بقلم: ترجمة : صالح النعامي
استعرض مقالات الكاتب | تعرف على الكاتب 24-04-2017 - 1789 مقدمة
عبثاً حاولت والدته اقناعه بالعودة للدارسة في المدرسة القريبة من منزل العائلة. فقد أصر الطفل على مواصلة الدراسة في مدرسته تقع في أحد مخيمات اللاجئين وسط قطاع غزة، و تبعد كيلومترين عن البيت الذي يقع في اقصى الشرق. فبالنسبة لهذا الطفل، فأنه يفضل تكبد عناء ومشقة المشي، وحتى الضياع في الشارع، على أن يبقى في المدرسة التي عيره بعض طلابها بأنه ابن "عميل" قتل على أيدي عناصر احدى الفصائل خلال الانتفاضة الأولى. هذا المشهد يشي بمظهر واحد من مظاهر واحدة من أخطر المشاكل التي تعصف بالمجتمع الفلسطيني منذ عقود من الزمان. فمشكلة العملاء وما يقومون به من دور، فضلاً عن طريقة تعامل السلطة والفصائل الفلسطينية مع هذا الملف، أصبحا يؤثران ليس فقط على نجاعة مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال ومشروعه، بل أيضاً على نسيج المجمتع الفلسطيني وشبكة العلاقات المعقده داخله. ونحن هنا بصدد تسليط الضوء على ظاهرة العملاء في المجتمع الفلسطيني، وطرائق المخابرات الإسرائيلية في محاولة إسقاط أكبر عدد من الفلسطينيين في براثن العمالة، ودور العملاء في الحرب التي يشنها الاحتلال على الشعب الفلسطيني. والى جانب كل ذلك سنحاول اختبار وتقييم الوسائل التي اتبعتها الفصائل أولاً، ثم السلطة ثانياً لمواجهة هذه المشكلة، وتبعات التشبث بهذه الوسائل. أهداف ومرامي تجنيد العملاء منذ أن بدأت الصراعات بين الدول والشعوب، برزت ظاهرة العملاء، وأصبحت قدرة دولة ما على تجنيد عيون لها من مواطني الدولة التي تكون في حال حرب معها، عاملاً حاسماً في تحقيق التفوق في المواجهة ضدها. ويشهد تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي بشكل عام، والصراع الإسرائيلي الفلسطيني بشكل خاص، على أن الدولة العبرية وظفت جهوداً وطاقات كبيرة من أجل تجنيد أكبر عدد ممكن من العرب والفلسطينيين للعمل لصالح اجهزتها الاستخبارية، ومدها بالمعلومات التي تساعدها في توجيه ضربات قاصمة للدول العربية والمقاومة الفلسطينية. تؤكد العشرات من الاحكام التي اصدرتها المحاكم الفلسطينية بحق العشرات من العملاء خلال الانتفاضة الحالية أنه بدون المعلومات التي يقدمها العملاء لم يكن بوسع الجيش الإسرائيلي تنفيذ أياً من عمليات الاغتيال والتصفية بحق قادة وعناصر حركات المقاومة، فضلاً عن تنفيذ عمليات الاختطاف والاعتقال التي يتعرض المقاومون. وهذا ما أكده جميع قادة جهاز المخابرات الإسرائيلية الداخلية "الشاباك" (الذي يتولى بشكل أساسي مهمة تجنيد وتوظيف العملاء من الفلسطينيين في الجهد الامني للدولة العبرية)، الذين تباهوا بقدرتهم على توظيف العملاء في مجال محاربة المقاومة. ويزخر كتاب "القادم لقتلك"، الذي ألفه يعكوف بيري، الرئيس الأسبق لجهاز "الشاباك" – والذي صدر قبل عدة أعوام - بالمعلومات التي تعكس حجم المساهمة الهائل للعملاء في تسهيل عمليات جيش ومخابرات الاحتلال. اللافت للنظر أنه حسب التحقيقات التي أجرتها الأجهزة الأمنية والفصائل الفلسطينية