فشلت أميركا في إسقاط الدولة السورية، وفشلت في حماية إسرائيل من حزب الله، وانهار التحالف الأميركي أمام القوى الصاعدة وحلف المقاومة، وبدا الكل أمام الصمود السوري يستنجد بالماضي وحدوده، والاعتراف بأن الكل نزل مهزوماً أمام سوريا والمقاومة من أعلي الشجرة تحت لعنة التاريخ السوري ولعنة الجغرافيا في سوريا. وصدق شكسبير حين قال"فإن الأمر ليس إلا ضجّة من لا شيء...".
إذا رجعنا إلى مقولتيّ كيسنجر" لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا" و"لقد قهرني حافظ الأسد" يتّضح لنا المخطّط الذي رُسِم لسوريا، بين أطراف عدّة، ومنها تركيا ودولة قطر وكل منهما يمثل الذيل الأجرب لأميركا.
لكن في مقابل هذا المخطّط، هناك رؤية واضحة منذ البداية لدى سوريا حول ما يجري من أحداث حولها، فإعلان إيران أن لديها أكثر من 100 وثيقة تُدين الولايات المتحدة الأميركية بالإرهاب في المنطقة إشارة واضحة لأميركا بأن إيران ومعها سوريا تعرفان كل ما يجري سراً أو علناً وبالدليل، وبالتالي فلا مجال لإخفاء النوايا مما خُطّط ضد سوريا.
يضاف إلى هذا، تسليح روسيا وإيران لسوريا بصواريخ وأسلحة قادرة على تغطية المنطقة السورية كلها، فضلاً عن الصواريخ الأخرى – بر بحر – والتي جرّبتها سوريا في بداية الأزمة أمام أنظار إسرائيل وأميركا.
في سياق هذا الصراع، المفروض من 80 دولة ضد سوريا وعلى رقعة جغرافية مثلّت الصمود عبر القرون كان الواضح منذ البداية أن تخسر فيه جميع الأطراف المتآمرة، لأن لا أحد يريد حرباً شاملة في المنطقة، لأن نتائجها ستكون بالأساس كارثيّة على إسرائيل والمصالح الأميركية، وأكيد بدأت الآن كل الزُمَر بالتراجع تحت صمود سوريا وجيشها ومعهما المقاومة، بل إن تلك الأطراف تبحث الآن عن نافذة تخرج منها من دون خسارة أكثر خاصة وأن الشرق السوري (درعا) قد تم تنظيفه من المسلحين بجميع أصنافهم.
سوريا هي الآن في الموقف المتقدّم والأفضل، أكيد أن هناك تصريحات أميركية أخرى مرت من دون أن ينتبه إليها البعض مع بداية الأزمة "الربيع العربي المزكوم"، تصريح للرئيس أوباما جاء فيه "إن قناة الجزيرة هي العين العربية للعالم العربي" وتصريح آخر بعده بنصف شهر تقريباً لوزيرة الخارجية الأميركية "هيرالي كلينتون" تقول فيه " الجزيرة أحسن القنوات الإعلامية".
وأما ما ذكر عن الجزيرة من مدح، إن من "أوباما"، أو من "كلينتون"، فقد كان واجهة لما تم الاتفاق عليه بين قطر والولايات المتحدة الأميركية من تحويلها (القناة) لاحقاً إلى منبر لحرب إعلامية قذرة ضد ليبيا بداية وضد سوريا لاحقاً. وقيل إن الجزيرة ذكرت في نفس الغرض والهدف، إن النزعة الأميركية، هي نزعة استقطابية منذ أمد، وتحاول من ورائها البقاء ضمن القطب الواحد رغم ظهور ما يناقض ذلك.
من هنا فإن محاولات توظيف أطراف عربية وتركية من أجل الإطاحة بالرئيس بشّار الأسد، تبدو نوعاً من السخرية من المنظور الإستراتيجي لأطراف أخرى في المنطقة، وأهمها إيران وروسيا. لقد حاول "أوباما"، ألا يكون مثل سلفه "جورج بوش الإبن" كما ادّعى لأن نظرية الاستقطاب (بالرانجاس)، فشلت، في العراق وأفغانستان كما فشلت محاولات دفع إسرائيل إلى الواجهة كقوة لا تقاوَم بسقوطها في لبنان، بعد أن خسرت حرب 2006 على يد حزب الله المدعوم من سوريا وقتها وسقطت معها نظرية الردع الإسرائيلي في المنطقة.
لقد دخلت الصواريخ في ميزان القوى كبُعد استراتيجي في المنطقة والبُعد الاستراتيجي اليوم متعلّق بالسلاح الصاروخي. أكثر من أي عامل آخر. لقد اعتمد أوباما خطة مُغايرة لخطة سلفه، حيث جاءت عمليات القتل المُقنّن للعُلماء الإيرانيين، فضلاً عن الدعم السياسي والمادي للمنظمات المدنية تحت غطاء المساعدات كبديل إلى جانب ما عُرِف بالثورات الملّونة، فضلاً عن التوظيف الآخر لدول في المنطقة كعامل هدم لما لم تستطع عليه أميركا وقد أدخلت تركيا، والسعودية، والأردن، وقطر، في الدائرة المفتوحة ضد سوريا، وبالتالي ضد إيران، ومن خلف الأبواب على روسيا والصين، والمعروف أن تركيا رغم تظاهرها بالعداء لإسرائيل ظلّت على خط المواجهة، والواجهة المفتوحة ضد المنطقة كأداة تفعيل سياسي أميركي، لعلّها تلعب دوراً ريادياً في المستقبل كقوّة إقليمية في إطار المرجعية السياسية للولايات المتحدة الأميركية ومخطّطها الاستدماري.
