ما كان يمكن اختزال حقوق الإنسان في حقوق أفراد/ مواطنين في الدولة الوطنيّة؛ فالحقوق تلك، في تأصيلها الفلسفي في القرنين السابع عشر والثامن عشر، تشمل حقوق الجماعة السياسيّة أيضاً (الدولة، الأمّة). للمواطن حقوقه داخل دولته، ولكنّ له حقوقاً أشمل، عليها تتوقف حيازتُه لحقوقه الفرديّة، هي حقوق الجماعة السياسيّة، التي ينتمي إليها؛ حقوقها: في الاستقلال، والسيادة، والسلام الخارجيّ. ما من مواطنٍ يتمتّع، في دولته، بحقوقه المدنيّة والسياسيّة إن فقدت دولتُه سيادتَها وقرارَها الوطنيّ، واحتُلَّتْ أراضيها وفُرِضتْ عليها إرادةُ الأجنبيّ. تُسَمَّى تلك حقوقاً على سبيل المجاز؛ لأنّ أساسها، الذي عليه تقوم، مُفتَقَد؛ وهو السيادة: هذه التي لا قيام لدولةٍ وطنية من دون حيازتها الحيازة الكاملة وصوْنها من أيِّ استباحةٍ أو نيْل. بتعبير آخر: ليس من حقوقٍ للمواطن الفرد إن لم تتأمَّن لدولته - أمّته حقوقُها؛ إِذِ الحقوقُ العامّة الجامعة أصلٌ للحقوق الفرديّة ومدماكٌ لها. وليست حقوق الدولة، أو الجماعة السياسيّة، في اصطلاحات اليوم؛ أعني منذ استقرّ الاصطلاح عليها في القرن التاسع عشر، سوى حقوق الشعوب والأمم.
هذا التعريف الشامل لحقوق الإنسان مُسْتَبْدَهٌ في الفكر الفلسفيّ، والسياسي، الحديث ومألوف، ولم ينحرف عنه مفكّر منذ بودان وغروتيوس إلى توكفيل؛ بل إلى لينين، مروراً بجميع فلاسفة القرون 17 و18 و19. غير أنّ المسألة، في سياق التاريخ والسياسة وتجارب الصراعات بين الدول، لم يُطابِق وضْعُها الفعليّ وضْعَها النظريّ في نصوص المفكّرين والفلاسفة؛ فقد بدت تجربةُ الدولة الليبراليّة الغربيّة، وسيرتُها السياسيّة مع معنى حقوق الإنسان، تجذِّف ضد تيار المفهوم ونظرة فلاسفة السياسة إليه، على الرغم من أنّ وجود الدولة الليبراليّة تلك يَدين، ديْناً كبيراً، لكثيرٍ من أفكار هؤلاء، وينهض على العديد من قيم منظوماتهم الفكريّة! لقد انقلبت البرجوازيات الحاكمة في أوروبا، منذ نهايات القرن الثامن، وخاصة، خلال القرن التاسع عشر، على تراثها الثوريّ، الفكريّ والسياسيّ، برمَّته؛ فلم يعد مرشداً لعملها، بل طوّحت به مأخوذةً بفكرة أوّليّة المصالح - بالمعنى الذرائعيّ المبتذَل- على المبادئ.
إنّ البلدان التي وُلدت فكرةُ الحرّية فيها، وفكرةُ السيادة الوطنيّة (منذ استتبّ لها الأمر في «معاهدة ويستفاليا» في العام 1648)، وانتشرت في ثقافاتها الفكرة الإنسانويّة، هي عينُها البلدان التي ستنقَضُّ دولُها على حرّيات شعوبٍ أخرى، من خارج فضائها الحضاريّ، لتحتلَّ أراضيها، وتنهبَ ثرواتها، وتستغلّ شعوبَها، وتسخّر أبناء المستعمرات جيوشاً في حروبها الإمبريالية، وتضطهد حركات المقاومة والتحرّر الوطنيّ فيها، وتُنَكِّل برجالاتها في السجون والمنافي، وتنظِّمَ حروب الإبادة الجماعيّة والمذابح ضدّ التجمعات السكانيّة الحاضنة للمقاومة، وتستكثرَ على شعوب المستعمرات حقَّها في التحرّر الوطنيّ والاستقلال، وتناهضه - في محافل السياسة الدولية ومنابرها- بالوسائل كافة...إلخ! وإذ اقتسمت البلدانُ الاستعماريّة بلدان الجنوب، كالكعكة بينها، قسَّمت البلدان التي احتلّتها إلى أجزاء أقامت على كلّ واحدٍ منها «دولةً» وهي تتأهّب للإمساك بها، أو الخروج منها؛ هكذا اقتسم الإنجليز والفرنسيّون والطليان والإسبان البلاد العربيّة؛ واقتسم الإنجليز والفرنسيون والبلجيك إفريقيا.
والبلدان تلك، التي نبع فيها عصر الأنوار، في القرن الثامن عشر، هي عينُها البلدان التي انفجرت فيها، في القرن التاسع عشر، غرائز العِرق والعنصريّة، وقسّمت فيها «المعرفة» الغربيّة الأممَ والشعوب إلى أعراق «متميّزة» و«متطورة» وأخرى «دونيّة»، وقامت فيها سياساتٌ رسميّة، على هذا المقتضى، تجرِّب في المختبر السياسيّ الواقعيّ - في بلدان المستعمرات- ما جُرِّب في مختبر إرنست رينان والمستشرقين والأنثروپولوجيين الفيلولوجي! وهي البلدان التي تحوّلت فيها العنصريّة، في القرن العشرين، إلى إيديولوجيا سياسيّة، وإلى سياسة رسميّة، في ألمانيا النازيّة، وفي جنوب إفريقيا العنصريّة وفي الكيان «الإسرائيلي»! وهل من حاجة إلى التنفيل للقول إنّ العنصرية أشدّ أشكال الفتك بحقوق الإنسان؛ لأنّها - ببساطة- تسوِّغ لصاحبها إسقاط ماهية الإنسان عن الإنسان، والإزراء بآدميته، وتُغري بهدر أعظم حقٍّ من حقوقه: الحقّ في الحياة. وهل فعلت النازيّة والصهيونيّة غير ذلك ؟ وهل نشأت هذه العنصريّة إلاّ من نزعة التفوُّق العرقيّ والحضاريّ والدينيّ، التي استبدّت بالشعور الجمعيّ في الغرب، نتيجة الازورار عن القيم الإنسانويّة والتنويريّة والتنكُّر السافر لها، وما صَحِبَهُ من كِبْرٍ وطاووسيّة واستعلاء في النظر إلى الإنسان غير الغربيّ؛ بل ومن احتقارٍ له واسترخاصٍ لحقوقه... ودمه ؟
لم يستتبّ، تماماً، المعنى الشامل لحقوق الإنسان في عالم اليوم؛ ليس فقط لأنّ حقوقاً للمواطنين، مدنيّة وسياسيّة، تُنتَهك هنا وهناك، ولكن، أيضاً، لأنّ حقوق شعوبٍ في تقرير المصير والاستقلال - كالشعب الفلسطينيّ- ما زالت مهضومة ومنتَهَكة بإرادة السياسات الغربيّة ومشاركتها، ولأنّ حقوق أمم في استعادة وحدتها القوميّة أو في استكمالها، مثل الأمّة العربية، والكوريّة، والصينية... ما برحت مهضومة حتى اليوم، ولم يتأتّ لها بعد أن تستعيد وحدتها كما استعادتها فيتنام وألمانيا.