خطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما في 5 آب/أغسطس 2015 من أهم خطاباته إن لم يكن الأكثر أهمية لما كشف من خلاله من مواقف لا يمكن وصفها إلاّ بالجديدة في سلوك الرؤساء الأميركيين بل في سلوك السياسيين الأميركيين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ألا المواجهة الصريحة مع حكومة الكيان الصهيوني.
في البداية لا بد من التنويه بأن المكان والتوقيت لذلك الخطاب لهما دلالات كبيرة في التاريخ وفي الوعي الأميركي. اختار الرئيس الأميركي المكان لإلقاء خطابه الجامعة الأميركية في واشنطن وذلك استذكارا لخطاب الرئيس الأميركي الراحل جون كندي الذي ألقى عام 1963 خطابا مفصليا حول ضرورة التفاوض مع الاتحاد السوفيتي وضرورة توقيع اتفاق الحد من السلاح الصاروخي العابر للقارات. والمقاربة في محلّها لأن الذهنية القائمة آنذاك في الكونغرس الأميركي تجاه الاتحاد السوفيتي تشابه الذهنية الحالية في الكونغرس تجاه الجمهورية الاسلامية في إيران. التشنّج هو السمة الرئيسية والجهل هو الدافع لذلك التشنّج. أراد أوباما أن يواجه الذهنية القائمة في الكونغرس تجاه الجمهورية الإسلامية عبر التأكيد على أن الاتفاق الذي حصل بين الجمهورية الإسلامية ومجموعة 5 زائد 1 هو لمصلحة الولايات المتحدة أولا وأخيرا وأن البديل عن ذلك هو الحرب. ويعتبر العديد من المحلّلين الأميركيين المؤيدّين للاتفاق رغم ما يعتبرونه من ثغرات فيه أن الحرب التي قد تقع في حال رفض الكونغرس الأميركي الاتفاق قد تكون شاملة في منطقة شرق الأوسط وقد تكون نووية، أي حرب عالمية ثالثة. يكفي التلويح بحرب جديدة في منطقة شرق الأوسط عند الرأي العام الأميركي لإسقاط أي مشروع سياسي قد يؤدّي أو يدعو إلى الحرب.
هنا تأتي الدلالة الثانية العائدة لتوقيت الخطاب. لقد ألقي الخطاب عشية "احتفالات" إلقاء القنبلتين النوويتين على كل من هيروشيما ونغاساكي في اليابان في آب 1945. خاطب الرئيس الأميركي الشعب الأميركي مباشرة لربط ذكرى مشؤومة باحتمال أكثر شؤما فيما لو أجهض الاتفاق مع الجمهورية الإسلامية. ليس من السهل إشهار خطر الحرب ولكن القدوم على ذلك يعني مدى خطورة الموقف. المسؤولون في الإدارة في دردشات مع العديد من المحلّلين يقولون إن إجهاض الاتفاق سيعفي الجمهورية الإسلامية من التزاماتها ويزيد من القناعة أنه لا يمكن الوثوق بالولايات المتحدة. من ناحية تاريخي، هذا صحيح. فسجلّ الولايات المتحدة داخليا وخارجية هو التخلّي عن التزاماتها التي حدّدت في الاتفاقات عندما تصبح موازين القوة لمصلحتها فتنقضها دون الالتفات إلى النتائج الكارثية على من تطاله من شعوب. هكذا حصل مع السكّان الأصليين للقارة الأميركية الشمالية. وقد حصل الأمر مجدّدا ليس فيما يتعلّق بالاتفاقات مع حلفائها بل من تحالفات. فكلفة مجابهة الولايات المتحدة في آخر المطاف أقلّ بكثير عن كلفة مهادنتها أو التحالف معها.
