ربما لم يدرك ترامب حين أدلى بتصريحاته الأخيرة عن أهمية السعودية لوجود (إسرائيل)، وسؤاله الصريح للرأي العام الامريكي، هل تريدون (إسرائيل) أن ترحل؟!
لم يدرك أنه إنما أكد قناعة فلسطينية وعربية راسخة منذ عقود طويلة، لطالما نفاها وشكك فيها (الصهاينة اليهود والأمريكان والاوروبيون والعرب)، وهي أن الكيان الصهيونى إلى زوال إن عاجلاً ام آجلاً، وأن فلسطين سيتم تحريرها من بحرها الى نهرها في يوم من الأيام، نأمل أن يكون قريباً، وفقاً لسنن ونواميس التاريخ التي لم تشذ أبداً وهي أن الإستعمار حتماً إلى زوال ولو بعد حين.
اعترافٌ أمريكى ومن أعلى مستوى ومن أرفع مسؤول هناك، بأن بقاء اسرائيل ووجودها مرهون ومرتبط بعوامل من خارجها وليس من عناصر القوة والاستقرار داخلها.
وهو على العكس تماماً من كل ما مرت به الأمم والقوميات والمجتمعات البشرية الطبيعية والمستقرة، إذ إن اختصاص الشعوب بأراضيها وأوطانها وقدرتها على الدفاع عنها ضد اطماع الجماعات والأمم والقبائل والقوميات الاخرى ونجاحها فى صد كل الغزوات العدوانية واحدة تلو الاخرى هو الذى يصنع الأمم، ويجعل العالم كله يعترف لشعب ما بانه المختص الوحيد بالارض التى يعيش عليها دونا عن غيره من الشعوب الأخرى.
وهو الأمر الذى حدث مع أمم كثيرة على مر التاريخ، من ضمنها الأمة العربية، التى بدأت فى التشكل والتكوين مع الفتح العربى الاسلامى، واستطاعت ان تحتضن وتصهر وتهضم كل الجماعات والأقوام والقبائل والشعوب التى كانت تعيش على هذه الارض من قبل ولكنها كانت عاجزة عن الاختصاص باوطانها بسبب عجزها عن الاستقلال عن الاحتلال الاجنبى القادم من اوروبا لما يقرب من ألف سنة متصلة، من أول الاسكندر الأكبر 332 ق.م وحتى نهاية الاستعمار البيزنطى 642م مثل الحالة فى مصر على سبيل المثال.
ومنذ ظهرت للوجود هذه الأمة العربية الوليدة، عجزت كل الأمم والدول والامبراطوريات الاستعمارية الأجنبية عن انتزاع هذه الارض الطيبة من الشعوب العربية على مر الأجيال، ففشلت الحملات الصليبية وهزمت وعادت من حيث أتت 1096-1291م. وكذلك فشل الاحتلال الأوروبى للأقطار العربية ورحيله بعد أقل من قرنين من الزمان على بداية حملته الاستعمارية على أيدى نابليون بونابرت عام 1798.
بينما لا نزال حتى يومنا هذا نقاوم الحملة الاستعمارية الجديدة التى بدأت بعد الحرب العالمية الثانية والمتمثلة فى الاستعمار الامريكى وقاعدته الاستراتيجية المسماة باسرائيل، وسيفشلون ويرحلون كغيرهم وكاسلافهم باذن الله.
نعم نحن نعلم هذه الحقيقة علم اليقين، حقيقة زوال (اسرائيل) واسترداد فلسطين، ولكن هذه المرة شهد شاهد من أهلها. ولذلك فإن شهادة ترامب لا تكمن قيمتها في أنها كشفت أمراً جديداً أو مجهولاً، وإنما في أنها ترفع الغطاء وتسقط كل الحجج والذرائع عن حكامنا العرب وعن كل النظام الرسمي العربي الخاضع والمستسلم الذي يكذب ويدعى منذ سنوات طويلة بأنه: ((لا قبل لنا باسرائيل وأنه لا معنى للتمسك الأحمق بعدم الاعتراف بشرعيتها، فهى أمرٌ واقع شئنا أم أبينا وهي دولة عضو فى الأمم المتحدة، تحظى باعتراف وعلاقات دبلوماسية مع غالبية دول العالم، وأنه لا أمل لنا فى مواجهتها والقضاء عليها وليس أمامنا سوى الصلح والسلام معها، فمن ذا الذى يستطيع أن يقاتل أمريكا.)) وهذه الجملة الأخيرة قالها صراحة الرئيس الراحل أنور السادات بعد حرب 1973، ويكررها من بعده تلاميذه وخلفاؤه من الحكام العرب والمصريين (1979-2018).
وعودة إلى ترامب ورغم كل العداء والكراهية اللذان يكنهما لنا ورغم كل اعتدائاته علينا وعلى حقوقنا ومقدساتنا، الا انه اعترف بما حاول اوباما واسلافه من رؤساء امريكا انكاره؛اتتذكرون خطاب اوباما فى جامعة القاهرة فى الرابع من يونيو عام 2009 حين قال ان اسرائيل باقية لن تختفى ولن تزول، وعلى كل من يتصور غير ذلك ان يتخلى عن اوهامه.
ولم يكن ترامب هو اول من يقر بهذه الحقيقة من معسكر الاعداء، فهناك كثيرون اكدوها من قبله، ربما يكون اشهرهم هو الصهيونى الالمانى الاصل "ابراهيم بورج" الرئيس الاسبق للكنيست الاسرائيلى 1999-2003 وكان والده هو يوسف بورج مؤسس حزب المفدال (الحزب القومى الدينى). ولقد قدم "بورج" نصيحة الى كل يهودى يعيش فى (اسرائيل) بأن يسارع الى التزود بجواز سفر أجنبى استعدادا للرحيل، ولقد طبق هذه النصيحة بالفعل على نفسه، فحصل على جواز سفر فرنسى بجوار جوازه الاسرائيلى.والامثلة كثيرة.
لم يكتفِ ترامب بما قاله فى سياق دفاعه عن السعودية وبن سلمان، بل كرر ذات المعنى فى تصريحات تالية لصحيفة الواشنطن بوست، حين قال بالنص: ((هل سنبقى فى تلك المنطقة؟ هناك سبب واحد للبقاء هو اسرائيل ... النفط كسبب (للبقاء) تتضاءل اهميته، لان انتاجنا منه فى الوقت الحالى اكبر من اى وقت مضى.))
وهو ما يعنى مرة اخرى ان وجود وبقاء الكيان الصهيونى المسمى باسرائيل مرهون بوجود امريكا فى المنطقة، أى مرهون بعوامل وبموازين قوى وبترتيبات امنية موجودة خارجها وليس داخل كيانها الباطل والغريب والشاذ والعاجز عن الاندماج فى المنطقة والملفوظ من كل شعوبها.