مع العملاء تبين أن بعضهم قاموا شخصيا بتنفيذ عمليات اغتيال أو محاولات لتنفيذ اغتيال، وبعضهم اعترف بدور مباشر في المجهود الحربي لقوات الاحتلال. ففي مؤتمر صحافي عقده جهاز الأمن الوقائي الفلسطيني في قطاع غزة قبل عام ونصف اعترف أحد العملاء الذين زرعهم جهاز "الشاباك" في صفوف الجناح العسكري لأحدى الفصائل الفلسطينية، أنه كان يقوم بإبطال مفعول العبوات الناسفة التي كانت حركات المقاومة تقوم بزرعها في الشوارع التي تفترض أن قوات الاحتلال ستسلكها لدى اقتحام مدينة "رفح"، جنوب قطاع غزة التي كان يعيش فيها هذا العميل. ويواصل العملاء رصد المقاومين حتى بعد أن يتم ايداعهم السجن. فمنذ أوائل السبعينيات عرفت الحركة الوطنية الأسيرة في سجون الاحتلال ظاهرة "العصافير"، وهم عملاء تقوم المخابرات الإسرائيلية باعتقالهم لكي يقوموا باستدراج المقاومين الذين يتم اعتقالهم للادلاء باعترافات وذلك في فترة التحقيق مع هؤلاء الأسرى. وحسب ما أفاد به عدد كبير من الأسرى تحدثت اليهم "الشرق الأوسط"، فإن "العصافير" هم الذي يقومون بالدور الحاسم في استدراج الأسرى للإعتراف بما تنسبه اليهم المخابرات الإسرائيلية. لكن إلى جانب كل ذلك فأن العملاء لعبوا دوراً هاماً في دفع المشاريع الاستيطانية في الضفة الغربية والتهويدية في القدس المحتلة. جهاز المخابرات العامة الفلسطينية شن في الفترة بين العامين ست وتسعين والفين حملة شاملة على العشرات من سماسرة الأراضي من الفلسطينيين الذين كانوا يقومون بتزييف وثائق أراضي تعود لفلسطينيين غائبين أو متوفين، وبعد ذلك يقومون ببيعها لجمعيات يهودية وتهويدية. وقد كان القاسم المشترك لهؤلاء السماسرة هو أنهم جميعاً عملاء مرتبطين بجهاز "الشاباك". ولعل أحدث قضية تكشف عن دور العملاء في دفع المشاريع الاستيطانية، ما كشف عنه العميل محمد مرقة من بلدة "سلوان" الذي اجرت معه صحيفة "هارتس" الإسرائيلية قبل اسبوعين مقابلة مطولة كشف النقاب فيها عن دوره في تزويد جمعية "عطيرات كوهنيم" اليهودية التي تنشط في مجال تهويد مدينة القدس ومحيطها، بمستندات ووثائق خاصة بمنازل وعقارات فلسطينية في بلدة "سلوان "، والقدس الشرقية. لكن هناك اهداف اخرى سعت إسرائيل لتحقيقها من خلال تجنيد العملاء: زعزعة ثقة الفلسطينيين بقضيتهم: كما يقول جدعون عيزرا، النائب السابق لرئيس جهاز المخابرات الإسرائيلي الداخلية "الشاباك"، فإن مجرد اكتشاف الفلسطينيين لقدرة "الشاباك" على تجنيد عملاء في صفوفهم كفيل، بزعزعة ثقتهم بالقضية والمقاومة الفلسطينية. في حين يقول حاييم بن عامي، الرئيس السابق لقسم التحقيقات في "الشاباك"، "نجاحنا في اختراق التنظيمات الفلسطينية عبر تجنيد عملاء لنا من بين عناصرها، له بالغ الأثر في سيادة أجواء عدم الثقة في أوساط عناصر المقاومة، بشكل يجعلها أقل كفاءة. محاولة التأثير على أجندة المجتمع الفلسطيني، بما يتوافق مع المصلحة الإسرائيلية، حيث كان للعملاء دوماً أثر في إثارة الفتن الداخلية بين الفلسطينيين، فضلاً عن تداول الشائعات التي هي جزء من الحرب النفسية التي تخوضها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني. تجنيد