بقلم: نارام سرجون
استعرض مقالات الكاتب | تعرف على الكاتب 09-12-2018 - 1993 في هذه الأيام يتراجع الكلام وتتقهقر اللغة، وتمضي الأحزان إلى أوكارها بعد أن عوت في ضمائرنا وهي تنهش قلوبنا النابضة، ولكن إياكم أن تهجعوا إلى مراقد الدنيا كما هجع الكلام، فطبيعة الكلام أنه لايثور إلا عندما تثور الحواس، العين ترى والأذن تسمع والأصابع تلمس والقلب يخفق والحزن يدق بحوافره كثور هائج أو كقطيع من الجواميس الهائجة الغاضبة، فيثور بركان الكلام أو يتدفق ماؤه من بين شقوق اللغة التي تشققت من ضرب حوافر قطعان الأحزان، ويتدفق من بين شقوق الصخر في الجسد والقلب، وهذا الكلام لايعتمد عليه لأنه انتاج الحواس وعبد للحواس وهو مايسمى بالكلام الانفعالي، إنما خير الكلام وخير اللغة هما مايثير الحواس ويجعلها تثور فترى العين الماوراء وتسمع الاذن جلجلة السماء .. كلام لايستقر في حاضر بل يسافر عبر الزمن اما نحو الماضي فيخلخله او نحو المستقبل ليأسره .. كلام يجعل احاسيسنا تعمل بشكل مختلف وتدرك انها ليست موجودة من أجل الجسد المادي وفي خدمة بلاطه .. بل ان الجسد كله يعمل في خدمتها ليحيا الى الابد .. من أجل مافوق الجسد .. من أجل الروح ومافوق الروح .. وهذا الكلام الذي يأمر الحواس كأمير هو مايعول عليه .. وهو مايجب ان نستمع اليه وان نبحث عنه ونكتبه وننحته ونتعلمه ونعلمه .. وهو الكلام الذي كنا نكتبه معا ونقرأه معا في زمن الحرب فأخذ أرواحنا الى النصر والى المستقبل ..
هذه الايام تشبه المستحيل ويولد فيها كلام كان مستحيلا قبل عام او عامين .. وتشبه سيرتها حكايات الخيال العلمي التي تتحدث عن زوار من المستقبل ورحلات الى الماضي .. وفي هذه الحكايات التي يزور فيها المسافر الزمن الماضي فيبدو في عيون سكان الماضي غريبا في كل شيء وكأنه كائن خرافي .. فمنذ سنوات قليلة كان الشارع العربي مصابا بلوثة الربيع العربي وكان هذا الشارع دائخا بالشعارات وبكلام منقوع بالمخدرات .. وقد شرب الجمهور الحشيش والكوكايين وبدا فاقدا لكل قدرة على التفكير ودائخا وعيونه زائغة وكان من الخطر احيانا ان يحاول اي عاقل ان يقف في وجه هذا الجمهور الذي كان يندفع كقطيع هائل من الجاموس البري الغاضب والذي كان مستعدا لسحق كل من يعترضه تحت حوافره .. وهذا التعبير ليس تحقيرا للناس ولكن الجزيرة واعلام العالم جعل الناس مخدرة بجرعات الحشيش والهيرويين .. وهي حالة تتعرض لها كل الشعوب التي تتعرض للتضليل المحكم الذي يتحكم فيه خبراء علم نفس الجماهير .. وقد أصابت الهستيريا ضد سورية الدولة والقيادة كل الناس في العالم .. ولكن حجم الهستيريا في عالمنا العربي كان أكثر لأن جرعات الحشيش كانت عالية جدا الى درجة التسمم حتى اصيب المثقفون أنفسهم بأعراض التسمم وتعاطي الحشيش الذي كان يوزع مجانا في الطرقات وفي كل بسطات وحانات وشوارع الاعلام والفيسبوك ووسائل التواصل .. ومازاد الطين بلة هو ان الغطاء النخبوي العربي كان هشا للغاية وتمزق بسرعة ووصل الجنون الى عقول الناس لأن الطبقة الواقية من المثقفين والنخب منها كانت مريضة ومنخورة وضعيفة وغير مؤهلة