بقلم: بقلم : سيف دعنا
استعرض مقالات الكاتب | تعرف على الكاتب 23-03-2017 - 2099 «الاستعمار لا يرفع يده إلا إذا جعلت السكين في عنقه» فرانز فانون ــ «معذبو الأرض» في صباح 13 آذار 1954 أعطى القائد العسكري الفذّ للمقاومة الفيتنامية الجنرال «فو نجوين جياب» الأمر بإطلاق النار لتبدأ الملحمة الأسطورية العظيمة في «ديان بيان فو»، التي انتهت بسحق جيش الاستعمار الفرنسي وإجباره على الخروج من فيتنام مهزوماً. ورغم أن جياب سيعود بعدها بسنوات قليلة مع رفيقه، وأسطورة المقاومة العالمية، «هو شيء منه» لقتال جنود الإمبراطورية الأميركية وإلحاقهم بأقرانهم الفرنسيين، إلا أنّ ملحمة «ديان بيان فو» ستصبح النموذج الأهم الذي تقتدي به الشعوب الطامحة للتحرر من الاستعمار الأوروبي. فهناك، حيث قضى المقاومون أشهراً طويلة في حفر الخنادق والأنفاق، ستقع واحدة من أشرس المعارك منذ الحرب العالمية الثانية بين نخبة الجيش الفرنسي ووحداته المظلية وفلاحي واحدة من أفقر دول العالم وتنتهي إلى انتصار الشعب المكافح الذي قدم تضحيات هائلة. وبعد أكثر من خمسين عاماً حين تقع حرب تموز، حيث الخنادق والأنفاق والقادة العظام أيضاً، لن يستطيع الخبراء العسكريون الأميركيون، الذين أذلهم وأهانهم جيش جياب وهوشي منه، مقاومة إغواء المقارنة وسيستنتجون بلا تردد تفوق أداء مقاومي حزب الله في حرب تموز في تكتيكات عسكرية اخترعها أهل فييتنام لظروف أكثر مناسبة من الظروف الصعبة التي قاتل فيها مقاومو حزب الله. فمقاومو حزب الله حفروا أنفاقهم في الصخر فعلاً، لا قولاً ولا دعاية، واستطاعوا تطوير وتكييف تكتيكات حرب العصابات الفذة التي خاضها الفييتناميون ضد فرنسا وأميركا مع ظروف أشد قسوة وصعوبة وانتصروا رغم ذلك. كل ما يلي مستوحى من كتابات غربية وإسرائيلية فقط عن حرب تموز (وبالتالي هي منحازة للكيان الصهيوني وتعتمد أرقامه عن الخسائر) والترجمة للكاتب بتصرف. المعجزة الهندسية . في أعقاب حرب تموز مباشرة، عَبَّرَ أحد مراقبي الأمم المتحدة عن ذهوله حين شاهد تعقيد وتحصين إحدى شبكات الأنفاق التي أقامها حزب الله على بعد مائتي متر فقط من الحدود مع فلسطين، حيث تنشط استخبارات الجيش الصهيوني التي تستخدم أكثر أجهزة التجسس تطوراً في العالم، وعلى بعد كيلومترات قليلة من مقر قيادة قوات الأمم المتحدة في الناقورة. الشبكة المعقدة والتي كانت بحجم ملعب كرة قدم، كما وصفها، كانت محصنة جداً ومحمية بـِ سُمْكِ متر من الاسمنت المسلح، ولكن ولعلم هذا المراقب بطبيعة المراقبة المكثفة ولقرب الشبكة الكبير من الحدود علّق مذهولاً حين رآها بعد الحرب: «يبدو أن حزب الله قام بجلب الأسمنت إلى هنا بالملعقة». ربما يفسر ذلك، أولاً، عدم تخيّل الجيش الصهيوني لإمكانية بناء مثل هذه الشبكات على الحدود مباشرة، حتى لا نقول عدم إمكانية تخيّل تعقيد شبكة الأنفاق التي أقيمت بسرية هائلة تحت أنوفهم وتمّ تحصينها وتمويهها بطريقة فعالة جداً لتكون إحدى مفاجآت حرب المفاجآت، وثانياً عدم تمكن الجيش الصهيوني لاحقاً من تدميرها أو إجبار المقاومين على إخلائها خلال الحرب (دانيال هيلمر، ليست مكافحة تمرد: حكاية تحذيرية للقوات الأميركية. ص: 119-120)i. ورغم أنّ بناء هذه الشبكة كان عبقرية أمنية بحد ذاتها، خصوصاً إذا علمنا أن حزب الله، قام أيضاً، وفي نفس المنطقة، ببناء مخازن متعددة للأسلحة شملت مخزوناً هائلاً من الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى بالإضافة إلى صواريخ موجهة مضادة للدروع ظلت تضرب أهدافها حتى اليوم الأخير للحرب، فإن منظومة المقاومة التي صممها حزب الله لمواجهة الغزو المحتمل منذ عام 2000 ككل متكامل (شبكات أنفاق، مخازن عتاد وذخيرة، تدريب مقاتلين، جهاز قيادة وسيطرة، اتصالات وسلاح إشارة، إلخ) وهزم بها الكيان الصهيوني في حرب تموز كانت، وبوصف خبير عسكري أميركي هذه المرة، «أعجوبة هندسية» (م. ماثيو. أُخذنا على حين غرة. ص: 19)ii. في ما يخص الصواريخ، شكّل حزب الله مجموعة من الوحدات من أجل إبقاء الكيان تحت مرمى الصواريخ على نحو دائم لمواجهة الإستراتيجية العسكرية الصهيونية المعتمدة على سلاح الجو. في جنوب الليطاني شكّل الحزب وحدة صواريخ مزودة بكمية هائلة من صواريخ كاتيوشا (122 ملم) وموزعة على مناطق واسعة لتقويض هدف التفوق الجوي والناري للجيش الصهيوني. هنا، طوّر حزب الله نظاماً بسيطاً، ولكنه دقيق وفعال جداً لإطلاق الصواريخ يتكوّن من تكامل عمل ثلاث مجموعات يمكنها إطلاق الصواريخ خلال 28 ثانية فقط. فما أن تقوم مجموعة المراقبة بإعلان خلو المنطقة من الطائرات الإسرائيلية حتى تقوم مجموعة صغيرة بنصب الراجمات والانسحاب بسرعة، لتقوم مجموعة ثانية بنقل الصواريخ إلى منطقة الإطلاق وحيث الراجمات والانسحاب بسرعة أيضاً. بعدها تصل المجموعة الأخيرة إلى الموقع وتقوم بتجهيز وإعداد الصواريخ للإطلاق، عادة عبر جهاز التحكم عن بعد أو عبر جهاز توقيت. ثمان وعشرون ثانية فقط وتكون الكاتيوشا في السماء في طريقها إلى فلسطين (المصدر السابق، ص: 17). لعلكم احتجتم لوقت أطول لقراءة هذه الفقرة فقط، أليس كذلك؟ وحدة الصواريخ الثانية والتي انتشرت جنوبي الليطاني وشماليه كان بحوزتها صواريخ متوسطة المدى (صواريخ فجر وصواريخ كاتيوشا معدلة). لكن حتى لا يحصر، أو يخنق، الحزب نفسه بين فكي بيروت والليطاني شكّل، أيضاً، وحدتي صواريخ بعيدة المدى تطلق عادة باستخدام منصات متحركة محمولة على شاحنات («زلزال 2» أو صواريخ 610 ملم ونظم أخرى) (المصدر السابق). هنا أيضاً طوّر حزب الله نظاماً عبقرياً للإطلاق كان له تبعاته القاتلة على العقيدة العسكرية الصهيونية. فكما عرف قياديو ومقاتلو حزب الله (حسب ما ذكر آلاستير كروك ومارك بيري في سلسلة مقالات عن حرب تموز سأعود لذكرها)، يحتاج الإسرائيليون ــ من لحظة إطلاق الصواريخ، وبالتالي اكتشاف وتحديد نقطة الإطلاق، وحتى لحظة إرسال سلاح الطيران لتدميرها ــ إلى تسعين ثانية. ولكن بفعل سنوات من التدريب الجاد تمكنت وحدات الصواريخ لدى حزب الله من القيام بالانتشار، إطلاق الصواريخ، والانسحاب بأمان وإخفاء المنصات المتحركة في أقل من ستين ثانية (حتى لو كنت مدخّناً شرهاً، ستحتاج لو قررت إشعال سيجارة وتدخينها إلى ثلاثة أضعاف المدة الزمنية التي استغرقت المقاومين لتجهيز وإطلاق صاروخ «خيبر 1» على العفولة ثم الانسحاب بأمان وإخفاء منصات الإطلاق كما حدث في 28 تموز). هنا سقطت العقيدة العسكرية الإسرائيلية الجديدة التي تم تطويرها في أعقاب الاستخدام المكثف لسلاح الجو والقوة النارية الهائلة للقوات الأميركية في حرب الخليج. الفرضية كانت تعتمد على استخدام التفوق التكنولوجي لخفض عدد الإصابات البشرية عبر تجاوز الاشتباك المباشر والتركيز على القوة النارية الجوية الهائلة (بانفصاله عن مجرد إسناد سلاح المشاة والمدرعات) التي لا يملك العرب مضاداً فعالاً لها