مرّ العالم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة في العام 1991، بأربع مراحل؛ تميزت المرحلة الأولى التي غطت التسعينيات المتبقية، ببروز الولايات المتحدة باعتبارها القطب العالمي الأكبر والمسيطر. وقد تصوّر الكثيرون بأن نظاماً عالمياً جديداً سيتشكل تحت قيادة أمريكية لا تُنازَع، وذهب البعض إلى حد القول بانتهاء التاريخ، وانتهاء عصر الثورات والمقاومات المعادية للامبريالية والأنظمة التابعة والكيانات العنصرية.
ولكن سرعان ما أخذت الوقائع والصراعات الدولية والمقاومات الإسلامية تتقدم لتهز تلك التوقعات، وقد ولدت دعوات لعالم متعدد القطبية، صادرة عن فرنسا (شيراك) والصين، وحتى روسيا (بريماكوف- رئيس الوزراء). فكان الضعف واضحاً، مع ما أصاب إدارة كلينتون من إرباكات وتراجعات وإخفاقات (لم يستطع تمرير تسوية وإقامة نظام شرق أوسطي جديد)، وتصاعدت المقاومات في لبنان وفلسطين، وتشكل محور ثلاثي مصري- سوري- سعودي (خريف 1994) معارض.
الخطأ الأساسي نبع من التصوّر بأن أمريكا أصبحت الأقوى بإطلاق، فيما لم يُلحظ أنها أعجز من أن تسيطر على كل الدول الكبيرة ذات الشأن: أوروبا والصين، والهند وروسيا. فعالم سيطرة القطبين السابق كان يواجه فلتاناً هنا وهناك، ويعاني من فوضى عالمية بهذا القدر أو ذاك (مثلاً الصين، وحركة عدم الانحياز)، وعدد من المقاومات والتمردات، فضلاً عن الأزمات الداخلية في كل منهما.
ولهذا كان يجب أن يُلتقط بأن أمريكا أصبحت أضعف بسقوط الاتحاد السوفياتي وليست أقوى؛ لأنها ذهبت منفردة لإقامة نظام عالمي تحت سيطرتها المطلقة. وهذا متناقض مع استراتيجيات ومصالح، حتى بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان، ناهيك عن العالم كله.
جاءت المرحلة الثانية (العقد الأول من القرن الواحد والعشرين)، في محاولة لتلافي ما ظهر من ضعف أمريكي في عهدَيْ بيل كلينتون، وعلى أمل استعادة استراتيجية بناء نظام عالمي يتحكم فيه قطب واحد هو أمريكا. لقد عبّر المحافظون الجدد برئاسة جورج دبليو بوش عن ذلك علانية، وقرروا انتهاج استراتيجية القوة. فابتدأوا باحتلال أفغانستان، ودعموا شارون لاحتلال مناطق (أ) في الضفة الغربية، وشنوا حرباً على العراق واحتلوه، وانطلقوا لفرض نظام شرق أوسطي جديد (كبير) ضمن المنظور الصهيوني والتحكم الأمريكي.
ولكن سرعان ما راحت هذه الاستراتيجية تتداعى أمام اندلاع مقاومات في لبنان وفلسطين والعراق وأفغانستان، وتبين أن من غير الممكن تحقيق أهداف استراتيجية القوة، بالرغم مما أحيط بها من أوهام، أو ما قامت به من عمليات احتلال. ثم تفجرت بين أيدي المحافظين الجدد أزمة مالية عالمية أحدثت زلزالا عالمياً في عام 2008، فأسهمت في انهيار مساعي المحافظين الجدد، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، وأصبح إنقاذ الاقتصاد الأمريكي أولوية المرحلة الثالثة للوضع العالمي، وهو ما عبر عنه عهدا باراك أوباما، فضلاً عن الورطات العسكرية التي خلفتها.
