بعد ان تناولنا في المبحث السابق الظروف التي تطور فيها الفكر التكفيري وكيف اصل الياته في التاصيل الى مفهوم التوحش، نجد من الظرورة بمكان ان نقف عند احد تمظهرات هذا الخطاب في التوحش اعلاميا عبر زرع الرعب وهو يستند الى عمق تاريخي كبير موجود في المدونات التاريخية التي استثمرها كراسمال رمزي في تحقيق الغالية المتمثلة بنشر الرعب في صفوف الاخر عبر العنف الضاري الذي اعتمد ماكنته الاعلامية من اجل نشر هذا الخطاب من اجل تحقيق غاية عسكرية ارهابية تعتمد العنف، و العنف اصطلاحا يشتمل على الخشونة في المحاورة على استعمال السلاح والبطش والاضطهاد وهو عكس المسالمة. ومثالية ما يمارسه البعض (إنسان، دولة، سلطة، جهة، حزب، حركة) مما يعني أن العنف يضعنا أزاء مقاربات متنوعة وكل مقاربة تعكس إدراكا معينا وأسلوبا في التشخيص والاقتراح ([1])
فهذا العنف يتجلى اليوم عبر العالم الرقمي الافتراضي الذي تجاوز عائق المكان – والمكان اللذين يعوقان الاقتراب بين الناس جغرافيا. فأصبح هذا الفضاء الرقمي مجالا رحبًا من أجل صناعة التواصل، فضلاً عن صناعة التوحش ومن ثمّ إدارته بفعل الاستثمار الإرهابي للخطاب الرقمي، فإن المتابع للأعمال الإعلامية المعادية التي يتبعها داعش يجد أنها أعمال تعتمد وسائل احترافية تتوسّل بمنطق العنف المفرط من أجل تحقيق غايات سياسية، وهو جزء من الفضاء والبيئة الرائجة بمرجعياتها ورموزها وتعاليمها أو بخطاباتها وأحكامها وفتاواها. (صحيح أن الإرهاب كعمل عسكري إنما يخطط له في السر وتحت الأرض ولكنه يشكل الوجه الآخر لثقافة تسهم في إنتاجه سمتها أنها متحجرة، أحادية، عدوانية، استبدادية كما تجري ممارستها تحت سمعنا وبصرنا، وكما تعمم نماذجها في الجوامع والمدارس أو عبر الشاشات والقنوات )([2]) فهذا الإرهاب بكل عنفه هو وليد البيئة التي تُسهم في إفراز الكثير من الخطابات المماثلة له، وسوف تستمر بهذا مستقبلا. فهذه الخطابات الأصولية تشن حربها ليس على الجسد وطاقاته الحيوية وحدها، أو السلوك وحركيته ومرونته وصولا إلى مطاردة النوايا، ومرجعية الإنسان لا تكون في ذاته بل في نظم التحريم المتفاقمة التي لا تترك خارجها سوى أشباح الحاجات([3])
فالإعلام وليد تلك الممارسة بكل ثِقَله الثقافي والشرعي وكل بُعده التقني الذي يتيحه الفضاء الرقمي اليوم، ومن ثمَّ نستطيع تصنيف هذا النوع من الإعلام بوصفه يمثل شكلاً متطورًا من أشكال الحرب الإعلامية، التي تعتمد الحرب النفسية في تسويق رسالتها، التي تجد كل الوسائل مباحة من أجل تحقيق غايات التنظيم في إشاعة التوحش في البلدان المستهدفة وإدارته، سواء اعتمدت الإعلام المرئي أم المطبوع من أجل تحقيق أكبر قدر من الإبلاغ عن مضامين رسالتها الإعلامية المشبعة بالعنف المفرط. الذي يتخذه وسيلة من أجل تحول خطابه الطوباوي إلى حقيقة وإعادة إنتاج الزمن المقدس: زمن البدايات، زمن الكمال، والعمل على إزالة الدنس والكفر والاستبداد والكفر عبر العنف الجهادي الذي يفترض خطابًا تضحويًا عنيفًا يقوم على إراقة الدم للذات، ومحق الخصوم وإزالتهم من الوجود، كل هذه البؤرة الآيديولوجية هي حمولة الخطاب الذي يعتمد العنف والشراسة من أجل تحويل اليوتوبيا إلى حقيقة عبر إراقة الدماء، عبر علاقة استقطاب بين خيرية الذات وشيطنة الآخر الخصم من أجل إباحة هدر دمه([4])