فكريا وثقافيا وعلميا للتصدي لقدرات الغرب الثقافية والعلمية الهائلة التي سخرت في الاعلام والحرب النفسية وانكشفت الطبقات المثقفة اكثر من اي طبقة في المجتمع العربي وتحولت الى طبقة رمامة وانتهازية وغير مفيدة بل وتم استعمالها بعلم او بجهل في عملية تجييش وتجنيد الوحشية والجنون والعنف .. في تلك الأثناء كان التنسيق الاسرائيلي العربي في الظل واستتر قليلا كيلا يمكن استخدام هذا التنسيق في عملية مراجعة لما يحدث او سببا في يقظة الدائخين والسكارى بالثورات .. ولكن اليوم خرجت كل الاسرار الى العلن .. ومايفعله الاسرائيليون من زيارات عربية ليس جديدا على الاطلاق بل هو استمرار علني لبرنامج سري قديم .. فكما نعلم فان الملك حسين والملك الحسن الثاني والمملكة السعودية وشيوخ الامارات الخليجية كلهم كانوا يلتقون سرا مع الاسرائيليين وينسقون معهم المواقف العربية ضد قضية فلسطين والشعب الفلسطيني وضد كل من يحارب اسرائيل او يقاومها .. حتى ان الملك حسين طار بنفسه ليحذر اسرائيل من هجوم سوري مصري .. بل ان حرب اليمن ضد عبد الناصر شاركت فيها اسرائيل الى جانب السعودية كما اليوم .. وهزيمة 67 كانت بتواطؤ سعودي بالدرجة الاولى .. ولكن خطابات كل هؤلاء كانت تشبه خطابات عبد الناصر وحزب البعث وهي تحرض الجماهير وتهدد اسرائيل وتحذرها ويهز هؤلاء الزعماء رؤوسهم اسفا وحسرة على عدم احراز نصر على اسرائيل وهم في سريرتهم كانوا يعلمون انهم يمثلون على الناس أدوار البطولة .. اليوم وبسبب النصر العسكري الكاسح وانتصار بندقية الجيش السوري بدأت الشعوب العربية تتغير وكأنها تنهض من حالة التخدير .. وصارت جرعات الافيون الاسلامية والناتوية لاتؤثر في الجسد الذي اعتاد ادمان التضليل .. وهذا ليس مرده الى تعافي الشعوب والى نمو النخبة المثقفة فيها وتطورها السريع بل هذا انعكاس منطقي وطبيعي لعملية الانتقاء والاصطفاء الطبيعي بحيث ان منطق المنتصر هو الذي يسود ولكنه يظل منطقا لم تصنعه عودة الوعي ونهوض النخب .. ولو انتصر الربيعيون والاسلاميون العرب لساد بين الناس منطقهم ولغتهم وتلاشى صوت الطرف المهزوم .. معضلة نتنياهو كبيرة وليست بالهينة .. وهو يدري ان مزاج الشعوب العربية قد يعيدها نصر سورية وحلفائها الى حالة الشعور القديمة بالعداء لاسرائيل ونظرية رفض وجود اسرائيل لأن النموذج السوري الذي انتصر هو حامل هذه النظرية وسبكون المشروع السوري المقاوم جذابا بكل محتوياته النظرية والايديولوجية للشعوب العربية التي لن تتذكر كثيرا مرحلة الربيع العربي بعد سنوات قليلة وستنسى ماقيل في حملات التشويه ضد الدولة السورية لأن نموذج الانتصار البراق سيكون له معجبون كثر وسيرتد كثيرون عن حالة العداء بميل واع او لاواع للتأثر بالتجربة السورية وسيغري الانتصار السوري الشعوب العربية لتميل نحو النظرية والمشروع السوريين في الشرق الاوسط والصراع مع اسرائيل .. ونتنياهو يحاول ان يصل الى العواصم العربية قبل ان يصل اليها النصر السوري والمزاج السوري الذي بحكم انتصاره سيكون نموذجا مثيرا للاعجاب الشعبي بغض النظر عن النظرة السابقة التي