الهوية الاجتماعية هي تصورنا عن انفسنا (منْ نحن) وعن الآخرين (منْ هم) وكذلك تصور الآخرين عن انفسهم وعن غيرهم . والهوية هي شيء قابل للنقاش وتأتي اثر عمليات التفاعل الانساني. هي تستلزم عمل مقارنات بين الناس كي تؤسس اوجه التشابه والاختلاف بينهم. فاولئك الذين يعتقدون بوجود التشابه بينهم وبين الآخرين يشتركون في هوية تتميز عن هوية الناس الذين يعتقدون انهم مختلفون ولا يشتركون بذات الهوية.
يرى (جنكز) ان الهوية الاجتماعية هي حول المعاني، وهذه المعاني تتشكل اجتماعيا وليست تعبير عن الاختلافات الضرورية بين الناس. فمثلا هو يناقش مسألة تحوّل الانسان الى مرحلة الكبر او التقاعد. ان التغيرات في الهوية وفي الدور الاجتماعي المصاحب لها ترتكز على تمييز عشوائي بين من هم في سن الـ 64 واولئك الذين في سن الـ 65. غير ان تلك التغيرات لها تأثير كبير جدا على هوية الفرد. (تصور مثلا في صباح اليوم الذي تصبح فيه بعمر الـ 65 سنة، في هذا اليوم ومعك بطاقة الميلاد سوف تدخل سنة التقاعد، ولديك بطاقة مخفضة للسفر في وسائل النقل العام، وسعر مخفض للحلاقة كل يوم ثلاثاء. ورغم انك ترى نفس الوجه في المرآة الا انك سوف لن تكون نفس ذلك الفرد يوم امس ولن تستطيع ان تكون كذلك مرة اخرى).
فالهوية برأي (جنكز) هي جزء مكمل للحياة الاجتماعية وهي تتشكل فقط عبر التمييز بين هويات مختلف الجماعات والتي يمكن ربطها بأناس آخرين، والاطلاع على مختلف الهويات يعطي اشارة عن نوع الفرد الذي تتعامل معه ومن ثم كيفية الارتباط به. ان ما لدينا من فهم حول مختلف الهويات ربما يكون محدودا او خاطئا، ولكنه جزء حيوي من الحياة الاجتماعية كونه يجعل التفاعل ممكنا. (من الشائع جدا ان نرى الرجال والنساء يخرجون في حياتهم اليومية وهم مهتمون بهويات اجتماعية معينة. نحن نتحدث مثلا عما اذا كان الناس مرحين منذ الولادة ام انهم اصبحوا مرحين نتيجة لطريقة التربية التي نشأوا عليها. نحن نتحدث حول معنى التربية او حول الفرق بين الكندي والامريكي. حينما نلاحظ احدى العوائل التي قدمت توا الى محلتنا نهز رأسنا، ماذا نتوقع منها، ربما جاءت من مكان غير مألوف في المدينة. نحن نشاهد اخبار التلفزيون ونطرح مختلف انواع الاستنتاجات حول الاحداث الجارية بناءا على تحديدات مثل مسلم او اصولي او مسيحي وغيرها).
يصل جنكيز للاستنتاج (لن يكون هناك مجتمع بدون هوية). وعلى الرغم من اتفاق معظم علماء الاجتماع مع جنكز حول اهمية الهوية في المجتمع الا انهم لا يتفقون حول العوامل التي تشكل الهوية في المجتمعات المعاصرة، اما الطريقة التي تطورت بها الهويات هي تلك التي طورها ستيوارت هول والتي تعرض ايضا البداية الملائمة في بحث الالتباسات المحيطة بقضية الهوية.