ومن أجل تحقيق هذا يأتي دور الإعلام بوصفه جزءًا من الحرب التي يخوضها التنظيم بل هي جزء حيوي في استثمارها في اعتماد التضليل والمخادعة من أجل تحقيق أهدافه العسكرية بالتغلب أو التعويض عن انتكاساته، فقد استثمر هذا التنظيم العالمي وسائل الاتصال الإعلامية بأشكالها المتنوعة من علاقة التواصل الاجتماعي في نشر آيديولوجيته، وتجنيد أكبر عدد من الشبّان حول العالم، ومواكبة واستعمال أكثر الوسائل تطوراً وتقنية بشكل ملاحظ ومن ثمّ توظيفها لمصلحة إعلام التنظيم وأنصاره ومؤيديه الذين يأخذون أشكالاً متنوعة من الداخل والخارج ممن يناصرونه أو ممّن يُهوِّلون من مقدرته الجهنمية عبر تحليلاتهم ذات الارتباطات المتخفية، لكن كل هذه الأوساط على اختلافها تبين: " أنّ التنظيم مدرك تماماً الدور الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعية في جعل تنظيمها عابراً للحدود وصناعة شعبية افتراضية تفوق الواقع، فهو ما إن يطأ أرضاً حتى يبادر بشكل منظم وسريع في تغذية المواقع بأخباره صوتاً وصورة"
فهذه التحليلات تكشف عن أنّ التنظيم وأنصاره يستثمرون الخطاب الرقمي الإعلامي بشكل فاعل عبر إعادة الترويج للحرب النفسية من أشكال وأساليب متنوعة؛ من أجل تحقيق غاياته، ومنها: زرع الشعور بالخوف في قلوب المتلقي عبر بث الرعب في الرأي العام من أجل تعظيم شأنه، والثاني الوصول إلى تجنيد مقاتلين، ومن أجل كسب عقول أكثر عدد من الناس، وصولاً إلى استمالة المتعاطفين، والمؤيدين، ويكون الهدف من التواصل معهم، استثمارهم والحصول على دعمهم ومساندتهم. والثالث يدخل ضمن إدارة التوحش المتمثل بخصوم التنظيم من الدول ومؤسساتها بهدف زعزعة أمنها. وهو يستثمر المناطق والدول التي تعيش حالة انقسام يحاول استثمارها من أجل إيصالها إلى حالة التوحش لهذا (مقلق جداً إطالة أمد الصراع السياسي في المنطقة، ما يصب لمصلحة داعش، فكل يوم يمر في ظل انسداد الأفق المستقبلي للخروج من هذا الصراع، فهو يستثمره في استغلال الناشئة وتوريطهم من خلال ذلك الترويج والضخ الإعلامي الهائل والمتزايد على " الإنترنت" كتابة وصوتاً وصورة)([5]) ورابعا يهدف نشر هكذا صور عنيفة من " داعش" إلى احتمالين، إما أن تكون هذه الفيديوهات حقيقية وعندئذ سيكون هدفها الأول هو بث الرعب الشديد على كل المستويات الشعبية والرسمية عند الغرب، مشيراً إلى أن الشعوب الغربية عندما ترى هذه البشاعة في القتل بالذبح المصور تقوم بممارسة الضغط على الحكومات؛ لعدم توريط جيوشها في أتون معارك لا يعلم نتائجها إلا الله.([6])
وتشير التقارير الإعلامية إلى أن حالة استقطاب مع التنظيم زادت بعد نشر وسائل الإعلام لمقاطع الذبح للضحايا فيما تأخذ النقطة الأولى جانبًا آخر يجعل من تلك الرسالة متقبلة لدى المحطات الغربية والمحطات المتعاطفة معها التي تعتمد رسالة خلق التشويق لدى جمهورها المولع بالمفارقات. وغاية المحطة استثمار تلك الرغبات من أجل زيادة المتابعين لها. نتيجة أن المشاهد العنيفة تصوّر وحشية من يقوم بالذبح، التي تدل على فقدان أي درجة من الإنسانية. فإشاعة تلك