تزداد أهمية الحرب النفسية وترتفع درجة أولويتها نظراً للنجاحات التي حققتها في أحد أبرز مصاديقها الحرب الناعمة التي استطاعت بواسطتها أمريكا في العقدين الأخيرين من قلب أنظمة الحكم في دول عديدة لصالحها عبر ما عُرف بالثورات الملونة. وتُعزى تلك الأولوية أيضاً إلى ضآلة كلفتها البشرية والمادية والمعنوية مقارنة مع الحرب التقليدية العسكرية، فالحرب النفسية هي وسيلة،كما الحرب التقليدية العسكرية، تُوجّه نحو الخصم من أجل إخضاعه وهزيمته من خلال كسر إرادته على القتال. لكنها تختلف في أدواتها عن الحرب العسكرية، إذ أنها تعتمد الأدوات الناعمة من غزو ثقافي وحملات إعلامية مركزة. وتكمن خطورتها في أنها مراوغة مخادعة تتسلل الى ساحة الخصم لتكسر إرادته دون أن يشعر بها.
وفي ميدان حركات المقاومة ومن أجل تحقيق تلك الغاية فإن العدو يركز في حربه النفسية على ضرب ميزتها التنافسية. ومن المعلوم أن تلك الميزة تعتمد على السمعة الطيبة أو الصورة المشرقة لحركات المقاومة في بيئتها التي تتشكل من خلال صدق التزام حركات المقاومة بقيمها وقضايا أمتها وتركيزها على جهاد العدو عسكرياً وتعففها عما دون ذلك.
وتكمن أخطر تهديدات الحرب النفسية على حركات المقاومة في استهدافها لدعائم ميزتها التنافسية عبر تركيزها على هدفين أساسيين:
1 . تشويه وتعتيم الصورة المشرقة لحركة المقاومة.
2. تثبيط حركة المقاومة عن الجهاد وصولاً إلى عدم اعتماده كسياسة مركزية للتحرير.
أما الهدف الأول فيعتمد العدو في سبيل تحقيقه بشكل أساسي على الإشاعة التي يشنها وفق خطة محكمة هادفة إلى إضعاف القدرة الاستقطابية لحركة المقاومة ومركزاً فيها على السلوكات الحركية والشخصية لقادة المقاومة في المستويات الإدارية العليا والوسطى، لاصقاً فيهم التهم الباطلة.
لتصبح وجوههم في أذهان الناس مسودّة منفّرة وتسودّ بسبب ذلك صورة حركة المقاومة. وإن آلم وأقسى ما يكون الاستهداف به، هو إتهامهم بالقيام بسلوكات متناقضة مع ما تعتقده وتدعو إليه حركة المقاومة من عقائد ومبادئ وقيم، من قبيل ممارسة أمور غير أخلاقية، كترويج وتهريب المخدرات، وغسيل الأموال، وتسهيل وإدارة شبكات الإتجار بالبشر والدعارة، أو السعي للحصول على السلطة والتنعّم بخيراتها أو ضرب التوجه الوحدوي الرامي إلى توحيد الطاقات ووضعهم في حلقة الفئوية والطائفية والمذهبية والحزبية الضيقة، كل ذلك للإيحاء بأن حركة المقاومة غير صادقة في تبني وتفعيل منظومتها العقائدية والقيمية في سلوكاتها بغية بث بذور التدمير الذاتي عند الأتباع والنفور والكره والتردد عند المؤيدين والمحايدين وجعل بيئة الحركة مشحونة بالمقت والإنكار والشك والريبة.
وللصدق دور محوري في تحقيق النصر على العدو عند حركات المقاومة. فالناس إذا ما اعتقدوا بصدق المقاومة سلّموا لها زمام أمورهم في ميدان مواجهة العدو وأقبلوا عليها ودعموها بما يستطيعون من قوة معنوياً وبشرياً ومادياً.
وتتمثل الخطورة في التهديد الناشئ عن الإشاعة في سرعة انتشارها كالنار في الهشيم لتصيب بشرارها مساحة واسعة من القاعدة الشعبية الحاضنة والمؤيدة لحركة المقاومة أو المحايدة اللصيقة بها، وفي زرعها لبذور الشك والريبة والتردد وخلقها لحالة من الضبابية والتشويش لدى تلك القواعد الشعبية. وهذا الأثر الهدام التي تحدثه الإشاعة في وعي القواعد الشعبية لا يمكن إزالته بسهولة وهو بحاجة إلى ممارسة جهد تواصلي شاق وحثيث مع هذا الجمهور من قبل قادة حركات المقاومة على اختلاف مستوياتهم لنفي الاتهامات والإجابة على التساؤلات وإزالة الالتباسات حتى لا يعظم عند هذا الجمهور الصغير ويصغر الكبير ويختلط الحق بالباطل.