يمكن، أو يجب، أن يُلحظ هنا أن القيادات الأمريكية بعد انتهاء الحرب الباردة؛ فقدت قدرتها على طرح استراتيجية ملائمة للمرحلتين الأوليين المذكورتين، حيث تم التركيز على "منطقة الشرق الأوسط"، وعلى تطويعه في مصلحة الكيان الصهيوني، وتركت روسيا والصين لشأنهما: الأولى تحت وهم الانحلال والتفسخ الذي مثلته قيادة يلتسين فجاء بوتين بعزيمة حديدبة لاستعادة روسيا، دولة كبرى مهابة، والثانية (الصين) تحت وهم أن انفتاحها على الإصلاحات التي اعتبرت رأسمالية، ستجعل مصيرها كمصير أوروبا الشرقية أو فيتنام وكمبوديا ولاوس.
فبدلاً من أن تذهب الاستراتيجية الأمريكية لجعل أولويتها الاستمرار في الضغط على روسيا ومواصلة انهيارها، وصولاً لتجريدها من قوتها النووية. وبدلاً من أن تجعل أولويتها استمرار احتواء الصين، وعدم السماح لها بغزو كل أسواق العالم، والتطور بقفزات كبيرة.. بدلاً من ذلك، تمت مهادنتهما، لا سيما في عهدَيْ المحافظين الجدد الذين اعتبروا أن القضاء على صدام حسين أهم مما يفعله بوتين أو تندفع إليه الصين. وأضف، من دون أن يلحظ ما يجري في إيران وتركيا والبرازيل والهند وجنوبي أفريقيا من مشاريع دول إقليمية كبرى.
أما المرحلة الثالثة (العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين)؛ فتبدأ مع باراك أوباما (2009-2017)، وهي الرئاسة التي يعتبرها دونالد ترامب رئاسة ضعيفة ومتخبطة بالأخطاء، كما فعل جورج دبليو بوش حين اعتبر أن كلينتون قد جعل من أمريكا مسخرة في العالم. جاء أوباما وهمّه الأول إنقاذ أمريكا من كارثة أزمة 2008 المالية- الاقتصادية. أما على المستوى الدولي، فقد تخبط في طرح أولويات الاستراتيجية الأمريكية، فقد اعتبر الصين التحدي الأساسي الذي يواجه أمريكا، وبدأ ينقل ثقل دبلوماسيته وبعض المواقع العسكرية باتجاه الشرق الأقصى. ولكنه راح يتردد في أين يضع روسيا، والأخطر استمرار حرق أصابعه في ما تركه جورج دبليو بوش من حرائق وأزمات في العراق وسوريا وفي عملية التسوية، الأمر الذي جعله في عهدَيْه متخبطاً في أولوياته، ومهزوزاً في علاقته بالمنطقة العربية- الإيرانية- التركية، وهو ما أسهم في الانطباع الذي تولد عند ترامب بوصف عهده بعهد الأخطاء والضعف، مما جعل جزءاً مقدراً من سياسات ترامب محكومة بمخالفة سياسات أوباما. وقد عبر عن ذلك، بصورة صارخة، خطاب مايك بومبيو، وزير الخارجية الأمريكية، في الجامعة الأمريكية في القاهرة في 11 كانون الثاني/ يناير.
أما المرحلة الرابعة، وهي بالتأكيد فارقة مع كل ما سبقها، قد ابتدأت في العشرين من كانون الثاني/ يناير 2017، من خلال تسلم دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي أدخل العالم في مرحلة جديدة من الصراع مع أمريكا، وأدخل أمريكا في مرحلة جديدة من الصراع مع نفسها.