أكبر عدد من العملاء جاء لتحييد اوسع قطاعات من الشباب الفلسطيني، وإبعادهم عن صفوف المقاومة. آليات التجنيد منذ أن احتلت إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة في العام 1967، أصبحت تتحكم في كل مناحي الحياة للفلسطينيين، فحصول الفلسطيني على تصريح للعمل، أو العلاج، أو إذن بالسفر للخارج من أجل الزيارة أو مواصلة التعليم كان مرهوناً فقط بموافقة سلطات الاحتلال. في نفس الوقت كانت هذه السلطات منذ العام سبع وستين وحتى تشكيل السلطة الفلسطينية في العام اربع وتسعين، هي الجهة المسؤولة عن استيعاب عشرات الالاف من الفلسطينيين في سلك التعليم والصحة وقطاع الخدمات. إسرائيل لم تتوان للحظة في إستغلال ما تتمتع به من نفوذ من أجل مساومة الكثير من الفلسطينيين وإبتزازهم من أجل دفعهم إلى التعاون مع مخابراتها. صحيح أن المخابرات الإسرائيلية فشلت في إبتزاز معظم الذين حاولت مساومتهم على أن يصبحوا عملاء لها، إلا ان احتكارها للقوة والنفوذ دفع الكثير من ضعاف النفوس للسقوط في براثن العمالة، وأصبحوا أدوات رخصية وطيعة في أيدي عدوهم. إنحطاط المعايير الأخلاقية للمحتل جعله يستخدم وسائل قذرة في تجنيد العملاء من بين الفلسطينيين، وكما بات معروفاً الآن، فقد عمد "الشاباك"، على استدراج الشباب الفلسطيني إلى ممارسات غير أخلاقية، حيث يتم تصويرهم في أوضاع مشينة، وبعد ذلك يقوم عناصر "الشاباك"، بتخييرهم بين العمالة، أو فضح أمرهم. وقد دلت التحقيقات التي أجرتها الأجهزة الأمنية الفلسطينية، فضلاً عن التحقيقات التي أجرتها فصائل المقاومة الفلسطينية مع مئات العملاء عن أن هذه الطريقة هي الأكثر شيوعاً في تجنيد العملاء. ويجمع كل الذين تعاملوا مع ملف العملاء على أن الحصول على مماسك اخلاقية، وبالذات جنسية على الشباب الفلسطيني توظف من قبل ضباط المخابرات الإسرائيلية في دفع الشباب الفلسطيني. فعلى سبيل المثال نقدم قصة "ن ج" هو أحد عناصر الأمن الوطني الفلسطيني، من عائلة تسكن في المنطقة الوسطى من قطاع غزة، ومعتقل في سجون السلطة في غزة بعد اعترافه بالتعامل مع المخابرات الإسرائيلية. التقينا "ن ج" في السجن ليتحدث عن طريقة اسقاطه. يقول "ن ج" أنه في العام 2000 انضم للأمن الوطني الفلسطيني، فقررت قيادة الامن الوطني ارساله إلى العمل في منطقة "بيت لحم" في الضفة الغربية. فكان عليه، كما هو الحال مع جميع عناصر الأمن الوطني الذين سينتقلون للعمل في الضفة أن يحصلوا على تصريح للسفر للضفة. ويضيف "ن ج" أنه توجه إلى مكتب الارتباط العسكري الإسرائيلي في حاجز "ايرز" الذي يصل شمال القطاع بإسرائيل، ليحصل على التصريح هناك. قام الجنود بادخاله إلى مكتب كبير، حيث كان شاب يلبس الزي المدني ينتظره، وبعد ان قام بتعريفه على نفسه بأنه "الكابتن جمي" من جهاز المخابرات الإسرائيلية، عرض عليه أن يتعاون معه من أجل "الحفاظ على السلام من الحركات المتطرفة في الجانبين". لم يتلق "الكابتن جمي" من "ن ج" اجابة بسرعة، ولم يحاول اسثتمار جهد في اقناعه، فخرج من المكتب، وبعد خمس دقائق دخلت مجندة حيث قامت ببعض المداعبات الجنسية ل "ن ج "، وبعد ذلك خرجت. وعلى اثرها دخل "الكابتن جمي "، وهو يقهقه، وكان يحمل بعض الصور التي كانت تظهر "ن ج "، وهو يتلق المداعبات الجنسية من المجندة. كان "جمي" صارماً في حديثه ل "ن ج": إما أن توافق على التعاون معنا، وإما نقوم بنشر هذه الصور في .....