لإحداث التأثير المرغوب (إرهاب المقاومين وتحريض الناس ضدهم). لكن العدو الصهيوني، الذي استخدم هذه الاستراتيجية للمرة الأولى في مواجهات 1993، فشل، كما يبدو الآن، في إدراك مدى استيعاب حزب الله لها وتخطيطه لمواجهتها وإفشالها كما فعل في مواجهة عناقيد الغضب عام 1996 عبر سلاح الصواريخ الذي يضع الكيان في مرمى النيران وليس الجنود فقط (أمير كوليك، «حزب الله في مواجهة إسرائيل». تقديرات استراتيجية، مجلد 9، عدد 3، 2006. معهد الأمن القومي) iii. فشل سلاح الجو الإسرائيلي المتطور في تموز 2006 «أثار الذعر» في البنتاغون، كما نقل كروك وبيري عن مسؤول عسكري أميركي رفيع. فلقد كانوا حينها في البنتاغون «يتدافعون لينفضوا الغبار عن خططهم الجوية تحضيراً لأوامر قد تصدر من البيت الأبيض بضرب المواقع النووية الإيرانية (كيف هزم حزب الله إسرائيل. القسم الثاني، الانتصار في الحرب البرية) iv. حرب تموز، كما يبدو، دفعتهم لإعادة حساباتهم وإعادة النظر في خططهم، فخلال الحرب، في 26 تموز، كتب فيليب غوردون، المحلل والخبير المتقدم في معهد بروكنغز (والمتعاطف مع الكيان الصهيوني أيضاً) في «ذي واشنطن بوست»، أنّ «القوة الجوية وحدها لا تستطيع تحقيق الأهداف»، مذكراً بما سماه «مغالطة القصف الاستراتيجي»، وناسفاً، بالتالي كل المجهود العسكري الإسرائيلي منذ البداية v، وهو ما أكدته دراسة لاحقة صادرة عن «معهد واشنطن» الموالي تماماً للكيان الصهيوني vi. بعدها بدأنا نقرأ عن تبعات هذه الحرب على النظرية العسكرية الأميركية والجدل الذي ساد النخب العسكرية حينها، مثلاً، كما ورد في دراسة بول روجرز «التفكير العسكري الأميركي الجديد ــ القديم» vii، وتبعات الحرب الهجينة على السياسة الدفاعية الأميركية viii لنعرف أن الحرب حدثت في لبنان، لكن تبعاتها العسكرية (إذا تغاضينا عن التبعات الأخرى للحظة) كانت عالمية، وأول ضحاياها كانت الاستراتيجية العسكرية الأميركية الجديدة التي تم تبنيها في أعقاب أحداث أيلول ــ أصبحت جديدة ــ قديمة الآن بعد أقل من أربع سنوات. هذه التبعات كانت كبيرة لدرجة أنها «أربكت المحللين العسكريين في كل العالم»، كما استنتج مدير «معهد دراسة الحروب» التابع للجيش الأميركي (رغم تعاطفه الواضح مع الكيان) في تصديره لدراسة أصدرها المعهد بعنوان يمكن ترجمته «أُخذنا على حين غرة»: «نتيجة الحرب التي كانت في أفضل الأحوال ورطة/ مأزقاً لإسرائيل أربكت المحللين العسكريين في كل العالم. فالجيش الإسرائيلي، الذي كان يُعتبر ولفترة طويلة الجيش الأكثر مهنية والأقوى في الشرق الأوسط وله تاريخ من الانتصارات الباهرة والمثيرة للإعجاب ضد أعدائه، خرج من الحملة وعدوه غير مهزوم، فيما هيبته هو تلطخت وتشوهت بشدة» (معهد دراسة الحروب، سلسلة الحرب الطويلة، الورقة 26). لكن اللوحة لا تكتمل وتصل حد المعجزة الهندسية إلا بتكامل عمل وحدات الصواريخ مع الوحدات الأرضية المقاتلة، شبكة هائلة ومعقدة من الأنفاق، وحدات الصواريخ المتعددة المضادة للدروع، وحدات حماية مخازن الصواريخ المزودة باسلحة متنوعة ومتطورة، وهندسية فذة لتوزيع الألغام الأرضية. يكفي أن نعرف أن حزب الله لم يبنِ شبكة معقدة من الأنفاق المحصنة والمموهة جداً، بعضها كان حتى مكيفاً، وبعضها الآخر حفر على عمق أربعين متراً في التلال الصخرية (وهي مشكلة لم تواجه الفيتكونغ)، بل أنّه قام أيضاً ببناء شبكة أخرى موازية من الأنفاق الأشراك لخداع