المشاهد تُحدث آثاراً نفسية عالية، وبها نجد أن تلك الوسائل الإعلامية العالمية تفضّل تحقيق زيادة في نسبة المشاهدة بدل العمل على مجابهة تلك الرسالة الإعلامية المعادية والعنيفة التي تُسهم بتسويق خطابها الإعلامي للآخر، فبدل أن تنتشر دعاية إعلاميّة مقابلة ومجابهة لدعاية "داعش"، أسهم الإعلام في نشر دعاية التنظيم. وتسهم باستهلاك تلك الرسائل المشبعة بالعنف والكراهية، وتجعل من الجمهور يتلقى تلك الوسائل النفسية من الدعاية النفسية الزاحفة وتخلق اضطرابًا نفسيًّا لدى الجمهور. وبهذا تحقق الهدف من زرع حالة توحش واليات إدارته في صفوف الدول التي تتخذ منها داعش محورًا معاديًا سوف نقف عندها بوصفها تجلي من تجليات إدارة التوحش التي تتجلى من خلال المقاطع التي تحدث الصدمة والترويع من خلال الأساليب اللاإنسانية في التخلص من الخصوم، التي تحولت إلى وسائل في الحرب النفسية التي تظهر في وسائل تلك الجماعة أو وسائل الإعلام العالمية، حيث إنها تحقق من خلال تلك المقاطع متابعات واسعة. فإن تلك الوسائل تبدو من خلال ما سبق مقصودة بوظائف مزدوجة بالإضافة إلى الوظيفة النفسية، فإن أتباع تلك الأفعال تسهم في تسويق الرسائل عبر وسائل الإعلام العالمية، لهذا نجد الحركة تتفنن في طريقة القتل، ما يجعل المادة مغرية.
لكن تلك الوسائل لها غايات أخرى منها التعويض عن غياب الإنجازات العسكرية مما يجعل التهويل وآليات الخداع النفسي والإعلامي من أجل الكسب الإعلامي للتنظيم الذي يعوض غياب الإنجازات العسكرية أو الاستراتيجية؛ لكن على الرغم من كل هذا، نجد أنّ ذلك السلوك العنيف الذي يتجلى في خطاب داعش ومن ثمّ يترجم علاقتها مع الآخر المختلف فإنه بالضرورة يمثل موقفًا نفسيًّا (ومن جانبه أكد إيان روبرتسون•: "أن هناك عدة عوامل يمكننا أن نتعرف من خلالها على التفسير النفسي لما تقوم به داعش، مشيراً إلى أن هذه العوامل تتركز في الوحشية، رأيهم في الجماعات المخالفة لفكرهم، والثأر، وقادة الجماعات. وأوضح في تفسيره لعامل الوحشية، أن الوحشية تستدعي الوحشية، فثلاثية القسوة والعدوانية وانعدام التعاطف تُعدّ ردود فعل مشتركة من قِبَل الناس الذي عُوملوا بشكل قاسٍ. وأضاف: "كما أن الجماعات الدينية تؤيد وتدعم درجة من العدوان تجاه الجماعات المخالفة التي كانت غائبة في جماعات غير محددة دينياً، كما نشاهد بشكل مأساوي في الشرق الأوسط)([7]) نعم هي سياسة متجذرة في الشرق تقوم (على المحو تمارس نشاطها في ذاكرتنا الثقافية؛ لكن ليس، وفقا لقوانين التطور الثقافي الطبيعية، حيث ينبثق الجديد من القديم ويتجاوزه تجاوزا جدليا، بل يتم ذلك بفعل تدخل سلطة ذات طابع آيدلوجي تحاول محو السابق بوصفه نقيضها، وإثبات ذاتها بوصفها بديلا )([8]) وهذا ما تفعله داعش ويتم ترجمته إعلاميا فهي سياسة جوهرها المحو والإقصاء العنيف من أجل خلق بديل تحتكر تمثيله، وهي وليدة الخطاب التكفيري بامتياز. وقد تجلى في القاعدة من قبل، مستثمرةً ممكنات الخطاب الرقمي المعولم ضمن أشكال جديدة من الحرب القائمة على إدارة التوحش المعتمدة آليتين: الاستنزاف والمناورة التي تعتمد على المباغتة والمعاجلة مدعومة بحواضن إثنية وإعلام دعائي يعتمد الحرب النفسية .