هذا واضح ومسجّل، ففي كتاب أحمد داود أوغلو (العمق الإستراتيجي) "فقرة تؤكّد ذلك هي" إن تركيا "يجب أن تلعب دوراً بما لا يتناقض مع الدور الأميركي والدور الغربي في المنطقة". بهذا المنطق، التفتيتي ينظر "داود أوغلو" إلى مستقبل المنطقة ككل، وهو في الواقع ينظر من جديد للنورانية الجديدة ببُعدها الإسرائيلي.
هذا التوجّه حسبت له روسيا ألف حساب، فكان أن ردّت على القرار الأوروبي الأميركي ضد سوريا من مجلس الأمن بالفيتو، في حين ردّت إيران وقتها وبلهجةٍ عسكرية غير معهودة في سياستها ضد تركيا، بقولها "أنها ستضرب الدرع الصاروخية في تركيا". وهو ما يوضح جلياً على أنها لن تتخلّى عن سوريا في أية لحظة حرجة.
ودخول إيران على خط المواجهة لم يأت من فراغ استخباراتي بل جاء نتيجة قراءات إستراتيجية، كما أشارت إليه وثائق حسّاسة تملكها إيران وموثّقة، فلدى إيران الآن تقارير استخباراتية موثوقة تؤكد أن محاولة إسقاط نظام الأسد لن تقف عند حدود تقسيم سوريا". وبحسب هذه التقارير فبعد سقوط سوريا تستمر العملية:
أولاً ضرب إيران بهدف تقسيمها وإقامة ما يُسمّى دولة البلوشستان الكبرى.
وثانياً ضرب الشرق الأوسط والاستحواذ الأميركي الغربي على دول الشرق الأقصى.
أكيد اليوم القطبية الواحدة سارت وراءنا بداية من الفيتو المزدوج (الصيني الروسي) وإن الفزاعات التي يطلقها "دولاند ترامب" بالعداء لروسيا وإيران إلى الحرب التجارية الأشد خطراً على الاقتصاد العالمي كما تقول الصين، هي مجرّد فزاعات متآكلة، بل وحتى ما يفتخر به كما يغرّد أنه حقّقه ضد كوريا الشمالية، وأخضع كيم جونغ أون لشروطه ما هي في واقع الحال إلا تمنيات مصبوبة في النهاية في كومة من الخيال، وبين ما هو في بطن الماضي وعلى كفّ المستقبل، ضرورةٌ تفرض نفسها كما يقول أحدهم.
فالرئيس كيم جونغ أون ليس دمية يلعب بها ترامب، وليس سياسي فاشل مثله ولا هو من دون حسابات تحضّر للمستقبل وليس للماضي، بل وأجزم هنا بالقول أنه لن تمسح بلاده من السلاح النووي بل المؤكّد زيادته وبفاعلية أكثر، لأسباب إستراتيجية ضد دولة معادية للعالم كله. ولا عهد لها بالمواثيق الدولية، فإذا كانت إيران قد مسحت يديها من سياسة أميركا ومن ترامب نفسه بعد نقض الاتفاق النووي، فإن كوريا الشمالية لا ترى في ذلك إلا الأسوأ في السياسة الأميركية.
وفي ما يحضّر لها، بل التواطؤ الأميركي المتواصل مع الكذب وسوء الالتزام بالمواثيق التي توافق عليها وتمضيها. فما بالك بتفكير ترامب المتهوّر والمشحون بالنزعة العسكرية حيث فكّر في غزو فنزويلا، وهي مغامرة ربما كانت تقضي على سياسة أميركا في أميركا الجنوبية. أما تفكيره في محاصرة إيران واتهامه للحرس الثوري الإيراني مع أنه منظمة عسكرية رسمية لدولة إيران فإنه إن لم يكن مغامرة غير محسوبة العواقب فإنه رجع صدى لأوهام تخصّه وحده. إن إيران قادرة اليوم على توجيه ضربة موجعة لأميركا ووكلائها في المنطقة، وهو طرح ذهب إليه الناتو قبل ثلاث سنوات.
إذن فشلت أميركا في إسقاط الدولة السورية، وفشلت في حماية إسرائيل من حزب الله، وانهار التحالف الأميركي أمام القوى الصاعدة وحلف المقاومة، وبدا الكل أمام الصمود السوري يستنجد بالماضي وحدوده، والاعتراف بأن الكل نزل مهزوماً أمام سوريا والمقاومة من أعلي الشجرة تحت لعنة التاريخ السوري ولعنة الجغرافيا في سوريا. وصدق شكسبير حين قال"فإن الأمر ليس إلا ضجّة من لا شيء...".