بدأ القصف المكثف لقوات الحلف الأطلسي ضد يوغسلافيا يوم 24 آذار/مارس 1999، ليستمر حوالي ثلاثة أشهر، في غياب الأمم المتحدة، واشترطت أمريكا، لوقف القصف، ضرورة موافقة حكومة يوغسلافيا على حكم ذاتي موسع أو دولة مستقلة، للأقلية الألبانية في كوسوفو، وعلى انتشار قوات حلف الأطلسي في الإقليم للإشراف على تنفيذ هذا الاتفاق، وهو ما اعتبر استفزازًا وتبريرًا مُسْبقًا للعدوان، بحسب هنري كسينغر (عُرّاب الحُروب الأمريكية)، وهددت أمريكا حكومة يوغسلافيا بانتزاع إقليم كوسوفو بالقوة من صربيا والاعتراف به دولة مستقلة، وتواصلت عمليات القصف لِتُدَمِّرَ الطرقات والجسور والمطارات ومحطات توليد الكهرباء، والمباني والمُنشآت العسكرية والمدنية، وخسرت يوغسلافيا إقليم كوسوفو، الذي يُمثّل أحد الرّموز التاريخية والدينية الهامة للصِّرْب، لأنه يحتضن الكنيسة الأرثوذكسية الرئيسية، وعددًا هاما من أماكن العبادة (أدْيِرَة، جمع "دِير")، ورغم هزيمة الصّرب في معركة "حقل الشحرور" (في كوسوفو) ضد الدولة العثمانية، بنهاية القرن الرابع عشر، حافظوا على خصوصيتهم الثقافية والدينية، في كوسوفو لمدة خمسة قرون من الإحتلال العثماني (حتى سنة 1913)، ولذلك كان تركيز الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي على إقليم "كوسوفو"، بمثابة الإستفزاز والإهانة، للصّرب ولِلرُّوس أيضًا، ولكافة الشعوب السّلافِيّة، وبالفعل كان العدوان على يوغسلافيا، مُقَدِّمَة لانتشار قوات الحلف الأطلسي في أوروبا الشرقية، لمحاصرة روسيا، من جهة، بعد انضمام بولندا وتشيكيا والمجر وسلوفينيا (ثم بلغاريا ورومانيا في وقت لاحق)، وغيرها إلى الحلف، ومقدّمة لاحتلال العراق، وانتشار القواعد العسكرية الأمريكية في الخليج (بدأ سنة 1990)، في إطار برنامج "الشرق الأوسط الكبير"، بعد إعادة رسم خارطة أوروبا، وإشراف ألمانيا على المشاريع الإستعمارية الجديدة، بتفويض أمريكي...
من أسباب التركيز على يوغسلافيا:
قبل انهيار الإتحاد السوفييتي، كانت سياسة يوغسلافيا مستقلة عن كتلة أوروبا الشرقية، وعن الإتحاد السوفييتي، وكان الزعيم "جوزيب بروز تيتو" من رُوّاد مجموعة عدم الإنحياز، وكانت الدولة تُسَيْطر على وسائل الإنتاج وعلى القطاعات الرئيسية، وأصاب اقتصادها الإرهاق، بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، لكنه لم يُصب بالإنهيار، ولم تنتمِ يوغسلافيا لصندوق النقد الدولي ولمنظمة التجارة العالمية أو البنك العالمي، خلافًا للدول المجاورة، وبقيت قطاعات المعادن (النفط والمناجم) والصناعات (السيارات، والتبغ) والعديد من الخدمات بيد الدولة، رغم الصعوبات الإقتصادية التي ظهرت، ورغم الضغوطات الخارجية، لكي تنتهج الدولة سياسة الخصخصة، والإقتصاد الليبرالي، وتَبِيعَ أُصُول الدولة (القطاع العام) للشركات متعددة الجنسية، في إطار "الإصلاح الإقتصادي"... لهذه الأسباب، ألقى حلف شمال الأطلسي عشرات الأطنان من القنابل، التي دمرت أكثر من 370 مصنع من مصانع شركات القطاع العام، وقَصَف حلف شمال الأطلسي قطارات مليئة بالمسافرين المدنيين، لكنه لم يقصف مصانع القطاع الخاص، أو مصانع الشركات الأجنبية، وبعد تدمير البلاد، واعتقال رئيسها "سلوبودان ميلوسيفيتش"، ومحاكمته بتهم تتعلق ب"جرائم حرب"، فرضت قوات الحلف الأطلسي على حكومة "صربيا" (حيث تفتت يوغسلافيا إلى ست كيانات "مستقلة")، الإصلاحات الإقتصادية المطلوبة منذ 1997، واستحوذت الشركات متعددة الجنسية على نحو 70% من شركات القطاع العام، وأصبح البنك العالمي يُشرف على برامج الحكومة...
