استُهدفت سوريا بحرب دولية ـــ إقليمية، لأنها حلقة مركزية في محور المقاومة. غاية الحرب، من منظور القوى التي شنّتها، كانت كسر هذه الحلقة لاستفراد أطراف هذا المحور وتصفيتهم أو إضعافهم. أقلّ ما يمكن قوله، على الرغم من الأكلاف البشرية والمادية الهائلة، أن الحرب فشلت في تحقيق تلك الغاية، وأفضت إلى نتيجة عكسية
محور المقاومة وأطرافه في لبنان وفلسطين وسوريا وإيران مستهدفون من قِبَل الولايات المتحدة، لأن سياساتها في المنطقة «تأسرلت» منذ زمن بعيد. جميع حروب واشنطن على المنطقة، منذ نهاية الثنائية القطبية، بما فيها حربها على العراق عام 1991، حروب من أجل إسرائيل قبل أيّ اعتبار آخر، بما فيه النفط. الحفاظ على التفوق العسكري النوعي الإسرائيلي على دول الإقليم، وهو جزء من منظومة السيطرة الأميركية، أحد ثوابت استراتيجية واشنطن في هذه البقعة من العالم. أي قوة إقليمية أو تحالف إقليمي يهدّد هذا التفوق يواجَه بأنماط متعددة من الحرب، تتلاءم مستوياتها مع موازين القوى بمعناها العام، لا العسكري الحصري.
النتيجة العكسية للحرب على سوريا، أي نجاح محور المقاومة في صدّها والشروع في عملية تطوير لقدراته العسكرية والصاروخية، هي سبب التصعيد الأميركي الجديد ضد أطرافه. الضغوط القصوى والحشد العسكري ضد إيران يندرج في هذا الإطار. الحجج التي توردها إدارة ترامب لتبرير سياستها العدوانية تجاه إيران كثيرة، لكن توقيتها وحدّتها الحالية يرتبطان أولاً وأساساً بدورها في عملية التحول التدريجي والمستمر لميزان القوى لغير مصلحة إسرائيل. وسوريا، كشريك مركزي في هذه العملية، مستهدفة أيضاً بـ«الضغوط القصوى»، إحدى مسميات الحرب الهجينة التي بادرت بها الولايات المتحدة، بصيغ ودرجات متفاوتة، ضد أطراف محور المقاومة. مصادر مطلعة على النقاش في واشنطن قالت لـ«الأخبار» إن المعنيين بالملف السوري في إدارة ترامب يدفعون باتجاه تسعيرها واستخدام شتى الوسائل والأدوات لذلك.
«النموذج العراقي»
أحد المعنيين بالملف السوري في الإدارة الأميركية أسرّ إلى المصادر أن المطلوب إيصال سوريا إلى ما كان عليه حال «عراق التسعينيات». في تلك الحقبة، فرضت الولايات المتحدة بتواطؤ «الشرعية الدولية» وجميع دول العالم حصاراً إجرامياً على العراق، كانت له آثار تدميرية على بناه الاقتصادية والاجتماعية والطبية والتعليمية. خلال عدوان 1991، أعلن قائده، الجنرال الأميركي نورمان شوارزكوف، أنه سيؤدي إلى «إعادة العراق إلى العصر الحجري»، والمتابع لما حلّ ببلاد الرافدين بعده، يدرك أن هذه الأقوال قُرنت بالأفعال. المصادر المذكورة سألت المسؤول الأميركي عن الهدف الذي تريد إدارة ترامب تحقيقه من اتباع سياسة شبيهة حيال سوريا، لكن الإجابات كانت غامضة ومشوّشة: «يزعمون أنهم ليسوا بصدد العمل على تغيير النظام في سوريا، بل اجباره على تغيير سياساته. هم يعتقدون أن الحصار الاقتصادي وإعاقة إعادة الإعمار، ومنع الجيش من استكمال استعادة سيطرته على مجمل الأراضي السورية، بما فيها مناطق ريف حماة الشمالي وإدلب، وبالطبع منطقة شرقيّ الفرات، سينجم عنها تفكك اجتماعي يوازي الانهيار، ما يضع النظام تحت ضغوط هائلة».
