في منتصف العام ألفين وستة عشر، عقد مركز سياسات الاستخبارات التابع لمعهد أبحاث الدفاع الوطني في مؤسسة "راند"، الذراع البحثي الفعلي الأهم لـ وزارة الدفاع الأميركية، عقد ما أسماه "مناورة" كانت أشبه بلعبة حرب سياسية، لمحاكاة الأزمات الإقليمية وما تبعها من تحديات أمنية في الشرق الأوسط، و قد أشرف الفريق الأمني لـ "راند" على هذه المناورة، وعمل على تحديد العناصر الاستراتيجية لإسرائيل في سوريا، إضافة لتحديده خيارات يمكن العمل عليها، ضمن ورقة كانت أشبه بـ "دليل العمل" الصادر عن نفس مركز الأبحاث الذي كتب في وقت ما "العقيدة العسكرية الإسرائيلية" على شكل ورقة بحثية شبيهة.
الأهداف الإسرائيلية في سورية يُكمن تلخيصها بعدة جوانب، فقد سعت إسرائيل إلى احتواء إيران في سوريا، و محاولة تحجيم قوتها و منعها من إقامة قواعد عسكرية في الجنوب السوري، فضلا عن محاولات اسرائيل استهداف قواعد الجيش السوري، و منعه من التقدم بُغية إفساح المجال للفصائل الإرهابية بالتقدم و السيطرة، يُضاف إلى ذلك، استهداف مراكز الأبحاث العسكرية السورية، في محاولة من اسرائيل لمنع تطوير الصواريخ السورية و إنتاج أجيال جديدة من الأسلحة تُشكل قلقا استراتيجياً سيفرض تغير واضح في موازين القوى.
في جانب أخر، أوصت مراكز الأبحاث في واشنطن و تل أبيب، بالتركيز على هدف استراتيجي بعيد المدى، حيث أن تعاظم القوة السياسية و العسكرية الروسية في سوريا، سيكون كارثيا بالنسبة لـ اسرائيل، على الرغم من الرؤية الاستراتيجية الاسرائيلية التي رأت في التدخل الروسي في سوريا، بمثابة فرصة لضبط الإيقاع لكافة القوى في الجغرافية السورية، لكن و في حسابات القوة الإسرائيلية، فقد برزت مخاطر عدة نتيجة التدخل الروسي في سوريا، هذه المخاطر بدت واضحة عند إسقاط الطائرة الروسية قبالة السواحل السورية، و ما تبعه من تداعيات لامست القطعية السياسية و العسكرية بين موسكو و تل أبيب، الأمر الذي أدخل اسرائيل في نفق من الخيارات المستحيلة، حيث أن تلاعب تل ابيب بكافة الأطراف الفاعلة و المؤثرة في الشأن السوري لتحقيق أهدافها، جعل منها عُرضة للتبدلات و التعقيدات المتزايدة التي فرضها انتصار الدولة السورية سياسيا و عسكريا، و بذلك انتقلت الاستراتيجية الاسرائيلية، من مرحلة الهجوم إلى مرحلة البحث عن تبديد هواجسها، جراء تعاظم قوة محور المقاومة، فالتجأت إلى موسكو بُغية الضغط على سوريا لجهة إخراج إيران من سوريا، ما يُفسر الزيارات المتكررة لـ نتنياهو إلى موسكو، و استجداء بوتين للتدخل من أجل تحقيق المطالب الاسرائيلية، و إفساح المجال للطائرات الاسرائيلية باستهداف ما ترأتيه خطراً يُهدد اسرائيل في سوريا، لكن تُرجمة إيحاءات وجه نتنياهو رفضاً روسياً للمطالب الإسرائيلية.
ضمن هذه المعطيات، من الواضح أن اسرائيل و منذ بداية الحرب على سوريا، سعت إلى تشكيل منطقة عازلة تصل إلى محافظات درعا والسويداء، عبر تقديم الدعم للجماعات الإرهابية التي كانت تُسيطر على الجنوب السوري، حيث دعمت إسرائيل هذه المجموعات بمختلف الأشكال عسكريا ولوجستيا ومعلوماتيا، و لم يعد خفياً الجهد الإسرائيلي المبذول لبناء واقعٍ يمكن أن يكون فرصة لحماية المحيط الاستراتيجي لها، خصوصاً أن الواقع الجديد الذي أفرزته الأزمة السورية، لم يكن كما تشتهي تل أبيب و من خلفها واشنطن، وهنا فإن مسألة أولوية أمن الكيان الإسرائيلي بالنسبة لأمريكا ليس بجديد، لكن حجم الرهانات الخاسرة والتي كانت من نتائج الأزمة السورية، قوَّضت الخيارات الاستراتيجية لواشنطن و تل أبيب، اليوم و بالنظر إلى مشهدية الميدان السوري و الانتصارات المتتالية التي يحققها الجيش السوري وحلفاؤه على طول الخارطة السورية، والتوقعات بقرب انتهاء الأزمة السورية إضافة إلى القلق من الوجود الإيراني القوي في سوريا، هي من الأسباب التي تجعل إسرائيل تبادر لبعض الخطوات التي تأتي في سياق إطالة أمد الحرب على سوريا، و إن لم تتمكن من ذلك، فلا ضير بالاعتماد على استراتيجية المراوغة و استمالة روسيا و استجدائها للتعاون من أجل اخراج إيران من سوريا، إضافة إلى جُملة من الأهداف التي تسعى اسرائيل إلى تحقيقها ضمن جزئيات معادلاتها في المنطقة، و عليه فإن القلق الإسرائيلي المتنامي جراء انتصار سوريا، أدخلها في متاهات الانتصار السوري، مرحلة البحث عن خيارات بديلة تُشكل في ماهيتها بُعدا سياسياً و عسكرياً يُمكنها من احتواء القوة السورية و تعاظم محورها المقاوم.