يرتبط المشهد الأردني الراهن وآفاقه ارتباطا شديدا بالصراع العربي الصهيوني ورؤية العدو له، فمع غياب شروط الصعود الإقليمي الكلاسيكية في حالة العدو الصهيوني (المساحة، عدد السكان، الموارد الطبيعية، المجالات الحيوية الإثنية المنفتحة) ومع صعود قوى إقليمية جديدة: إيران (علاقة تناقض تناحري مع تل أبيب)، وتركيا (علاقة وحدة وتنافس: وحدة من زاوية مشاركتهما في الأطلسي الجنوبي والعلاقات الديبلوماسية والأمنية والإقتصادية والأصول الخزرية الطورانية لغالبية يهود فلسطين، وعلاقة تنافس على خدمة الإمبريالية من جهة أخرى).
في ضوء ذلك، راح العدو يسعى إلى تجديد دوره الإقليمي على حساب الأطراف العربية، وذلك بتحويل مئوية سايكس بيكو ووعد بلفور إلى محطة لمزيد من تمزيق الحواضر العربية الأساسية (القاهرة، بغداد، دمشق) واستبدال الدول المستهدفة بأشكال من الكانتونات والدساتير الطائفية والجهوية (مهندسها اليهودي الأمريكي، نوح فيلدمان الذي وضع دستور العراق بعد الإحتلال وعرف بدستور بريمر، واقترح على المعارضة السورية) دستورا مماثلا.
ولم يكن بلا معنى حجم التكالب والتكامل خلال ما يسمى بالربيع العربي بين كل قوى الثورة المضادة وأقلام الإستخبارات الأمريكية والعثمانية والأطلسية والصهيونية التي تديرها، فمن تلاميذ سوروس وجين شارب وأكرمان إلى تلاميذ الأتبور وشباب القبضة، إلى رجال البنك وشباب القبضة، إلى رجال البنك الدولي، إلى جماعات الجهاد الأمريكي والإسلام على طريقة الغنوشي والقرضاوي.
وقد تولى مؤتمر هرتسليا، منذ تأسيسه مع مطلع الألفية الحالية، ومعه مؤتمر دافوس هذه المهمة بإعداد السيناريوهات المتتالية واختبارها والإنطلاق من الدائرة الأردنية الفلسطينية، واتفاقية أوسلو ومعاهدة وادي عربة والتأسيس عليهما لإطلاق منظوراته الإستراتيجية التالية:
1- الإنطلاق من مشروع يهودية الدولة المستمد من الفكرة اليهودية العنصرية، التي ترى أن الأرض والخلق برمته غوييم (أغيار بمستوى الحيوانات) خلقوا لخدمة اليهود، شعب الله المختار، وهي فكرة تشبه فكرة الكفار والفرقة الناجية عند الوهابية، وبالتالي فإن فكرة الوطن والدولة والأرض من حق اليهود وحدهم.
2- صناعة مجال حيوي من قوسين: الأول بين البحر والصحراء، يشمل فلسطين المحتلة كاملة والأردن والتعامل معه كأرض إسرائيلية يعيش عليها عرب يحتاجون لإدارة شؤونهم بوصفهم سكانا لا مواطنين، في إطار جغرافيا لا دولة.
أما القوس الثاني، فهو عامودي يمتد من الساحل الشرقي للبحر الأحمر إلى حوض اليرموك ويعبر عنه مشروع نيوم وقناة البحرين ووادي السلام.
3- تصفية قضية فلسطين واللاجئين خارج فلسطين وخاصة في الأردن، لا في إطار شكل من التوطين السياسي والوطن البديل بل عبر التوطين السكاني.
4- الإنخفاض بالدولة الأردنية إلى مستوى السلطة الفلسطينية (إدارة حكم ذاتي) وإقامة كونفدرالية بينهما بعد مسرحية قيد الإعداد باسم الدولة الفلسطينية.