موقف وسائل الإعلام من سلوك داعش الإعلامي: اليوم قد أخذت وسائل الإعلام تنتبه إلى الأساليب الإعلامية وآليات الاختراق والتهويل والعنف المفرط، جعلها تعمل على القيام بخطوات نقدية :
من أجل مراعاة أخلاقيات المهنة التي تفترض المصداقية والحيلولة دون نجاح غايات التنظيم من رسائله التي تحث على العنف والحرب النفسية عبر إشاعة الكراهية وتجنيد أنصار ممن يعانون من الاغتراب الثقافي والحضاري والاجتماعي يحول دون جعلهم منتمين، بالإضافة إلى التنظيمات العالمية الداعمة التي تجد في تلك الوسائل ترويجًا لخطابها الكوني القائم على العنف سواء كانت الأصولية الإسلامية أو المسيحية أو اليهودية التي تعمل على استثمار تلك الدعاية من أجل الترويج إلى مصالحها, التي تدخل ضمن مفهوم الصراع الحضاري بين الإسلام والغرب .
الى جانب هذا المعيار الأخلاقي بكل حمولته القيمية. ثمّة عامل آخر أسهم في تجاهل الرسائل التي تبثها داعش من قبل الإعلام العالمي في أنّه يتعلق بمراعاة البعد الإنساني المتمثل بمراعاة مشاعر الضحية وأهله.
ومما لاشكّ فيه أن أهمّ معيار يجب توفره هو محاولة إزالة الخلافات الوطنية التي تخلق الأفق لإدارة التوحش وتزعزع الاستقرار وتمحو التعايش .
أما الأمر الثاني فهو توفر الخطاب الإعلامي الذي يمتلك رؤية وطنية وافق تقني وفكري قابل لتفكيك الخطاب المعادي وإعادة إنتاج خطاب بديل متسامح تعددي .
والعمل على إنجاز خطاب إصلاحي إسلامي يقوم على الانفتاح على قيم المعاصر ويعيد صهر الآفاق بين أصالة الماضي وتحولات المعاصرة وما تفترضه من ذهنية علمية منفتحة .
د. عامر عبد زيد الوائلي
.............................
[1]- انظر : ماجد الغرباوي، تحديات العنف، دار العارف ط1، بيروت، 2009، ص43.
[2]- علي حرب، أزمنة الحداثة الفائقة الإصلاح –الإرهاب – الشراسة، المركز العربي، ط2، بيروت 2008، ص88.
[3]مصطفى حجازي، الإنسان المهدور، المركز العربي، ط1، بيروت، 2005، ص25.
[4]انظر: فرهاد خسرو خاقان، شهداء الله الجدد في سوسيولوجيا العمليات الانتحارية، ترجمة جهيدة لاوند، معهد الدراسات الاستراتيجية –المدى، ط1، بغداد، 2007، ص185.
[5]- http://www.alhayat.com/Opinion/Hassen-Bin-Salam.
[6]-أمل الصيفي - أحمد هنداوي، داعش" وجز الرقاب.. صناعة مخابرات أم ترويع للخصوم؟!http://moheet.com/2014/11/01/2164175/
- أستاذ علم النفس في كلية الثالوث Trinityفيدبلين، ومدير مؤسس سابق لمؤسسة علم الأعصاب، في دراسة قام بنشرها تحمل عنوان “التفسير النفسي لوحشية داعش.
[7]- أمل الصيفي، أحمد هنداوي، المرجع السابق .
[8]- نصر حامد أبو زيد، الخطاب والتأويل، المركز الثقافي العربي، ط1، بيروت، 200، ص137.