( احد معسكرات اللاجئين يقطن فيه ن ج). يقول "ن ج" انه وافق بدون تردد على عرض "جمي". وهكذا شرع هذا الشاب البائس الذي لم يحصل حتى على الشهادة الابتدائية في طريق قاده إلى احد الزنازين المظلمة في سجن "السرايا". واعترف أنه جمع المعلومات الاستخبارية وفق تعليمات "جمي" وبعد ذلك "الكابتن مئير"، وتدرج في تنفيذ المهام الاستخبارية لدرجة أنهم قاموا بإرساله لتصفية أحد المقاومين الفلسطينيين في إحدى بلدات جنوب الضفة الغربية، ولم ينجح لحدوث طارئ حال دون وجود الهدف في المكان الذي كان من المقرر أن تتم فيه عملية الاغتيال. وتحدثنا داخل السجن مع خمسة من عناصر الامن الوطني الذين تم جرهم للعمالة بطريقة الابتزاز الجنسي، وهي طرق لم يكن لتنطلي على شخص يتمتع بأقل قدر من الذكاء والوعي، لأن ضابط المخابرات لن يقوم بنشر هذه الصور. الجهات التي تتولى تجنيد العملاء منذ احتلال الأراضي الفلسطينية المحتلة في العام 67، وحتى تشكيل السلطة الفلسطينية، ظل جهاز"الشاباك"، هو الجهة المسؤولة عن تجنيد العملاء من بين الفلسطينين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وبالذات القسم العربي في هذا الجهاز. ونظراً للدور البالغ الأهمية الذي يقوم به القسم العربي في "الشاباك"، فقد كان معظم رؤساء "الشاباك"، يتم اختيارهم من بين كبار الضباط الذين تولوا قيادة هذا القسم، مثل رئيس "الشاباك" الحالي افي ديختر. لكن بعد التوقيع على إتفاقية "اوسلو"، وتشكيل السلطة الفلسطينية، تقرر أن يتولى جهاز الاستخبارات العسكرية "أمان"، جزءاً من عمليات تجنيد العملاء، وهكذا تم تدشين الوحدة"812"، التابعة ل"أمان"، وتتولى مهام تجنيد العملاء، ويقودها ضابط برتبة عميد. وقد كان من المقرر ان تنتقل مسؤولية تجنيد العملاء بالكامل إلى جهاز "أمان"، لكن اندلاع انتفاضة الأقصى، أدى إلى إرجاء ذلك، حيث تقرر أن يواصل "الشباك"، الاطلاع بالعبء الرئيسي في هذا الجانب. وهنا يتوجب أن نشير إلى أن"الشاباك"، لا يتولى تجنيد العملاء في الخارج، فهذه مهمة جهاز "الموساد"، وكلاً من "الشاباك" و"الموساد"، يخضعان مباشرة لإشراف مكتب رئيس الوزراء. آثار ظاهرة العملاء على المجتمع الفلسطيني إلى جانب تأثيرها السلبي على المقاومة الفلسطينية، فقد كان لظاهرة العملاء دوراً تدميرياً على نسيج المجتمع الفلسطيني. فقد انخرط العملاء – حسب تعليمات الشاباك –في أنشطة تهدف إلى تدمير أخلاق الشباب الفلسطيني وإفسادهم. فقد دلت تحقيقات كل من الأمن الفلسطيني وفصائل المقاومة على أن العملاء لعبوا دوراً كبيراً في تعاظم ظاهرة تعاطي المخدرات بين أوساط الشباب الفلسطيني، وكان لهم دوراً في نشر الرذيلة. في نفس الوقت فقد ساهمت طريقة مواجهة فصائل المقاومة الفلسطينية لظاهرة العملاء في تكريس الشرخ داخل المجتمع