(ستيوارت هول) والمفاهيم الثلاثة للهوية
يعتقد هول ان فكرة الهوية مرت عبر ثلاث مراحل سيطرت في كل منها فكرة الهوية على التفكير السائد حول المجتمع وهذه الافكار هي:
1- موضوع التنوير
2- موضوع لعلم الاجتماع
3- موضوع لما بعد الحداثة
هويات ما قبل الحداثة
يرى (هول) ان المراحل المبكرة للحداثة حصل فيها ظهور جديد وحاسم لشكل من الفردية، كان فيها موضوع الفرد والهوية الفردية هو المحور الاساسي. في مجتمعات ما قبل الحداثة كانت الهويات تتركز بشكل كبير على الهياكل التنفيذية، خاصة تلك المرتبطة بالدين. فموقعك في المجتمع وهويتك يأتيان من الموقع الذي وُلدت فيه والذي هو (كما كان يُظن) انعكاس لرغبة الاله. فالناس لم ينظر اليهم كافراد متميزين لهم هويتهم الخاصة وانما هم مجرد جزء من سلسلة طويلة للوجود. وهذه الفكرة نظرت الى كل كائن حي باعتباره له مكان في نظام الاشياء. فهناك هيكل تراتبي يمتد من الرب في اعلى القمة ومرورا بالملوك ثم الكائنات البشرية الاقل اهمية وانتهاء بالحيوانات والاشياء غير الحية. هويتك جاءت من موقعك في سلّم الاشياء بدلا من اي خصائص فردية.
موضوع للتنوير
ومع حلول الحداثة تغير هذا المفهوم. اذ في الفترة بين القرنين السادس عشر والثامن عشر ظهر مفهوم جديد للهوية واصبح هو المسيطر، وهذا المفهوم الجديد للهوية له خاصيتان رئيسيتان:
1- موضوع الفرد كان يُنظر اليه كونه غير قابل للقسمة. فكل فرد له هوية بذاته وهذه الهوية موحدة ولا يمكن تجزئتها الى وحدات اصغر.
2- ان هوية كل فرد كانت متميزة .
فالفرد لم يكن جزءا من شيء اكبر (من السلسلة العظيمة للوجود) وانما كان يُنظر اليه باعتباره ذو هوية متميزة قائمة بذاتها. وطبقا لـ (هول) فان هذا المفهوم للهوية نشأ من افكار الفيلسوف الفرنسي ديكارت (1650-1596). اذ اعتقد ديكارت بوجود فارق اساسي بين الفكر والمادة . وكانت الفكرة لديه مزدوجة عن الانسان الذي في رأيه ينقسم الى جزأين : العقل والجسم. وعقل كل انسان منفصل عن عقل اي انسان آخر، وبالتالي كل شخص يصبح متميزا. ان التمييز في عقل الانسان عبّر عنه ديكارت بقوله انا افكر اذاً انا موجود.
والفرد طبقا لمفهوم الهوية هذا هو موحد او فرد كلي له القدرة على التفكير عن الكل. والافراد يرون انفسهم متميزين ومنفصلين عن الافراد الاخرين ومكتملين ذاتيا. والفرد هو راشد قادر على حساب الاشياء وفقا للمنطق وهو غير مقيد بموقعه في المجتمع او عقيدته التقليدية. ويصف (هول) ذلك بقوله (موضوع التنوير كان يرتكز على مفهوم المركزية التامة للانسان الفرد القادر على التحليل والادراك والفعل . هذه المركزية تتألف من جوهر داخلي نشأ بالاساس مع ولادة الانسان ثم تطور معه تدريجيا. وطوال وجود الفرد بقي هذا المركز الاساسي للذات هو ذاته بشكل مستمر ويشكل الهوية الفردية).
موضوع لعلم الاجتماع
في القرن التاسع عشر بدأت تتطور العديد من مفاهيم الموضوع والهوية الفردية. ويرى (هول) ان تلك التطورات جاءت كنتيجة لتطور المجتمع.
ومع بداية الثورة الصناعية والتمدين اصبح المجتمع وبشكل متزايد يعتمد على المؤسسات والهياكل التي طبعت حياة الناس. وفي بدايات القرن العشرين مثلا تحولت الشركات الفردية التي يديرها افراد مبدعون الى شركات مساهمة يملكها الاف المساهمين وتدار بادارات معقدة. وكذلك المواطن الفرد اصبح جزءا ضئيلا ضمن الماكنة البيروقراطية والادارية للدولة الحديثة. كل فرد لم يعد شيء متميز ومنفصل عن الافراد الاخرين، بل ان العلاقات بين الافراد والمجتمع تدخلت فيها المعتقدات الجماعية وعمليات الجماعات. فمثلا هوية الفرد كانت مرتبطة بعضويته في طبقة اجتماعية معينة او بمهنة محددة او باصوله ضمن دين معين او قومية وما شابه.