عدم الوثوق بالولايات المتحدة سيؤدّي وفقا للمراقبين إلى سباق في التسلّح وخاصة التسلّح النووي في دول المنطقة بما فيها إيران. هذا يعني أن عاجلا قبل آجلا سيتمّ الصدام النووي بين الكيان الصهيوني من جهة والجمهورية الإسلامية. هذا يعني إمطار الكيان الصهيوني بأسلحة دمار شامل مما يستوجب تدخّل الولايات المتحدة والذي يستوجب تدخّل كل من روسيا والصين. أما النتائج فستكون كارثية على الجميع! نذكّر هنا أن كل من روسيا والصين ساهمتا في تقريب وجهات النظر بين الجمهورية الإسلامية ومجموعة 5+1 وبالتالي تعتبران انهما من عرّابين الاتفاق وأن نقضه في الكونغرس الأميركي هو تهجّم عليهما.
خلافا لما يردّده المعارضون للاتفاق داخل الكونغرس الأميركي وخارجه أي حكومة الكيان فإن البديل عن ذلك الاتفاق ليس اتفاقا آخرا "أحسن من الاتفاق الحالي"! ما يقوله هؤلاء هو أن "الاتفاق الأحسن" يضمن، عبر فرض القيود المجحفة، تقويض إمكانية الجمهورية الإسلامية في التقدّم في البحث النووي، أي بمعنى آخر إخضاع نهائي للجمهورية الإسلامية في البحث النووي إلى مشيئة الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، وهذا ما بات مستحيلا من خلال المفاوضات.
حاول أوباما عبر خطابه تعبئة الرأي العام الأميركي للضغط على الكونغرس. المطلوب تأمين على الأقل ثلث الكونغرس، أي في مجلس النواب وفي مجلس الشيوخ، لرفض تجاوز حق النقض الذي سيمارسه حتما الرئيس الأميركي في حال تمّ التصويت على رفض الاتفاق. حتى هذه الساعة ما زالت الآراء متردّدة داخل الكونغرس حول تجاوز نقض قرار الرئيس. هناك تحليل يقول إن الكونغرس سيرفض الاتفاق وذلك تسديدا لفواتير اللوبي الصهيوني ولكنه لن يستطيع أن يجاهر بتحدّي الرئيس الأميركي. شدّد الرئيس الأميركي على نقطة في غاية الأهمية وهي أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي تقف ضد الاتفاق بينما دول مؤيّدة لإسرائيل كفرنسا وبريطانيا وألمانيا تدعم الاتفاق. فالمصلحة الأميركية والمصلحة العالمية هي دعم الاتفاق وليس العكس كما يزعم المعارضون له في الكونغرس. أليس المصلحة الأميركية فوق أي اعتبار في الكونغرس؟
وهنا النقطة الأساسية في خطاب الرئيس الأميركي وفي الدردشة التي تلته مع مجموعة من الصحفيين في البيت الأبيض. لأول مرة نرى رئيسا أميركيا في سدّة الرئاسة وليس خارجها يشير إلى "مجموعات" تحاول التأثير على الكونغرس. لفتة الرئيس الأميركي إلى أعضاء الكونغرس لعدم التأثّر ب "الحسابات السياسية" كانت إشارة واضحة إلى دور اللوبي الصهيوني في الكونغرس. ومن الواضح أنه يخاطب الأعضاء الديمقراطيين الذين يتعرّضون لضغوطات كبيرة من قبل الأيباك. بالمناسبة نظّمت الأيباك رحلة هذا الشهر لثمانية وخمسين عضوا من النوّاب الجدد (22 من الديمقراطيين و36 من الجمهوريين) للكيان الصهيوني للتعرّف على "الديمقراطية الوحيدة" في المنطقة!