الفلسطيني. ففي الانتفاضة الأولى وعندما لم يكن هناك سلطة فلسطينية، سارعت حركات المقاومة إلى إعدام المئات من الفلسطينيين من المشتبه بتعاونهم مع المخابرات الإسرائيلية. من هنا، اندفع إلى هامش المجتمع آلاف الاطفال الأيتام، الذين خرجوا للنور وهم يعانون من عقدة الشبهة التي قتل بها آباؤهم، هذا مع أن مؤسسات المجتمع احتضنت أبناء المشتبه بتعاونهم مع إسرائيل بعد قتلهم. إلى جانب ذلك فإن هذه الظاهرة قد أدت إلى تكريس عادة الأخذ بالثأر بين العائلات الفلسطينية على خلفية قتل المشتبه بتعاونهم مع إسرائيل، إذ أن الكثير من العائلات لم تسلم بأن تتم تصفية ابنائها المشتبه بتعاونهم مع سلطات الإحتلال، بعد أن شككت بموضوعية معالجة فصائل المقاومة لملف العملاء. وقد أقدمت بعض عائلات العملاء ، على قتل الذين اشتبهت بأنهم ساهموا في قتل ابنائها، أو أصدر الأمر لتصفيتهم. مواجهة العملاء وسيادة "شريعة الغاب" يقول راجي الصوراني مدير "المركز الفلسطيني لحقوق الانسان" أنه من الطبيعي أن تتم محاربة العملاء على أساس أنهم جزء من واقع الاحتلال. ويضيف قائلاً "الاحتلال بدون عيون، والعملاء هم عيونه، والاحتلال بدون اذرع، والعملاء هم اذرعه، والاحتلال بلا سيقان ، والعملاء هم سيقانه". ويشير الصوراني إلى أنه لما كانت جميع الأتفاقيات والمواثيق تضمن حق الشعوب في محاربة الاحتلال، فأنها بكل تأكيد تضمن حق الشعوب المحتلة في محاربة عملاء الاحتلال، على اعتبار أنهم أدواته". ينحي الصوراني باللائمة على السلطة الفلسطينية التي قبلت بقيود اتفاقيات "أوسلو" التي التزمت فيها السلطة بعدم التصدي لظاهرة العملاء بشكل كافي، واهملت هذا الملف. ويشير الصوراني إلى أنه عندما قامت السلطة بشن حملة اعتقالات في صفوف العملاء فأنها استهدفت "الحيتان الصغيرة وتجنبت التعرض للحيتان الكبيرة". ويرى الصوراني أن تلكؤ السلطة في القيام بدورها الطبيعي والقانوني الأخلاقي في مواجهة العملاء هو الذي شجع التنظيمات الفلسطينية على ملأ الفراغ الذي تركته السلطة، بحيث أصبحت تسود شريعة الغاب، على حد تعبيره. بالنسبة للصوراني فأن واجب محاربة العملاء يقتضي أن يتم ذلك وفق القانون وبما يحفظ لهؤلاء حقوقهم القانونية وضرورة تمتعهم بمحاكمات عادلة، وتوفير كل الضمانات التي تكفل عدالة الاجراءات المتخذة بحقهم. وينوه إلى أن تحقيق معايير العدالة في محاكمة المشتبه بتعاملهم مع الاحتلال ليس مهماً فقط من باب أن ذلك حق لهؤلاء، بل لأن الحديث يدور عن قضية تمس مستقبل ومصير أسر كاملة. وحسب الصوراني فأن عائلة الذي يدان بجرم العمالة تتحطم تماماً، ويصعب عليها مواصلة الاندماج في المجتمع الفلسطيني. يجزم الصوراني أن الفصائل الفلسطينية ارتكبت أخطاء كثيرة في محاربة العملاء، حيث أنه في بعض الأحيان تم توجيه الاتهام لأناس أبرياء، وفي أحيان قتل بعض الناس بجرم العمالة ظلماً وعدواناً. يثني الصوراني على ما قامت به حركة حماس من اعترافها بالمسؤولية عن قتل أحد سكان قرية "كوبر" قضاء رام الله بعد أن قام عدد من عناصرها باختطافه، فقتل جراء رصاصة أصابته بطريق الخطأ من المسلحين. ويعتبر