5- تحضير المجال الحيوي المذكور لهذه المرحلة عبر السيناريوهات المتداولة من مشروع البينلوكس الثلاثي (مركز صهيوني ومحيط أردني فلسطيني، يشبه بانتوستان بتسوانا أيام جنوب أفريقيا العنصرية) إلى مشروع صفقة القرن وهو ليس مجرد اتفاقية أو معاهدة على غرار أوسلو ووادي عربة بل مسار وبنية ومآلات تحت عنوان (شرق بلا دول) حيث تجري عملية تفكيك دولة سايكس بيكو العربية القديمة وفق بلفور الجديد إلى كانتونات كوزومبوليتية على امتداد القوسين المذكورين.
وتبدو المدن المذكورة كبدائل وثقوب سوداء لابتلاع الدول وإلحاقها بها.
6- إلى جانب سيناريو المدن ونموذجها نيوم الكبرى، فإن أشكالا من الشركات على غرار شركة الهند الشرقية في طريقها إلى احتلال مكانة الدول والمناطق العربية المستهدفة إلى جانب إزاحتها التدريجية للجيوش، وذلك باسم شركات الخدمات الامنية، على غرار عصابة البلاك ووتر بعد إعادة هيكلتها وترخيصها باسم جديد.
ويشار هنا إلى أن الشركات الجديدة تتركز منذ سنوات في المنافسة المحتدمة على الموانيء الحيوية وتفسر العديد من سيناريوهات العدوان الخارجي على اليمن وسوريا وليبيا وما تمتلكه من موانيء استراتيجية، مثل عدن والحديدة وطرطوس واللاذقية ومدن السويس، وذلك عبر استئجار أو شراء أو سيطرة على الموانيء والأرصفة الحيوية وخاصة في منطقة البحر الأحمر وكذلك ميناء العقبة الأردني.
كما يشار كذلك إلى أن واحدا من الأسباب الهامة للعدوان على سوريا، هو إغلاق حدودها الجنوبية من أجل ربط حرب الموانيء في البحر الأحمر بميناء حيفا.
آفاق المشهد الأردني في الاستحقاقات الصهيونية
لم يكن للإستحقاقات الصهيونية، أن تترك كل هذا التأثير لولا البيئة الأردنية الحاضنة لها، وتركيبتها الإقتصادية، الإجتماعية المشوهة منذ تأسيس الإمارة وحتى اليوم، ومن استراتيجية التخادم السياسي، التي قامت على تهميش الخيارات الإنتاجية لصالح تحالف من البيروقراط – الكمبرادور، وسمحت لاحقا للصندقة، أن تضع يدها على قرارات الأردن الإقتصادية ونهب موارده الكبرى، مثل البوتاس، والفوسفات والإتصالات باسم الخصخصة.
بل أن التسهيلات التي أتيحت للمغتربين الأردنيين في الخليج كانت أقرب إلى الجائزة السياسية ولتوفير بيئة للتوطين السكاني.
كما شجع التخادم السياسي على تغذية الفساد ونهب أراضي الدولة واختراع مؤسسات وموازنات موازية انتهت إلى ما انتهت إليه من أزمة مزمنة ومديونية كبيرة وهو ما تقاطع عبر عقود مع استراتيجية ممنهجة لإضعاف الحياة الحزبية والمدنية واستبدالها بصالونات سياسية وفق مقتضى الحال والمطلوب للمرحلة التالية، والحط من شأن الثقافة والعقل النقدي، وأدى إلى هشاشة المجتمعين، السياسي (الدولة) والمدني (الأحزاب والنقابات .. الخ)
في ضوء ما سبق، وعلى إيقاع الإستحقاقات الصهيونية فإن ما يراد للأردن في هذه الإستحقاقات، هو استبدال الشكل الوظيفي السابق بشكل جديد من القوى في المطبخ المتنفذ والمحمولة ببنى اجتماعية اقتصادية جديدة ودستور وبرلمان وفق المذكرة الأمريكية المقدمة للأردن عام 2006 والمعروفة بمذكرة ال 22 نقطة، والتي ترافقت مع ما يعرف ببرنامج التصحيح الإقتصادي.