صحيح أن ظاهرة ضعف أمريكا وتراجعها وإخفاق سياساتها عموماً، يمكن اعتبارها سمة مشتركة بين المراحل الأربع التي تلت انتهاء مرحلة الحرب الباردة. وصحيح أن ما من رئيس أمريكي إلاّ وله خصوصيته التي تميزه عن غيره من الرؤساء، لكن ما يميز خصوصية ترامب عن الجميع هو صراعه الحاد مع الدولة العميقة ومراكز اتخاذ القرار وكبريات المؤسسات الإعلامية، وقطاع واسع من الرأي العام الأمريكي (مستنداً إلى تأييد 42 في المئة منه)، الأمر الذي أدى إلى تصادمه لاحقاً مع عدد من وزرائه ومستشاريه ومعاونيه الذين اختارهم هو بنفسه. فقد أصبحت أمريكا الرسمية في عهده أمريكيتين (كمال الطويل)، والشارع شارعين (زياد الحافظ).
فعلى سبيل المثال، عندما أخذ ترامب قرار سحب قواته العسكرية من سوريا تبين أن وزير الدفاع الذي يمثل البنتاغون غير موافق عليه، وكذلك السي آي إيه، وجون بولتون، مستشار الأمن القومي، وتبين أن هنالك قوى نافذة كثيرة غير موافقة أيضاً، مما اضطره إلى التخفيف من الضغوط عليه بإعلان التبطيء بتنفيذ القرار، ولكنه ماضٍ به.
كل استقالة حدثت في الإدارة الأمريكية جاءت بسبب تعارض ترامب مع المؤسسة التي تمثلها، تماماً كما حدث مع استقالة جيمس ماتيس، وزير الدفاع، إثر قرار الانسحاب من سوريا. وأخيراً وليس آخراً؛ معركته مع الكونجرس بخصوص بناء الجدار الحدودي مع المكسيك، أيضاً على مستوى السياسات الدولية. فمن الواضح أن ترامب يأخذ قراراته، إما بتحدٍ سافر لحلفائه أو في الأقل من دون أن يستشيرهم. ولهذا، صوّت ضده 14 عضواً في مجلس الأمن، بالنسبة إلى قراره المتعلق بالقدس أو نقل سفارته إليها، هذا إلى جانب ما أثاره من تناقضات مع أوروبا واليابان في قضايا المناخ والعودة إلى السياسة الحمائية، فضلاً عن مطالبته لهم بدفع مقابل وجود القواعد العسكرية على أراضيهم، أو ما يعتبر مظلة أمريكية لحمايتهم من حروب محتملة.
أما علاقته بكلٍ من روسيا والصين فهي في الحضيض، مما أدخل العالم مرة أخرى في حرب باردة غير معلنة، أي الدخول في سباق تسلح وتطوير تقني عسكري متفاقمين.
على أن هذا كله يجب ألاّ يُفسّر بسبب غرائب أطواره، أو بسبب عقليته التجارية العقارية؛ لأن وراء صراعه مع الدولة العميقة، كما مع الكونجرس، كما مع قطاع هام من الرأي العام، ومعركته مع الإعلام، اتجاهاً سياسياً تغييرياً يسنده قطاع من الشعب من "الواسبس" (الأمريكان البيض البروتستانت الأنجلو- سكسون) لا يستهان به، بل يمكنه أن يذهب إلى حد الحرب الأهلية إذا ما تعرض ترامب للتانيب أو الإقالة. فترامب ليس شخصاً شاذاً فحسب، وإنما هو أيضاً يمثل اتجاهاً داخلياً، ويمثل استراتيجية وسياسات خارجية واقتصادية وعسكرية لها دعم داخلي أمريكي لا يستهان به.
ولهذا، أمريكا منقسمة على نفسها.. ولهذا، ليس لأمريكا سياسة موحدة خارجياً (أو في أغلب الحالات الخارجية)، ولهذا أمريكا اليوم أضعف وأشد ارتباكاً من كل المراحل السابقة، ولكنها في "مرحلة مخاض" يعطيها ترامب الأولوية، ولا يساوم عليها، وإن تراجع أمام الضغوط الداخلية فليقفز بقوة ليفرض على أمريكا أن تتوحد تحت رايته، وإلاّ فأمريكا ماضية إلى ما هو أبعد من الانقسام، وأبعد من ضعفها الراهن، لا سيما إذا ما فاز في الدورة الثانية.