هذه هي الزيارة الأولى لي إلى دمشق عبر الحدود البريّة جابر – نصيب، بعد سنوات الحرب، لم أنقطع عن دمشق في أخطر وأصعب الأوضاع، حين كانت محاصرة من القتلة في داريا جنوب دمشق، وجوبر شرقي دمشق، وبعض أحيائها مخترقة تحديدا مخيم اليرموك الذي غُدر به، فاجتاحته قطعان داعش والنصرة وأكناف بيت المقدس، ومرتزقة جُمّعوا واستؤجروا ودفع بهم لمباغته المخيم واختراقه بهدف احتلال حي الميدان العريق..ولكن!
لكن الشجعان في مخيم اليرموك ثبتوا وتصدوا للمجموعات المقتحمة المندفعة بجنون..وأوقفوها قبل الوصول إلى مدخل المخيم من الجهة الشمالية، ورغم كل الهجمات ووحشيتها عجزوا عن اختراق المخيم باتجاه الميدان..وقلب دمشق.
مرارا زرت دمشق عن طريق بيروت جوّا، ثم من بيروت برّا، ولم أكتف برفع الصوت والكلمة المنحازة لدمشق من بعيد، وفي مرتين انتقلت من عمّان إلى دمشق بالطائرة السورية مباشرة، وكم كنت سعيدا بهاتين الرحلتين، رغم الخطر من قصف الإرهابيين لمطار دمشق، وقنص المتجهين من المطار إلى العاصمة دمشق بالسيارات.
ها أنا أعود إلى دمشق عبر معبر جابر الأردني..ونصيب السوري، رغم آلام ظهري ومتاعبي الصحية، متأملاً هذا الطريق الذي ياما عبرته بسيارتي المتواضعة – بعتها بعد أن هرمت – مرّات وحدي..وأحيانا مع أسرتي، أو بعض الأصدقاء.
معبر جابر مكتظ بمئات السيارات الأردنية المتجهة إلى دمشق، فالمعبر أغلق قبل أزيد من ثلاث سنوات بعد أن احتله الإرهابيون وعاثوا فسادا فيه، والأردنيون من شتى الأصول والمنابت – مصطلح أردني – اشتاقوا لدمشق..ومعهم حق فهم أهل وجيران وأخوة في بلاد الشام( سورية الكبرى).
رغم زحام السيارات واكتظاظ المسافرين لم أسمع تأففا، أو لوما، أو احتجاجا، فالنظرات كانت تتجه إلى دمشق، وكثير من المسافرين اعتادوا هذا السفر على هذا الطريق، وعبر هذين المعبرين إلى دمشق، والشوق يصبّرهم، وفرحة اللقاء بعد سنوات الفراق القسري تحلّق بهم أعلى من الحدود والحواجز ومشقة السفر.
المعبر السوري – نصيب، بدت عليه آثار التخريب، فالبناء الفسيح الذين كان يستقبل القادمين عبر جابر مدمّر، ورجال الأمن السوريون لجأوا إلى غرف صغيرة تكتظ بهم وبالقادمين، وهم يعملون بهمّة ويرحبون، والسيارات تندفع ناهبة المسافة إلى دمشق على الطريق الذي يعبر سهل حوران.
أخذت في التمتمة بالأغنية:
عالبال بعدك يا سهل حوران
شرشف قصب ومطرّز بنيسان
التي كتبها شاعر شعبي سوري – يؤسفني أنني نسيت اسمه..رحمه الله فقد توفي قبل فترة قصيرة- وغنّاها ابن السويداء الفنان المرحوم فهد بلاّن ابن منطقة حوران.
كنا نوقف السيارة ونتنفس بعمق هواء هذا السهل في الصباح المبكر ونحن نتأمل فلاّحي حوران النشطاء وهم يجمعون محاصيلهم، أو وهم يزرعون محاصيل جديدة، وكانت السهول خضراء خضراء خضراء..وبعضها حاليا ينتظر أن يخضّر من جديد بعد أن نشر الإرهابيون القحط..ووضعوا بنادق في أيدي بعض فلاّحي حوران بدلاً من المحاريث، بعد أن هيمنوا على الحياة واستبدلوا الخصب بالموت والدم والرعب.
توجهت إلى فندق ( الإيوان) في البحصة بعد سفر امتد لخمس ساعات، وكان سابقا لا يأخذ أكثر من ثلاث ساعات، وهناك أطللت من غرفة في الدور الثالث على حركة الحياة في الشارع المتجه إلى بوابة الصالحية، فلم أفاجأ بالاكتظاظ فاطمأننت إلى أن دمشق تستعيد حيوية الحياة وإيقاعها ما قبل الحرب الجهنمية.
جلست في مدخل الفندق وتابعت تأملي لحركة الحياة وصخبها، ثم تمشيت حتى بوابة الصالحية القريبة، وتناولت غدائي في مطعم ( الصحي) الذي اعتدت التردد عليه منذ سنوات.
زيارة مخيم اليرموك في مقدمة اهتماماتي، لذا ألححت على أصدقائي بها..وهكذا رتّب الصديق الإعلامي رافع الساعدي للزيارة، واصطحبني مع صديقي الروائي والقاص الكبير الدكتور حسن حميد في سيارته.
توقفنا قليلا في مدخل المخيم حيث يتفرع إلى شارعي اليرموك وفلسطين.