أن اعتراف حماس ودفعها الدية لعائلة القتيل نموذج يتوجب أن تقتضي به بقية الفصائل الفلسطينية التي حسب الصوراني كانت لها ممارسات مماثلة. الدكتور غازي حمد الناطق بلسان الحكومة الفلسطينية ورئيس تحرير أسبوعية "الرسالة" السابق يرى أن أكبر مصدر للخلل في التعامل مع ملف العملاء كان في غياب أي اهتمام بالقضية منذ العام سبع وستين حتى العام سبع وثمانين. ويضيف حمد أنه خلال هذه الفترة غابت الفصائل الفلسطينية عن ساحة العمل الجماهيري. وينوه حمد إلى ان هذه الفترة كانت "الفترة الذهبية" بالنسبة لجهاز "الشاباك" حيث استطاع أن يجند بصمت وبدون ضجيج أعداداً كبيرة من الفلسطينيين. ويشير حمد إلى غياب أي قدر من التوعية والتثقيف ازاء ما تقوم به المخابرات الإسرائيلية مستغلة خصوصيات المجتمع الفلسطيني الشرقي المحافظ. ويعتبر أن أحداً لم يهتم بتعزيز عامل الانتماء الوطني في نفوس الشباب الفلسطيني من أجل تكريس المنعة النفسية الداخلية التي تحول وقوع الالاف بهذه السهولة في براثن العمالة، وبجهود بسيطة في كثير من الأحيان. ويضيف حمد أنه حتى عندما شرعت الفصائل في مواجهة ظاهرة العملاء، فأنها قامت بذلك بشكل عفوي وارتجالي وبدون معايير واضحة سليمة، الأمر الذي جعل طرائق التنظيمات الفلسطينية مع هذا الملف، بحد ذاته مصدراً للكثير من المتاعب للشعب الفلسطيني على الصعيد الاجتماعي. ويلفت حمد النظر إلى أن الفصائل لم تميز بين العملاء، فكثير من العملاء اضطروا للعمالة بعد تعرضهم لضغوط هائلة ولقدر كبير من الابتزاز، حيث كان من العملاء من صغار السن الذين تمت مساومتهم على تصريح للعمل، أو تصريح لمغادرة البلاد من أجل الدراسة أو العلاج. ويضيف أنه لم توضع معايير لتعريف العميل، حيث أنه بالنسبة لبعض الفصائل كان يكفي أن يكون شخص ما على علاقة بشبكة دعارة أو مخدرات حتى يوصم بالعمالة وتشوه سمعته، مع أن الواقع لاحقاً دل على أنه ليس كل من يرتبط بهذه الأمور يكون عميلاً. ويشدد على أن أكثر ما يدعو للاستهجان كان غياب أي قدر من التنسيق بين الفصائل وبعضها البعض في كل ما يتعلق بالعملاء. فبعض الأشخاص الذين وصموا بالعمالة من بعض الفصائل، قامت اخرى بتبرأتهم. في نفس الوقت تركت قيادات الفصائل لأذرعها الأمنية والعسكرية التعامل مع ملف العملاء بقدر كبير من المرونة، ولم يكن هناك دائما رقابة من قبل القيادات السياسية لممارسات اذرعها الأمنية والعسكرية. الذي يثير حفيظة حمد أكثر من أي شئ اخر هو طرق العقاب التي اتبعت في معالجة ملف العملاء. وكما يستذكر فأنه كان يتم قتل الاشخاص المتهمين بالعمالة في الشوارع والأسواق وحتى في داخل بيوتهم وأمام ناظري عوائلهم، بل أنه وصل الأمر في بعض الحالات أن قتل المتهمين بالعمالة داخل المساجد!!!!!!. ويشير حمد إلى أن التعامل السطحي مع ملف العملاء استمر حتى بعد تشكيل السلطة. ويتفق حمد مع الصوراني حول دور الاتفاقيات السياسية في تقييد يد السلطة الفلسطينية في معالجة هذا الملف. فقد تأثرت طريقة تعامل السلطة مع ملف العملاء بالاتفاقيات السياسية مع إسرائيل، حيث فرضت قيود على السلطة في التعامل مع هذا