في الماضي، سعت إدارة كلينتون إلى إبقاء العراق في حال من الضعف الشديد في إطار سياسة الاحتواء المزدوج تجاهه وتجاه إيران، حتى وصل بوش الابن وفريقه إلى السلطة، واتخذا قراراً بغزو العراق وإسقاط نظامه عام 2003. أما إدارة ترامب اليوم، فهي ليست في صدد غزو سوريا. عدم الإفصاح عمّا تريده بوضوح، أو حديثها الممجوج عن «الانتقال السياسي»، لا يعني أنها لا تتحرك ضمن خطة خاضعة لأولوياتها الراهنة في الإقليم ،وفي مقدمتها وقف تطوير القدرات العسكرية والصاروخية لمحور المقاومة في سوريا. تشير المصادر إلى أن عرّابي السياسة «السورية» للإدارة، جيمس جيفري، الممثل الخاص للولايات المتحدة حول سوريا، وجويل ريبرن، نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون المشرق، وأندرو تابلر، مسؤول ملف سوريا في مجلس الأمن القومي، يعتقدون أنّ ضغوطاً قصوى اقتصادية ومالية على سوريا، بالإضافة إلى وقف تقدم الجيش، وفرض وجود «أقاليم محررة» خاضعة للمعارضة، على غرار إقليم الشمال الكردي في العراق في التسعينيات، يكفلون توافر الشروط المطلوبة. وتلفت المصادر إلى أن مثل هذا الرأي منتشر أيضاً في أوساط الديبلوماسيات الأوروبية. «الخطة تستند إلى ضرورة حرمان النظام موارد النفط والغاز، ومن القسم الأعظم من الثروة الزراعية والحيوانية ومن السدود المائية، الموجودة في معظمها في مناطق خارجة عن نطاق سيطرته».
ولكن، ألن يشكل التعامل مع «هيئة تحرير الشام»، الفصيل الرئيس في المعارضة، ووريث جبهة النصرة المصنفة تنظيماً إرهابياً، عقبة بالنسبة إلى الأميركيين والأوروبيين؟ «هيئة تحرير الشام» شرعت في عملية إعادة تموضع في الفترة الماضية، من أجل تسهيل التعامل مع الأطراف الغربية. هي شكلت غرفة عمليات مشتركة مع مجموعات تُعَدّ معتدلة من قِبَل الغربيين وتتمتع بدعمهم، وحصرت دورها في الجوانب العسكرية والأمنية، ووافقت على تلزيم إدارة شؤون السكان لحكومة إنقاذ في إدلب منبثقة من جهات متعددة، بعضها مرتبط بها وبعضها على صلة بتنظيمات أخرى أو بمنظمات غير حكومية محلية، وفيها أيضاً شخصيات مستقلة تركية الميول.
ما زالت هناك أطراف مترددة في واشنطن وعواصم أوروبية حيال تبني مثل هذا السيناريو، غير أن «المدافعين عنه يتزايدون». وعند السؤال عن تركيا وإمكانية التعاون معها، على رغم الخلاف المتنامي بينها وبين الولايات المتحدة، وآخر تجلياته صفقة منظومة «S400» التي عقدتها مع روسيا، أكدت المصادر أن هذا الخلاف «لن يمنع احتمال التقاطع في الشمال السوري، لوجود تقاطع بين رغبتها في الحفاظ على موطئ قدم فيه، وأولويات الأطراف الغربية في المرحلة الحالية». هذه المعطيات تؤشر جميعها على أن المواجهة في المنطقة إلى احتدام، وأن دينامية المعركة الرئيسة الدائرة فيها بين محور المقاومة من جهة، والمحور الأميركي ـــ الإسرائيلي وحلفائه من جهة أخرى، ستفضي إلى ترابط أكبر مع المعارك الأخرى المشتعلة في أرجائه.
من ملف : سوريا ما بعد فشل الحرب: الحصار بديلاً