الهوية والتفاعلية الرمزية
يرى (هول) ان التفاعلية الرمزية هي افضل مثال على فكرة الهوية الفردية. فهوية الفرد تتشكل فقط من تفاعل الفرد مع الاخرين. ونظرة الفرد للاخرين تتشكل جزئيا من طريقة نظر الاخرين لذلك الفرد. وطبقا لفريق التفاعلية الرمزية فان الناس يستمرون في امتلاك فرديتهم ولكنها ليست فردية متميزة كليا عن المجتمع. فالهوية تعمل كجسر بين الفرد الاجتماعي والفرد الخالص. وبامتلاك الافراد لهوية معينة هم انما يتمثلون قيم ومبادئ معينة تصاحب تلك الهوية، فهي تسمح لسلوك الافراد ليكون متشابه مع الاخرين وكذلك تجعل السلوك في المجتمع اكثر نمطية وانتظاما. وهذه الرؤية جرى توضيحها بمثال عن الطبقة الاجتماعية. فهوية طبقة معينة تشجع الناس على التصرف بطريقة معينة. فالطبقة العاملة التقليدية والطبقة الوسطى لهما هويات مختلفة وارتبطتا بمختلف الثقافات الفرعية. ان وجود هذه الثقافات الفرعية عزز بناء الطبقة في المجتمع وجعلها اكثر حضورا. يقول (هول) وبذلك قامت الهويات بدمج او إدغام الفرد ليصبح جزءا من البناء. هي عملت على تحقيق الاستقرار لكل من الافراد والعوالم الثقافية التي يعيشون فيها مما جعل كل منهما اكثر توحدا وبالامكان التنبؤ بهما. يرى هول ان المجتمعات المعاصرة تميزت كثيرا بوجود الهويات الجزئية والناس لم يعد بوسعهم امتلاك فكرة موحدة عن هويتهم وانما يمتلكون العديد من الهويات التي تكون احيانا متعارضة وملتبسة وهي هويات ذات مصادر متعددة.
الحركات الاجتماعية الجديدة
في الماضي وفّرت الطبقة الاجتماعية شيئا من الهوية العليا همشت الهويات الاخرى وكونت الاساس للصراعات السياسية. وفي الستينات والسبعينات بدأ الناس بالاهتمام والتمحور حول قضايا غير الطبقة. فالحركات الاجتماعية الجديدة نشأت وهي مهتمة بالعديد من القضايا والهويات منها مثلا النسوية وصراع السود والتحرير الوطني والحركات المناهضة للاسلحة النووية وحركات البيئة. وبدلا من ان يشعر الناس بكونهم جزءا من طبقة واحدة اصبحت هويتهم مجزأة طبقا لجنسهم وقوميتهم ودينهم او العمر او الوطن او الرؤية نحو البيئة وغيرها.
العولمة :
وهي عامل آخر من العوامل التي اثّرت في خلق الهويات الجزئية. فالتطور السريع في الاتصالات وسهولة وسرعة انتقال الناس حول العالم، والطابع العالمي للتسويق من حيث الاماكن والاساليب الانطباعية كل ذلك قاد الى خلق تأثيرات ثقافية. الناس لم تعد هوياتهم مقتصرة على المكان الذي وُلدوا فيه بل اصبح بامكانهم الاختيار من بين نطاق واسع لمختلف الهويات. فهم يستطيعون تبنّي شكل الملابس وطرق التحدث وكذلك اسلوب الحياة والقيم الخاصة بأي مجموعة. ومن جهة اخرى يمكن لعولمة الاستهلاك ان تقود الى زيادة التشابه والتجانس بين الناس. فالسلع يُتاجر بها عالميا، والسلعة الاكثر نجاحا (مثل الكوكا كولا) يمكن العثور عليها في اي مكان من العالم. ولذلك فهناك اتجاهات متناقضة ضمن العولمة وجميع تلك الاتجاهات تؤدي الى إضعاف الحريات الموجودة سابقا. فتجانس المستهلك العالمي يساهم في إضعاف وتجاهل الهويات القائمة على الانتماء الى جماعات اجتماعية معينة . ان مقدرة الفرد على تبنّي المزيد من الخيارات حول هويته معناه ان الناس الذين يعيشون قريبين من بعضهم وينتمون الى نفس الطبقة اصبح لديهم هويات مختلفة، فالعولمة فتحت العديد من الامكانات.