هناك العديد من المحلّلين الأميركيين، من جمهوريين وديمقراطيين، أصبحوا يقولون علنا أن الكونغرس أرض محتلة من قبل الكيان الصهيوني. نذكّر هنا بالكتاب المفصلي للأستاذين الأميركيين المرموقين ستيفن والت وجون ميرشهايمر حول دور اللوبي الصهيوني. كما المرشحّ السابق الجمهوري للرئاسة بات بيوكانان هو الذي أطلق العبارة أن الكونغرس أرض محتلة من قبل الكيان الصهيوني. المواقف الإلكترونية اليهودية الأميركية كموقع "موندوويس" المشهور تندّد بالتدخّل الصهيوني في الشؤون الداخلية الأميركية. رئيس حكومة الكيان نتنياهو تدخّل مباشرة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة لمصلحة المرشح ميت رومني ضد الرئيس أوباما كما أنها تجاوز الرئيس في مخاطبة الكونغرس مباشرة. ويهزأ فيليب ويس على موقعه أن نتنياهو يحمل الجنسية الأميركية ويستطيع أن يترشح للرئاسة الأميركية. فكل شيء أصبح مستباحا في السياسة الأميركية! إلاّ أن تراكم التدخّل السافر لحكومة الكيان بدأ يزعج أنصار الكيان وخاصة اليهود الأميركيين الذين يعتبرون تلك السياسة لا تهدّد فقط الكيان بل أيضا مستقبل الجالية اليهودية في الولايات المتحدة. أصبحنا نرى تكاثر التساؤلات حول الولاء الفعلي لأعضاء الكونغرس إن كان للولايات المتحدة أو للكيان الصهيوني، وهذا ما لم نكن نشهده في السابق. خطاب الرئيس الأميركي يعطي زخما لذلك التساؤل مما يزيد الضغط على الأعضاء.
في هذا السياق أصيب الرئيس الأميركي بنكسة نسبية وهي إعلان حليفه السياسي داخل مجلس الشيوخ شيخ ولاية نيويورك شارك (شاك) شومر، حيث الثقل التصويتي اليهودي، تأييده لرفض الاتفاق. ويتعرض الشيخ الأميركي لحملة انتقادات من قبل أصوات يهودية التي تعتبر أن الاتفاق هو لمصلحة الولايات المتحدة. المظاهرات ضد قراره خارج مكتبه في نيويورك مستمرة. بالمناسبة، أظهرت استطلاعات للرأي العام، وفقا لموقع "موندوويس" أن أكثرية الأميركية تؤيد الاتفاق بنسبة 54 بالمائة بينما يعترض عليه 43 بالمائة. لكن بالمقابل أظهرت استطلاعات صحيفة "وال ستريت جورنال" أن ثلث الأميركيين يؤيد الاتفاق، ثلث آخر يرفضه، بينما ثلثي الأميركيين لا رأي لهم! (رغم كل الكلام حول الموضوع في الصحف والتلفزيون؟!).
صحيفة "الوال ستريت جورنال" يملكها روبرت مردوخ ذو الميول الصهيونية الواضحة. من ضمن الكتّاب في تلك الصحيفة بريت ستيفن الذي يعتبر نفسه من المحافظين الجدد. في مقال له في الصحيفة يحرّض على قصف إيران بالقنبلة النووية وذلك أيضا عشية ذكرى هيروشيما ونغاساكي. كذلك الأمر للصحفي جورج جوناس في صحيفة "الناشيونال بوسط" الذي أيضا حرّض على القصف النووي لإيران. ولا ننسى الملياردير صاحب الكازينوهات والفنادق في لاس فيغاس شالدون ادلسون الذي دعى صراحة إلى ضرب إيران نوويا. بالمناسبة، ادلسون، صديق حميم ومموّل حملات نتنياهو، وهو أيضا ممول البؤر الاستيطانية في فلسطين المحتلة.
لكن الرياح لا تجري كما تشتهيه السفن الصهيونية! فغاري سامور أحد أبرز رؤساء اللوبيات المناهضة للاتفاق استقال من منصبه معلنا تأييده للاتفاق! هذا ما جاء في بيان صادر عن أحد هذه اللوبيات "متحدّون ضدّ إيران نووية" نقله الصحفي جيزون ديتز على الموقع المعروف "اتي وار" المناهض للحرب. وعلى ما يبدو وفقا لذلك الخبر والتحليل أن هناك قناعة متنامية أن الاتفاق سيمر وبالتالي أصبحت الأموال لمناهضة الاتفاق تشحّ! ... وللحديث صلة!