القرار الأمريكي بالانسحاب من سوريا، يحمل في جزئياته تناقضات تعكس القلق الاستراتيجي الذي تعاني منه واشنطن و أدواتها، فـ بعيد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انسحاب قوات بلاده من سوريا، بدا الارتباك ليس على مستوى الإدارة الأمريكية فحسب، بل وصلت حالة الإرباك إلى أدوات واشنطن، ما يُفسر حالة الصراع بين هذه القوى، حيث لكل منها أهداف و خطط يُراد منها توظيف التناقضات التي جاءت بعد القرار الأمريكي، و بات الهاجس الوحيد الذي يجمع هذه الدول، كيفية توظيف القرار الأمريكي، و اللعب على التباينات السياسية و العسكرية، و خاصة تلك التباينات المتعلقة في شرق الفرات.
يبدو واضحا أن القرار الأمريكي المتعلق بالانسحاب، لا يزال ضمن إطار المراهنات الرامية إلى تحجيم مفاعيل الانتصار السوري و تداعياته، حيث أن الإدارة الأمريكية تدرك تماما، بأن الدولة السورية و جيشها عازمون على الاستمرار بحصد المنجزات و مراكمتها لتوظيفها سياسيا، فضلا عن الهدف الاستراتيجي للجيش السوري، المتمثل بتحقيق نقلات نوعية و سريعة، كالوثبة نحو منبج، و التي كانت تحمل من الرسائل ما يجعل واشنطن تُفكر في إعادة صياغة استراتيجيتها، بما يحقق لها مكاسب سياسية ضمن فرضيات خلط الأوراق من جديد، و ما المراهنة الأمريكية على الكرد إلا توظيفا سياسيا لتطبيق استراتيجية التقسيم، و العمل على الوقت بدل الضائع من أجل ترسيخ حالة الفوضى، و إحداث صدع استراتيجي في شمال و شرق سوريا، و هذا يُفسر حقيقية الجولة المفاجئة لوزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو إلى الشرق الأوسط، حيث تحمل هذه الزيارة مضامين و رسائل، الهدف منها تدارك حالة الارتباك، و محاولة ترتيب جزئيات القرار الأمريكي، بما يناسب الكيان الصهيوني، فضلا عن المحاولة الأمريكية بمنع تمكين الدولة السورية و حلفاؤها من توظيف قرار الانسحاب لصالحهم، و الحد من وثبات الجيش السوري إلى المناطق التي سيُخليها الأمريكي، و هذا لا يتناسب مع المخطط الأمريكي بتقسيم الجغرافية السورية، فالهدف البعيد للإدارة الأمريكية يحقق طموحا اسرائيليا، بإضعاف الدولة السورية، و إخراجها من المعادلات الإقليمية، لكن في مقابل الخطط الأمريكية، تبدو الاستراتيجية السورية تُحقق المزيد من المكتسبات و المنجزات سياسيا و عسكريا، حيث أن سياسية الدولة السورية تعمل وفق توقيت ثابت مع وضوح تام في الرؤى، فالحرب على الارهاب مستمرة، و تطهير التراب السوري من الأمريكي و بيادقه، يدخل في صُلب العمل السوري، من هنا يبدو أن بومبيو و بولتون يحاولان و عبر استراتيجية تدوير الزوايا، و الاستمرار باستثمار الإرهاب، اللعب على التناقضات و التباينات السياسية، من أجل منع انهيار وكلاء واشنطن في الشرق الأوسط، و عليه لابد من تأخير الانسحاب، أو تنظيمه ريثما تتمكن أدوات واشنطن في المنطقة، من رص صفوفها لمنع الدولة السورية من إنجاز نصرها الكامل على الإرهاب، وإجهاض أي حل سياسي لا يتوافق مع الأجندات الصهيو-أمريكية، و أجندات بعض دول الإقليم.
المؤكد أن محور المقاومة و عموده الفقري سوريا، يدركون جيدا أبعاد الخطط الأمريكية، و يعملون في إطار ضرب أهداف واشنطن و تقويضها، فـ استراتيجية الاحتواء التي تعتمدها الدولة السورية و حلفاؤها، تأخذ في ماهيتها أبعاد سياسية و عسكرية، من شأنها إحداث تحولات كبرى، و ضعضعة الحلف الأمريكي الذي يعاني في الأصل من تناقضات و تباينات جمة، و عليه، فإن أي محاولة أمريكية لترميم الانكسارات في صفوف محورها، ستبوء بالفشل، فالدور التخريبي لواشنطن و الوظيفي لأدواتها، بات خارج سياق التفعيل سياسيا و عسكريا، و القادم من الأيام سيحمل في جعبته المزيد من الانتصارات للدولة السورية و حلفاؤها، في مقابل المزيد من الانكسارات و الهزائم و العُقد الاستراتيجية في محور واشنطن.