ومؤداها جميعا إطلاق آليات التفكيك وإعادة هيكلة الدولة بصورة ناعمة عبر التخاصية ورجال البنك وصندوق النقد الدوليين، حيث جرى تفكيك دول أخرى عبر عصابات داعش وجبهة النصرة وأمثالهما من إسلام المخابرات الأمريكية و ال MI6 البريطانية.
ومن تبديات ومآلات تفكيك الدولة وتفتيت المجتمع في الأردن ما يظهر في الإستبدالات التالية:
1- استبدال دولة البافر ستيت العامودية العازلة بكونفدرالية أفقية واصلة بين الضفتين، وذلك من خلال سيناريو متدرج يبدأ بمشروع اللامركزية والأقاليم ثم البرلمانات والحكومات المحلية، وثانيا من خلال مشاريع إقليمية مثل قناة البحرين ووادي السلام ومشروع السكك الحديدية الذي ينتهي في ميناء حيفا، ومثل صندوق الإستثمار الإقليمي.
2- استبدال الشكل الريعي للدولة الأردنية (الإنفاق الحكومي الذي تغذيه المساعدات الخارجية لغايات التخادم السياسي) بشكل من الدولة الجابية عبر الضرائب والحكومة الإلكترونية كداتا في خدمة شركات النهب والتحصيل.
ويشار هنا إلى أنه قد لا تكتفي السياسات الجديدة بتصفية القاعدة الإجتماعية للدولة وتحويلها من متلقي للخدمات إلى وسيلة للإنفاق على الحكومة بل قد تفكر بالتخلص مما تعتبره عبئا تقاعديا عبر خطوة مثل تحرير سعر الدينار للحط من قدرته الشرائية.
3- استبدال الشكل السابق للدولة بطبعة كوميدية من سنغافورة كما أسسها لي كوان يو، فمن المعروف أن الرأسمالية البريطانية بعد انتهاء استعمارها لهونغ كونغ الصينية، ركزت على ظاهرتين في دبي وسنغافورة، وكلاهما ميناءان حيويان للتجارة والبيوتات المالية العالمية.
فتحولت سنغافورة من (دولة ميناء) صغير، لسكان من الملايو، إلى دولة (ميناء) للبنوك والكومبرادور وقطاع تجاري نشط تديره جاليات صينية، سرعان ما استولت على السلطة بدعم لندن ورجال البنك الدولي بعد تعديلات دستورية وبرلمانية واستبدال للجيش السابق بشركات أمنية وافدة على غرار بلاك ووتر.
4- ربطا بذلك استبدال البيروقراط السابق بأنماط من الأوريجاركية (الطغمة المالية).
المشهد الراهن والحكومة الحالية
إذا كانت الحكومات السابقة قد خدمت مشاريع وإملاءات البنك الدولي، فإن الحكومة الأخيرة هي الأكثر تعبيرا عن التحالف الأوليجاركي والأكثر تقاطعا مع التحضيرات المتسارعة لشرق المدن الكوزمبوليتية.
ويضم التحالف البنوك والصناديق التالية:
1- البنك الأهلي، الذي مثل حضورا مبكرا لأحد اللاعبين الجدد في المشهد القادم لشرق الشركات والبنوك، ونجح في التقاطع مع أوساط بيروقراطية نافذة، وصار عند اللاعبين الكبار مرشحا قويا للتحدث باسم هذه الأوساط المتآكلة وأخذ دورها.
2- البنك العربي، الذي تمثل بنيته العامة وليس إدارته تمثيلا معروفا للشرائح العليا من البرجوازية الفلسطينية كما نجح أيضا في التقاطع مع أوساط البيروقراط الفلسطيني في (م.ت.ف) وقد يأخذ في المستقبل دور هذه الأوساط كما البنك الأهلي بالنسبة للبيروقراط الأردني.
3- البنك الدولي، الراعي الأعظم لمجمل البنوك وسياسات التخاصية والتطبيع والتجويع ودمج العالم الثالث في النظام الرأسمالي العالمي من موقع التبعية فضلا عن دوره في تحضير الشرق الأوسط لصفقة القرن وتصفية القضية الفلسطينية وبوسع المهتمين الرجوع إلى كتاب القاتل الإقتصادي من ترجمة د. بسام أبو غزالة.