الملف، حيث كان يتم شن الحملات ضد العملاء بشكل انتقائي وموسمي ودون سياسة عامة. ووفق حمد فأن السلطة ظلت حتى الان تتجاهل عامل التثقيف والتوعية للشباب الفلسطيني من أجل عدم الوقوع في العمالة. ويتفق حمد مع الصوراني من أنه في كثير من الأحيان ارتكبت اخطاء شنيعة بحق اشخاص ابرياء اتهموا بالعمالة. ويقول حمد أنه في بعض الاحيان تمت تبرئة بعض هؤلاء بدون الاعلان عن ذلك وبصمت. ويعتبر أن حادثة قرية "كوبر" الوحيدة التي تعلن فيها حركة فلسطينية عن اعترافها بخطأها بقتل شخص على خلفية اتهامه بالعمالة. ويشدد على أن جميع الفصائل بدون استثناء ارتكبت اخطاء وتم ليس فقط تشويه سمعة أشخاص وعائلات، بل أن بعض الناس قتل وجرح ظلماً بسبب اتهامه بالعمالة ظلماً. مراجعات فارقة من المهم جداً الاستماع إلى العديد من الأسرى الفلسطينيين الذين أفرج عنهم مؤخراً من سجون الاحتلال وكانوا معتقلين بعد ادانتهم من قبل محاكم الاحتلال باختطاف العملاء والتحقيق معهم، وقتلهم أو التسبب في قتلهم. اللافت للنظر أن هؤلاء يؤكدون أنه خلال العقد الأخير فأن جميع الأسرى الذين كان لهم ضلع في عمليات اختطاف وقتل العملاء قد قاموا بعملية مراجعات شاملة لطريقة تعامل الفصائل الفلسطينية مع مشكلة العملاء. وحسب هؤلاء، فقد أفضت هذه المراجعات إلى استنتاج هام وحاسم، وهو أن فصائل المقاومة الفلسطينية فشلت فشلاً كبيراً في التعامل مع هذه المشكلة، ولم يكن طريقة تعامل هذه الفصائل في التعامل مع هذا الملف الطريقة الأمثل، بل على العكس تماماً. يقول ( أ ز ) وهو اسير افرج عنه بعد قضاء ثلاثة عشر عشر سنة في المعتقل بعد ادانته باختطاف والتحقيق مع عملاء، أن هذه الطريقة أبعد ما تكون عن تحقيق اهدافها الأمنية والمتمثلة في الكشف عن العملاء وتأمين المقاومة والمجتمع من شرورهم، بل على العكس تماماً. ويفسر قائلاً "عندما تفوم باختطاف عميل ويعرف أنه بعد ادلائه بالاعترافات سيقتل، فأنه لن يقدم المعلومات الصحيحة، بل على العكس تماماً، فهو يحاول تلطيخ سمعة اكبر عدد من الناس الشرفاء والأبرياء". ويضيف أنه نظراً إلى أن معظم عمليات اختطاف العملاء والتحقيق معهم تمت في ظل وجود الاحتلال، فأن هذا الامر جعل الخاطفين من عناصر المقاومة يمارسون أكبر قدر من الضغوط الجسدية والنفسية على الذين يشتبه بأنهم متعاونين مع الاحتلال من أجل دفعهم للإدلاء بالاعترافات في أقصر وقت ممكن. ويؤكد (أ ز ) أنه في حالات – وإن كانت نادرة – فقد اعترف بعض الذين تم اختطافهم بجرم العمالة فقط من أجل الخلاص من التعذيب، مع ادراكه أنه قد يتعرض للقتل بعد الاعتراف. ليس هذا فحسب، بل أن قتل العملاء شكل خطراً على الصف الداخلي للتنظيمات وعمل على تآكل بنيتها التنظيمية. فالمئات من عناصر حركات المقاومة الذين شاركوا في اختطاف والتحقيق وقتل العملاء تم اعتقال اغلبيتهم الساحقة من قبل قوات الاحتلال وحكم عليهم بالسجن لفترات طويلة، ومعظمهم حكم عليه بالسجن المؤبد. وهذا ما حرم هذه الفصائل من عدد كبير ، مع العلم أن اعضاء الخلايا التي كانت تتعقب العملاء كانوا من أفضل عناصر الفصائل.
لا يوجد صور مرفقة
|