سادت لأن الانتصار يظل شيئا يفعل في النفس فعله حتى لو كان العدو والخصم هو من حققه .. فالناس رغم محبتها لعبد الناصر الا ان تياره ونظريته ومشروعه كله تعرض لهزة خطيرة وانفض الناس عنه لانه لم ينتصر .. وعلى العكس ورغم ان مشروع السادات للسلام كان مشروع هزيمة واستسلام الا انه تسلح بنصر اكتوبر وقدم نظريته مخفورة بانتصار عسكري تمثل في معجزة العبور .. اذا نتنياهو وعصابته لم يحدثوا اي اختراق سياسي على مستوى العلاقات مع القصور العربية ومؤسسات الحكم لأن العلاقات السرية قديمة ومتطورة جدا ولن يضيف فضحها اي مكاسب .. ولكنهم اخرجوها الى العلن لاستباق وصول آثار الانتصار السوري قريبا الى العواصم العربية وتأثر المزاج الشعبي .. وتوقيت زيارات الاسرائيليين الى عواصم العرب مدروس لأنه يحاول وضع قدمه في العواصم العربية قبل ان تتطور الحالة الشعبية المنبهرة بالاعجاز السوري والمعجبة به الى حالة التبني لكل محتويات النصر وايديولوجيته في الصراع مع اسرائيل .. المزاج الشعبي العربي بدأ يظهر نوعا من التململ من الربيع العربي ونظرياته وشخصياته وطرأت حالة من التشكيك بصلاحية نظريات تلك المرحلة وسبب ذلك ان صراع النظريات أفرز انتصارا للنظرية السورية التي انتصرت عسكريا مما قدم فرصة لانتصارها الفكري والايديولوجي وهيأ مزاجا عاما لقبول خياراتها السياسية الرافضة لوجود اسرائيل والعلاقة معها .. ويستحيل ان تنتصر بندقية وتهزم النظرية التي تتبناها .. فهناك تلازم وصراع في نفس الوقت بين النظرية والبندقية .. فالنظريات قد تتسلح بالبنادق .. والبنادق قد تتسلح بالنظريات .. وطبيعة المنتصر تحدد طبيعة النصر .. نتنياهو وصل الى العواصم ويحاول ان يؤمن لنفسه مكانا قبل ان تصل المرحلة السورية كنموذج منتصر الى هذه العواصم لأن وصول النظرية السورية في السياسة والحرب سيعني وصول فكرة رفض اسرائيل وانتشارها قبله مما يجعل اي عملية تطبيع قادمة مهمة صعبة للغاية وخطيرة ومسببة للاحراج .. فالدم الفلسطيني الذي تسكبه اسرائيل كل يوم لم يجعل الشعوب العربية تنتفض في وجه التطبيع لأن الشعوب تريد ان تتسلح بنموذج قوي يساعدها نفسيا في عملية الرفض .. وهو مافعلته اسرائيل في مشروع الربيع العربي لأنها قدمت النموذج الرافض بشدة لاسرائيل على انه النموذج الذي هزم في ليبيا وسورية واليمن وعلى العكس فان النموذج الذي تقدم أكثر نحو اسرائيل هو الذي انتصر في تونس الغنوشي ومصر محمد مرسي .. فسادت موجة من القبول بنظريات المنتصرين ونزوح عن نظريات المهزومين ومشاريعهم .. وانا شخصيا اعزو سبب النفور الشعبي المؤقت من حزب الله وسورية هو اعتقاد الناس ان هذا النموذج هزم .. والمهزوم لن يجد من يبكي عليه .. بل سيتسابق الناس للابتعاد عنه والاقتراب من المنتصر أيا كانت هويته .. نتنياهو يهرول نحو العواصم العربية ويسابق الزمن قبل ان يصل اليها الاسد ونصرالله .. ولكن المزاج الشعبي في هذه العواصم بدأ يتسابق للوصول الى دمشق .. ويتسابق لمصافحة الاسد .. الذي انتصر .. وهناك فرق بين من يهرول الى العواصم وبين من تهرول العواصم اليه
لا يوجد صور مرفقة
|