العولمة والمصادر المختلفة للهوية
حاول (هول) دراسة التأثير الحقيقي للعولمة على الهوية. هو يقول : في المجتمعات الحديثة كانت القومية تشكل عنصرا هاما للهوية. معظم الدول القومية أكدت على اهمية الامة (nation) وحاولت استعمال الهوية الوطنية لخلق التضامن بين المواطنين من مختلف الطبقات او الاصول العرقية. وفي ظل العولمة لم يعد ذلك ممكنا وفعالا. هناك ثلاث استجابات رئيسية للعولمة من حيث علاقتها بالقومية:
1- في بعض الاماكن حاول الناس اعادة التأكيد على هويتهم القومية كوسيلة دفاع حيث اعتقدوا بوجود تهديد لهويتهم القومية من جانب المهاجرين مثلا. ففي بريطانيا أدت ردود الافعال هذه الى التوجّه نحو الاثنية المطلقة كمحاولة للدفاع ودعم الامة، وكذلك التشبث بالهوية الانجليزية.
2- ان اولى ردود الفعل تجاه العولمة تبلور بين الاثنيات الكبيرة ولكن الجاليات او الاقليات الصغيرة ايضا استجابت بطريقة دفاعية، فاستجابة للتمييز العرقي والفصل، قامت الاقليات العرقية باعادة التأكيد على ثقافتها وهويتها الاثنية، وهذا تمثّل في بريطانيا باعادة الالتزام بثقافة الاصل (شعوب الكاريبي، الهند، بنغلاديش، باكستان)، وببناء اقليات قوية عبر التشخيص الرمزي للشباب من الجيل الثاني انعكست في طريقة ارتدائهم للملابس وبما يوحي انتمائهم لبلد الاصل.
3- اما رد الفعل الثالث تجاه العولمة تمثل في تشكيل هويات جديدة . في بريطانيا مثلا تجسد ذلك بتشكيل هوية السود وتضم البريطانيين من افريقيا والكاريبي واسيا. هوية السود البريطانيين جاءت استجابة للتمييز والابعاد واصبحت الهويات الجديدة مختلفة وتضم اكثر من هوية واحدة.
ان الاستجابتين الاولى والثانية تجاه العولمة ادتا الى انعاش الاثنية كمصدر للهوية وبشكل مضاد للقومية السائدة. وفي عدة اماكن من العالم طالبت الجماعات الاثنية بدولتها القومية حينما تفتّتت الدول القومية الكبرى مثل الاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا، الامر الذي قاد الى موجات من العنف واحيانا الى حرب اهلية. يرى (هول) ان مثل هذه القومية الصارمة تستند على ان الاختلافات الحقيقية او الوهمية بين الاثنيات تشكل نزعة تهديدية. ان فكرة الصفاء العرقي هي مجرد اسطورة، فكل الناس جاؤوا من خلفيات عرقية متنوعة. ان معظم الثقافات هي ثقافات هجينة واي محاولة لخلق هويات اثنية نقية ستكون عملية خطيرة.
رؤية اخرى للهوية – الهوية كسفرة لزيارة مكان مقدس
حاول (زجمنت بومان) التوغل اكثر من (هول) في تبنّي رؤية ما بعد الحداثة للهوية. حيث يرى (بومان) ان الهوية اصبحت ليست فقط مجزأة بل وايضا لم يعد لها اساس ثابت، فهي ببساطة مسألة اختيار، وهي اختيار ليس بالضرورة ان يكون منسجما ومنتظما، فالافراد يستطيعون تغيير هويتهم متى ما ارادوا.