4- صندوق الإستثمار الإقليمي، الذي يعد أبو الصناديق وسبق لشمعون بيريز الذي اقترحه أصلا أن سماه بالجيل الثاني من الصندوق اليهودي.
وتتراوح وظيفة هذا الصندوق بين رسم السياسات العامة عبر هيئات مباشرة تابعة وغير مباشرة، مثل نيد وراند وغيرهما، وبين الإشراف على مشاريع البنية الإقليمية بمشروع مثل مشروع البينلوكس الثلاثي وصفقة القرن.
وفيما يخص الحكومة الحالية أيضا، فهي شكل من أشكال التفكيك الناعم مقارنة بالتفكيك السافر للحكومات السابقة إضافة إلى أن هذه الحكومة تحاول أن تقدم نفسها عبر خطاب جديد ظهر في تصريحات مبكرة للتحالف المدني والرزاز نفسه ومروان المعشر، وفي حرب سابقة حول المناهج بين الرجعية من جهة وبين الليبرالية العدمية من جهة أخرى والتي تدار عبر مؤسسة راند الأمريكية التي تتخذ من الدوحة مقرا إقليميا لها.
وكان من أبرز مفردات هذا الخطاب، الثرثرة حول الليبرالية والعقد الإجتماعي، التي تذكّر بمفردات ما يعرف بربيع الفوضى الأمريكية حول والحرية والمواطنة .. الخ، وذلك وفق قياس صوري فاسد خارج السياق الموضوعي للمفاهيم، فضلا عن أنها تنتمي إلى قاموس الثورة الصناعية البرجوازية سواء في لحظة صعودها التاريخي، أو في تعبيراتها السياسية ممثلة بدولة العقد الإجتماعي القومي وهويتها وخطابها الذي كان تقدميا آنذاك في مواجهة الإقطاع، فيما هي اليوم وقاموسها تعبير عن الليبرالية المتوحشة وتحويل الأردن من وطن إلى جغرافيا والمواطنين إلى سكان، ولا معنى للحرية والمواطنة والعقد الإجتماعي خارج مشروع التحرر الوطني و القومي.
البنوك والجغرافيا السياسية واحتمالات الانفجار الشعبي
ابتداء، فإن العلاقة بين البنوك والجغرافيا السياسية الأردنية ما ولدته من احتجاجات شعبية، علاقة وثيقة تمتد إلى الماضي وتؤشر على المستقبل.
فمن تحريض لورنس ضد سكة حديد الحجاز والبنوك الألمانية التركية التي مولتها، وهددت مصالح قبائل عديدة كانت تعيش على مصادر الحج وطريق الجمال، إلى الحرب العراقية الإيرانية التي أحيت طرق ومناطق الحج السابقة، وأدخلت الشاحنات مكانها وسمحت لبنك الإسكان بوضع يده على أراض وعقارات كثيرين رهنوها لشراء الشاحنات، فما أن توقفت الحرب فجأة واصطدم الناس مع البنك اندلعت انتفاضة نيسان 1989 من سائقي وأصحاب الشاحنات قبل أن تشمل الأردن كله.
وقد توالت الصدامات الشعبية مع نمط آخر من البنوك مثل البنك الدولي، الذي قاد رجاله الخصخصة فاصطدم مع الناس أكثر من مرة آخرها في 30 أيار 2018.
هكذا، إذا كان الشارع قد امتلك أكثر من تجربة ضد البنوك وحكوماتها، فكيف إذا اجتمعت عليه كل هذه البنوك وأجندتها السياسية واستحقاقاتها الإقليمية، وكيف إذا ارتبطت هذه المرة بسكة أخرى وبطريق آخر غير طريق الحج – الجمال وسكة حديد الحجاز وشبكة الطرق المرتبطة بالحرب العراقية الإيرانية.
فسكة حديد حيفا التي تشمل نيوم الكبرى والبحر الأحمر والأردن هي التي تعيد رسم الجغرافيا السياسية وبنوكها وسياساتها هذه المرة.