وأما الهدف الثاني المتمثل في ثني حركة المقاومة عن الجهاد العسكري فيأتي فن الإغراء بالسلطة كسياسة معتمدة من قبل العدو بشكل أساسي لتحقيقه، لكي يَضِلّ من خلاله بعض قادة المقاومة ويستأثروا بما تؤمنه السلطة في بلدهم من موارد وينغمسوا في ملذاتها ومفاتنها ومنازعاتها وصراعاتها وشحنائها وعداواتها.
وتكون عاقبة ذلك أن يضعف تركيزهم على الجهاد وتخبو عزيمتهم على القتال ويتشوه جراء ذلك النموذج المقاوم المضحي المخلص للقضية المتعالي عن شهوات السلطة ومتاعها وزخارفها لتتهم حركة المقاومة بالكذب وعدم العفة.
فإن لم يستطع الإغراء بالسلطة من قبل العدو تحقيق ذلك كله، فإنه بالتأكيد يشرّع الباب لنقاش داخلي حول أهمية اعتماد الجهاد العسكري كسياسة، ليفجر الحركة من الداخل بين معارض ومؤيد لذلك ويشظّيها ويجعلها فرقاً وشعباً مطيحاً بوحدتها وتماسكها.
كل ذلك يؤدي دونما شك إلى أن يذهب ريح الحركة وتُظلِمَ صورتها المشرقة ويخف تمسك قادتها بالجهاد العسكري كوسيلة وحيدة لتحقيق النصر، وصولاً إلى شطبه بشكل تدريجي من قاموس الوسائل.
والعدو إنما يقوم بذلك لأنه يُدرك أن الناس بطبيعتهم النفسية مقاومين أو مؤيدين للمقاومة، ينزعون فطرياً نحو الراحة والسلام ويكرهون القتال.
والجهاد يتطلب صبراً وثباتاً ونصباً وتعباً وبذلاً وتضحية واستشهاداً فهو طريق ذات الشوكة، لذلك فإن القيام به ليس بالأمر السهل وكذلك المحافظة على استمراريته وتطويره.
ولقد راقبنا بأم العين تنفيذ تلك الخطة من قبل المستكبرين الطغاة على كبريات حركات المقاومة والتحرر في ساحة وطننا الإسلامي والعربي وفي الساحة الدولية، لتؤول الأمور فيها إلى إطفاء جذوة روحها المقاوم وإخراجها التدريجي من ساحة الفاعلية والتأثير ودفعها لاستبعاد الجهاد العسكري كسياسة مركزية لها.
فالتخلي عن الجهاد العسكري نقل حركات المقاومة من موقع مناهضة العدو الى موقع التفاوض والتحالف معه، وأوقعها في ذلّ التبعية له، وقضى على مواطن عزتها وضيّع قضيتها وقلب سلم أولوياتها رأساً على عقب وحولّها إلى حركة سياسية هزيلة متسولة تستجدي حقها من العدو الغاصب الذي سوّفها وخدعها ولم يقر لها به، وأنّى يكون ذلك وهو يخطط لفنائها.
وقد قال خليفة المسلمين علي بن أبي طالب (ع) محذراً من ترك الجهاد العسكري الذي يورث من يقدم عليه الذل والبلاء ويلبسه ثوب الصَّغار ويمنعه من الوصول إلى حقه بسبب تضييعه الجهاد.
"فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل وشمله البلاء ودُيّث بالصَّغار والقماءة وضُرب على قلبه بالإسهاب وأُديل الحق منه بتضييع الجهاد وسِيم الخسف ومُنع النَّصَف"
فالحذر الحذر من التهاون أمام الإشاعة لتنخر جسد حركة المقاومة وتسوّد صورتها وعدم الإستعداد للوقاية منها ومعالجتها.
والحذر الحذر من ترك الجهاد العسكري واعتماد خيار التفاوض لتحقيق الأهداف ونصرة القضايا الوطنية والقومية مع عدو محتل غاصب غير جدير بالثقة. فإن الأذلاء الواهنون هم من يوهمون أنفسهم من أن درب القتال مع العدو منهك ومكلف فيما الواقع يؤكد أن درب الوثوق بالعدو والتفاوض معه أكثر كلفة بأضعاف مضاعفة.
فحركات المقاومة حين تنام عن مواجهة الإشاعة وتغفل عن خطط العدو المخادعة وتتخلى عن جهادها العسكري تكون قد سودت صورتها وأضاعت هويتها وجعلت لعدوها يداً عالية وسلطاناً قوياً عليها، حينها تتحقق أخطر تهديدات حربه النفسية عليها. وتتاح له الفرصة ليُملي عليها وعلى أمتها من ورائها ما يشاء من صفقات مخزية.