد، وكي يعيش مواطنوه حياة هادفة متقدّمة رائدة؛ بعبارة أخرى، أراد سعادة الأفضل والأجمل لوطنه السوراقي، فشنّ حربه على جبهتين: مقالات يومية تهاجم المشاريع الاستعمارية الغربية وتفضح أدواتها، وحرب داخلية على التخلف والتفسخ ضمن مجتمع منقسم إلى طوائف تتناحر إلى حدّ تدمير الوطن فيستحيل لقمة سائغة في فم المستعمر.
عمل سعادة على تطوير الوعي المجتمعي الموحّد، إلا أن القوى التي كانت متسلّطة على الحكم قررت القضاء عليه قبل أن تقضي أفكاره عليها.
الطريقة التي قُبض بها على أنطون سعادة والطريقة التي أُعدم بها تُظهر كم هو متخلّف مفهوم العدالة في بلادنا، فلا رئيس جمهورية سورية آنذاك توانى عن تسليمه غيلة إلى السلطات اللبنانية بعدما أعطاه الأمان، وعده ضيفاً مكرماً، ولا بعض رجالات الحكومة اللبنانية احترم أبسط قواعد حقوق الإنسان، فطُلب من مدير الأمن العام قتله على الطريق ما بين المصنع وبيروت، فأبى مدير الأمن القيام بالمهمة وسلمه للقضاء اللبناني.
خضع القضاء لضغوط السياسيين الذين يريدون التخلّص من رجل يريد بناء دولة حديثة تلغي مزارعهم ومحاصصاتهم، كما خضعت الحكومة لموقف الدول الغربية التي أرادت القضاء على مقاوم للاستعمار ورافض للكيان الصهيوني، فليس صدفة أن سعادة أُعدم مباشرة بعد قيام دولة «إسرائيل» عام 1948.
تمت محاكمة صورية باعتراف الجميع، ولم يؤخذ بالمهل القانونية للمرافعة والدفاع، وصدر الحكم في اليوم نفسه الذي سُلم به سعادة. ويظل يحز في نفسي سؤال مؤلم: هل كانوا تجرأوا على تصفية أنطون سعادة فيما لو كان قائداً طائفياً متحزباً لطائفته؟ فالرجل السياسي الوحيد الذي أعدمته السلطات اللبنانية منذ الاستقلال وحتى يومنا هذا هو أنطون سعادة بالرغم من ارتكاب بعض السياسيين مجازر بشعة خلال الحرب الأهلية (1975-1990).
إن إعادة الاعتبار لسعادة هي إعادة الاعتبار للوطن وللمواطن، ولحرياته الأساسية من حرية معتقد وحرية اجتماع ورأي.
إعادة الاعتبار هي الوقوف في وجه الطائفية التي تحطم أواصر الصلة بين المواطنين وتمنعهم من الارتقاء إلى حياة أفضل.
إعادة الاعتبار هي في رؤية بلادنا قد تحرّرت من قيود الاستعباد والذل، وداست على معاهدات المستعمرين الذين أمعنوا فيها تقطيعاً وتقسيماً، وسارت على طريق الأمم المستقلة الحية والراقية.
آنذاك يكون قد وصل أنطون سعادة حقه، إذ أنه أحب بلاده أكثر من نفسه، وهو القائل: «نحن أمة تحب الحياة لأنها تحب الحرية، وتحب الموت متى كان الموت طريقاً إلى الحياة» (2).