ببطء كرجت السيارة بنا في شارع اليرموك: واجهات مدمرة، شرفات مهدمة، بيوت مائلة الجدران…
أزيل الركام بفضل متعهدين فلسطينيين ينتمون لليرموك، عملوا بجهد، وما زالوا يعملون بآلاتهم التي تجرف الركام وتنقله بعيدا، وهم يسابقون الوقت علّهم ينجزون تنظيف الأزقة الفرعية بعد أن تمكنوا من فتح الشوارع الرئيسة.
تنقلت وأسرتي على امتداد سنوات عيشي في اليرموك بين عدّة بيوت، آخرها قرب شارع الثلاثين، بجوار ( الخالصة) وهو مجمّع للجبهة الشعبية – القيادة العامة.
مشينا على الأقدام في الأزقة. كنت أهمس لنفسي: هذا بيت صديقي فلان، فأين هو الآن مع أسرته؟ أتراه هاجر إلى السويد أم هولندة..أم تراه في لبنان أو في قرية من قرى الشام سلمت من ويلات الحرب الثقيلة؟
كلما اقتربت من مقبرة الشهداء القديمة التي اكتظت بقبور أحبتنا الراحلين – في اليرموك مقبرتان للشهداء، القديمة، والجديدة – علت دقات قلبي ، فقد سمعت أن المجرمين الإرهابيين قد عاثوا تخريبا بالأضرحة.
حجارة متراكمة، وقبور بلا شواهد، لا أسماء للشهداء، تهديم متعمد يشي بعقلية من اقترفوه، فهم ينتمون للدين السعودي الوهابي الذي يرفض وضع شواهد على القبور تحمل أسماء الراحلين.
مشينا صامتين: أبو أبي، وحسن حميد، وأنا، ودارينا دموعنا وارتجاف أجسادنا…
هنا ضريح ( أبوجهاد) عرفته رغم أن الشاهدة محطمة.
هنا ضريح رفيقي وصديقي طلعت يعقوب..عرفته، فأنا من أبنه هنا بعد أن نقلنا جسده الطاهر من الجزائر إلى تونس إلى دمشق.
ولكنني لم أتمكن من التعرف على أضرحة رفاقي وأصدقائي وأحبائي، فأخذت أجيل النظر على هذا الخراب الذي يغطي حقل الأضرحة.
هنا، في أيام الأعياد، وفي عيد انطلاقة الثورة الفلسطينية، كانت المقبرة تمتلئ بالحياة منذ صلاة الفجر…
هناك في هذا الفضاء كانت تفوح رائحة القهوة بالهيل، وتغطى القبور بأغصان الآس الخضراء الزاهية.
هنا كان الفلسطينيون يدورون بين الأضرحة نساء ورجالا وأطفالاً، وهم يتعانقون، ويترحمون، ويتلون آيات من القرآن…
هنا كنت أرى أمهات، زوجات، ينحنين على أضرحة الأحبة وهن يتمتمن ويهمسن بكلام يسررن به للأحبة…
هنا كان الراحلون الشهداء ينهضون من الموت بما يبثه أهلهم من حياة، فالنسيان لا يمكن أن يطوي ذكرهم، وحضورهم.
لا أسماء على أضرحة الشهداء، فتحت هذا المدى من القبور شهداء فلسطينيون أسماؤهم مغروسة في قلوب أحبائهم، وشعبهم، وفلسطين التي منحوها دمهم وأعمارهم.
هنا يرقد الشهيد الفلسطيني البطل باسم واحد..وبأسماء متعددة.
هنا رأيت من ينحنون على الشظايا ويجمعونها ويكومونها بقرب رؤوس الأضرحة..وما دام الشهداء تتعانق عظامهم تحت هذا المدى على حب فلسطين، فإن شعبهم لن ينسى أسماءهم، وسيعيد كتابتها عند رؤوسهم لتتذكرهم أجيال الفلسطينيين الذين، يوما ما سيحفرون ..وسيجمعون عظامهم ويحملونها إلى فلسطين لتدفن هناك في ثراها الذي أعطوه الدم والشباب والحب والفداء.
حطم الإرهابيون الجهلة شواهد القبور، ودمروا البيوت، ونهبوا ولكن معنى الشهادة خالد، وها هم يكنسون من أرض سورية التي أقيم عليها مخيم اليرموك..وها هو اليرموك يعود رغم أنوفهم وقتلهم وجرائمهم ليكون من جديد العنوان للعودة إلى فلسطين.
وأنا أننقّل نظري بين ( الأطلال) كنت أرى البيوت تعود لتحتضن أهلها الذين بنوها بالعرق والجهد..أهلها الذين جعلوا من مخيم اليرموك ( قوّة) اقتصادية جاذبة..أهلها الذين سيعمرونها من جديد..ومدارسها التي ستكتظ بالأطفال الفلسطينيين النشطاء الأذكياء، وبالأمهات المكافحات اللواتي صُن أسرهن ورعينها .
اليرموك سيعود فلسطينيا مقاوما فاطمئنوا أيها الشهداء، فشعبكم الذي دأب على البناء لا يمكن أن يحطم إرادته الإرهاب، ولا سرقة ما ضمته البيوت من قبل لصوص بلا ضمائر ولا أخلاق ولا قيم..لصوص يتفشى حضورهم القبيح في أزمنة الحرب.