الهوية في ظل الحداثة يمكن النظر اليها كرحلة دينية. في الزيارات الدينية يسعى الافراد الى رسم صورة معينة لحياتهم المستقبلية، فلديهم هدف معين هو الوصول الى المكان الذي خططوا له في بدء الرحلة، وكل تصرفاتهم تتجه لأجل تحقيق ذلك الهدف. فيجب ان لا ينشغلوا باي شيء آخر يصرف انتباههم كممارسة الاشياء الترفيهية او التمتع في اوقات الضيافة، فلابد ان يكون لديهم هدف مقصود، فيجب ان يتعاملوا مع العالم الذي حولهم كما لو انه صحراء ليس فيه اي انشغالات اخرى. وفي الصحراء ايضا يستطيع الافراد رؤية آثار اقدامهم بما يوحي لهم مقدار المسافة التي قطعوها اثناء الرحلة. يرى (بومان) ان تشكيل هوية المجتمعات في ظل الحداثة مشابه تماما لتلك الرحلات الدينية. فاستراتيجية الناس في الحياة ترتكز على امتلاكهم احساس واضح بما يريدون ان يكونوا عليه، او (منْ هم). وحياتهم تسير نحو انجاز ما يصبون اليه من هوية. هذه الهوية كانت عادة ترتبط بالمهن، فهم عملوا في مهنة معينة وحرصوا على النجاح في عملهم المهني، حيث وضعوا خريطة لمستقبلهم ينظرون الى الامام نحو تحقيق اهداف العمل وينظرون الى الخلف ليدركوا المسافة التي قطعوها منذ بداية تاريخهم المهني.
رؤية ما بعد الحداثة للهوية – رفض فكرة السياحة الدينية
ان الرحلات الدينية تتطلب مقدار من التأكد حول العالم، فلابد للزائر ان يتأكد بان المكان الذي يقصده سوف يبقى هناك عند الوصول اليه والّا لن يكون هناك معنى للزيارة. ما بعد الحداثة تنكر اعتبار تلك الرحلات كاستراتيجية للحياة بسبب حالة عدم التأكد. فالتغيرات في مجتمعات ما بعد الحداثة سريعة جدا لدرجة لا يمكن الوثوق معها ببقاء مكان معين او مهنة معينة خلال 10 او 20 سنة قادمة. يقول (بومان) "ليس فقط اختفت المهنة مدى الحياة (job for life ) وانما اعمال التجارة والتخصصات ذات الطابع الملتبس بظهورها في مكان غير محدد وضياعها دون اشعار، من الصعب استمرارها كما كان في السابق. فالطلب على المهارات الضرورية لممارسة تلك المهن والوظائف نادرا ما يستمر بمقدار الفترة المطلوبة لإكتساب تلك المهارات".
وبناء على ذلك لا فائدة من البدء بالرحلة لأن المكان المقصود (الوظيفة او المهنة الناجحة) قد تلاشت قبل الوصول اليها. وبما ان الوظائف تتغير بسرعة فان الانجازات المهنية للفرد على صعيد العمل ستكون غير ملائمة لوظائف المستقبل وسوف تصبح بسرعة في وادي النسيان. كذلك وبالتشابه مع الرحلة في الصحراء، فان العواصف قد تهب وتحمل معها الرمال لتغطي كل آثار الرحلة مما يجعل من الصعب معرفة الشوط الذي قُطع باتجاه الهدف المقصود.
الاستراتيجيات المطلوبة
في ضوء الموقف اعلاه وطبقا لما يراه فريق ما بعد الحداثة لابد من اتباع استراتيجيات جديدة للحياة . هذه الاستراتيجيات تلغي فكرة خلق اي هوية دائمة منفردة ومركزية. وبدلا من ذلك يغير الناس هوياتهم حسب رغباتهم ولا يلتزمون بتحقيق اي هوية محددة. يحدد (بومان) اربع ستراتيجيات لحياة ما بعد الحداثة:
1- المتجول (stroller) هو شخص ما يتجول حول المدينة يشاهد ويستمتع بمظهر المدينة، هو ليس له هدف محدد في ذهنه لكنه يتجول فقط لغرض التسلية. المتجول هو المستهلك الساخر الذي حل محل العامل او المنتج الصارم للحداثة. ان مراكز التسوق متوفرة بحيث تستطيع ان تتجول وانت تتسوق او تتسوق وانت تتجول. تستطيع ملاحظة نماذج من عدد لا متناه من السلع وتشتري ما ترغب ثم تؤسس الهوية التي تختار وتغيرها في اليوم التالي اذا شئت. وبوجود التلفزيون متعدد القنوات والانترنيت اصبح بامكان المتجول ان يتمتع دون الحاجة لمغادرة مقعده المريح.