كشفت صحيفة "نيويورك تايمز"، بعد ثلاثة أشهر من العدوان، سبب تركيز الحلف الأطلسي على إقليم "كوسوفو" (بالإضافة إلى الرموز التاريخية والدينية التي يُمثلها)، ومن بين هذه الأسباب، ثراء باطن أراضي "كوسوفو" بالفحم، حيث يحتوي الإقليم على ثاني أضخم احتياطات الفحم في أوروبا، بالإضافة إلى احتياطي النفط والنِّيكل والفضة والذهب والرصاص والزنك، وخصصت القوات الأمريكية، ضمن قوات الحلف الأطلسي، نحو ثلاثة آلاف جندي، لاحتلال مًجَمَّع مناجم "تريبتشيا"، وطرد العمال والطاقم الإداري، واستولوا على المُجمّع الذي قُدّرت قيمته، قبل ذلك بسنوات، بنحو خمسة مليارات دولارا، وخصخصت قوات الإحتلال (باسم الأمم المتحدة) كافة شركات القطاع العام، في كوسوفو، الخاضع لإدارة الإحتلال مباشرة، وأهم هذه الشركات، مُجمّع "فيرونيكلي" للتعدين، وينتج نحو 12 ألف طن من النيكل، وهو من أغْلى المعادن، في الأسواق العالمية، كما تمت خصخصة الأراضي التي كانت تمتلكها دولة يوغسلافيا الإتحادية...
كانت هذه الحرب العدوانية، بمثابة مقدمة (أو تَمْرِين) لاحتلال العراق، بعد إنهاكه بحرب 1991، وفرض الحظر والعقوبات، طيلة 12 سنة، وخصخصة قطاع النفط وفَرْضِ دُسْتور يُشَرْعِنُ المُحاصصَة الطائفية للدولة، كما شكلت يوغسلافيا مُخْتَبَرًا لتبرير التدخل العسكري (أي العدوان والإحتلال) بدواعي "إنسانية"، وأطلق برنارد كوشنير (وزير خارجية حكومة الحزب "الإشتراكي" الفرنسي) عبارة "التدخل العسكري الإنساني"، أي "العمل الإنساني" أو "الخَيْرِي" المُدَجّج بالسلاح الناري...
حاربت المجموعات "الإسلامية" (وعلى رأسها تيار الإخوان المسلمون) في يوغسلافيا، إلى جانب قوات حلف شمال الأطلسي، بذريعة نُصرة المُسلمين في كوسوفو وفي البوسنة، بعد أن روجت وسائل الإعلام الإستعمارية إن "الصّرب" يرتكبون جرائم "تطهير عرقي" ضد المسلمين، مع التغطية على جرائم مليشيات "الكروات" الفاشية، المدعومة من ألمانيا والفاتيكان وأمريكا، وتهجيرها لحوالي 200 ألف صربي من منطقة "كرايينا"، أما في العراق، فأعلنت قوى الدين السياسي عودة الخلافة، بقيادة إرهابيي داعش، بدعم أمريكا وتركيا (عضو بارز في حلف شمال الأطلسي، تحت حكم الإخوان المسلمين)، وتحالف الجميع، لتفتيت سوريا، واليمن، بعد تفتيت ليبيا، ولا تزال الولايات المتحدة وحلفاؤها يلفّقُون التُّهم ضد إيران وفنزويلا، ويدعمون الكيان الصهيوني...
وردت العديد من البيانات والأرقام في الصحيفة الأمريكية "نيويورك تايمز"، والبريطانية "غارديان" والفرنسية "لوموند"، طلية فترة الحرب، إضافة إلى بعض المقالات والدراسات التي صدرت سنة 2009، بعد عشر سنوات من العدوان + شريط وثائقي من إخراج "هارولد بِنْتر"، بثّته شبكة "بي بي سي" سنة 1999