2- استراتيجية المتشرد (vagabond): في الماضي كان المتشرد يتنقل من مكان الى آخر رافضا الاستقرار في مكان معين. والسلطات كانت تكره المشردين لأنهم لا يمكن التنبؤ بسلوكهم، ليس لهم هدف معين في تجوالهم مما يجعل من الصعب معرفة المكان الذي يقصدونه، وهو امر مختلف جدا عن الحركات المتوقعة اثناء السياحة الدينية. المشرد دائما غريب اينما يتجه وليس له مستقر في العالم.
في عالم ما بعد الحداثة اصبح هناك معنى للتجوال من هوية الى اخرى دون الاستقرار في اي منها، فعملية الاستقرار اصبحت بالغة الصعوبة.
3- ستراتيجية (السائح). والسائح هنا يشبه المشرد كونه ينتقل من مكان الى آخر لكن حركته تختلف كونها ذات هدف او غرض معين. السائح يعرف الى اين ذاهب لكنه ليس كالحاج كونه لم يسافر لتحقيق هدف نهائي، هو يسافر فقط للحصول على تجربة جديدة او رؤية مكان مختلف او ليقوم بعمل لم يمارسه في السابق. في مجتمعات ما بعد الحداثة الناس لا يُجهدوا انفسهم من اجل خلق هوية معينة فهم كالسائح الذي يبحث عن خبرة جديدة .
4- الاستراتيجية الاخيرة (اللاعب) وتتطلب التعامل مع الحياة كما لو انها لعبة. الالعاب تُمارس لغرض الفوز لكن النتائج ليست ذات صفة مستمرة. فانت سواء ربحت ام خسرت سوف تنسى آخر لعبة وتنتقل الى لعبة اخرى. ونفس الشيء في مجتمعات ما بعد الحداثة يستطيع الناس ممارسة اللعبة التي لها هوية معينة لفترة زمنية (مثلا طلاب ينتمون الى الجناح اليساري الراديكالي في فترة شبابهم ولكن لاحقا يغيرون اتجاههم السياسي).
تقييم آراء (هول) و(بومان)
بالرغم من الاختلاف بين الرجلين الا انهما يتفقان على وجود اتجاه عام في الابتعاد عن الهويات الثابتة نسبيا والمرتكزة على عوامل اجتماعية مثل الطبقة، والتحول نحو الهويات الصغيرة. واذا كان (بومان) يركز على مدى امكانية الناس في اختيار هويتهم فان (هول) يؤكد بشكل كبير على الاهمية المتزايدة للخصوصيات الاثنية في رسم الهوية. هذه الآراء جوبهت بعدة انتقادات:
1- هناك بعض السوسيولوجيين ينكرون فقدان الطبقة لأهميتها كمصدر للهوية. فمثلا (مارشا) و (روس) و (فوكلر) يرون ان الشعب البريطاني لازال افراده يرون انفسهم اعضاءا في طبقات وان الطبقة لازالت مستمرة في تاثيرها على عقائد الناس واختياراتهم في الحياة.
2- ان بعض انصار النسوية feminists يعتبرون الجنس gender هو المصدر الاساسي للهوية وهو الاصل في الاستغلال في المجتمعات البطرياركية. وهم بذلك يقفون بالضد من رؤية بومان التي تؤكد الاختيار الحر للهوية البعيد عن اي ارتباط اجتماعي. فالجنس يشكل عاملا رئيسيا في تشكيل الهوية حسب زعمهم.
3- يرى (ريجارد جنكز) عام 1996 ان بعض الكتّاب مثل (بومان) يبالغون كثيرا في زعمهم بالهويات المجزأة والقصيرة الأجل التي تختارها المجتمعات المعاصرة. وهو يشك في الادّعاء بوجود نوع متميز لهويات ما بعد الحداثة. هو يؤمن بان الهوية تبقى مرتبطة في جذورها بالخبرة الاجتماعية وبالعضوية في الجماعات، وهي ليست شيئا يمكن تغييره حسب الرغبات. ويؤكد جنكز ان الهويات تحتوي على عناصر من الفردية المتميزة وعلى عناصر اخرى يشترك بها الافراد جماعيا. واذا كان لكل فرد هوية خاصة به فان تلك الهويات تكتسب طابعها عبر الانتماء الى جماعات اجتماعية. ان العناصر الفردية للهوية تؤكد على الاختلاف بينما العناصر الجمعية تركز على التشابهات مع ان الاثنين يرتبطان بإحكام.