أجهزة التجسس الصهيونية التقنية والبشرية على حد سواء. وهذا على ما يبدو بعض ما قصفه العدو في 14 تموز وادعى النصر متعجلاً، قبل أن يصمت حين تواصل إطلاق الصواريخ ــ ما أطلق عليه العدو حينها عملية «الوزن النوعي»، وصحّحه السيد نصر الله في كلمته في 18 تموز 2012 إلى «الوهم النوعي». لكن الفشل الصهيوني بدأ يتجلى في 28 تموز حين ظهر للعلن وللمرة الأولى الخلاف في تقديرات الموساد الذي لم يعد «يوافق على أن حزب الله تعرض لضربة كبيرة في بداية الحرب»، كما ظل يزعم الجيش. هنا، يقول كروك وبيري «بدأت الشقوق الأولى في مجتمع الاستخبارات الإسرائيلية بالظهور». يومها بالذات ضرب حزب الله العفولة بصاروخ «خيبر 1» فبدا وكأنه يُكذب الجيش الصهيوني ويؤكد شكوك الموساد حول الخديعة التي وقعوا بها ليستمر الجدل ــ طبعاً لم يكتب كروك وبيري في سلسلتهما قسماً عن الحرب النفسية، وهو ما قام به تلفزيون المنار لاحقاً. لكن، هذه لم تكن معجزة هندسية فقط، بل إنّ حزب الله ارتقى بالمقاومة إلى مرحلة الفن في مرحلة ما بعد التحرير عام 2000. تخيلوا فقط ما يلي: «ما يقارب الـ 600 نفق كانت مخصصة لتخزين الذخيرة والعتاد تم تجهيزها في مواقع إستراتيجية جنوب الليطاني. ولأسباب أمنية، لم يعرف أي قائد بمفرده موقع كل المخابئ، ولكلّ وحدة قتالية تمّ تخصيص ثلاثة أنفاق فقط ــ مخزن أسلحة أساسي، ونفقين احتياطيين في حالة تم ضرب المخزن الأساسي. كما تمّ أيضاً تعيين نقاط تجمع أساسية وبديلة للوحدات القتالية المختلفة التي كانت مكلفة بالتسليح والقتال في مناطق قتال مختلفة. البروتوكولات الأمنية لتنظيم وحشد قوات الوحدات المختلفة تم الحفاظ عليه بجدية وصرامة طول فترة الحرب. ولم يعرف عضو واحد في حزب الله بمفرده بنية وهيكلية الأنفاق كاملة». وحين جاء امتحان وقف إطلاق النار لـ 48 ساعة في أعقاب مجزرة قانا، «كانت الصدمة والمفاجأة» عند العدو صلابة القيادة والسيطرة ومدى كفاءة وسلامة واستمرار التواصل بين القيادة والمقاومين على الأرض رغم كل القصف (آلاستير كروك ومارك بيري «كيف هزم حزب الله إسرائيل». الجزء الأول: الانتصار في الحرب الاستخبارية). كمين وادي الموت هل تذكرون الوعد الذي قطعه السيد حسن نصر الله خلال إحياء ذكرى استشهاد السيد عباس الموسوي في 16 شباط 2003؟ هذا ما قاله بالحرف: «هناك من دفن سلاحه في التراب عام 1982عندما دخل الجيش الصهيوني إلى لبنان. نحن سندفن الإسرائيليين في التراب إذا عادوا مجدداً إلى أرضنا». وجاء الامتحان بعد ثلاث سنوات فقط، وصدق سيد المقاومة وعده. في الثاني عشر من آب 2006 أبلغت فرقة «ناحل»، التي تمّ إنزالها جواً (على أطراف فرون والغندورية) القيادة العسكرية الصهيونية أنّ منطقة وادي السلوقي، أو وادي الحجير كما يسميه أهل لبنان، مؤمنة تماماً. على إثر ذلك «بدأت 24 دبابة من الكتيبة 401 بعبور وادي السلوقي. لكن، لم يتقدّم الرتل إلا قليلاً فقط لتجد الدبابتان المتقدمتان في أوَّل الرتل الطريق أمامهما مسدوداً ببناء مهدم. وفيما كانتا تهمان بالبحث عن طريق بديلة للعبور انفجرت عبوة كبيرة خلف الرتل فانهار الطريق الخلفي تماما (وحوصر رتل الميركافا بين الطريق المغلقة في الأمام والطريق المهدم في الخلف). في تلك اللحظة بالضبط انطلق صاروخ مضاد للدروع موجه بالليزر من طراز كورنيت فضرب دبابة قائد الطابور مما أدى إلى مقتله ومقتل كل الطاقم الذي كان معه على الفور. وخلال ثوان فقط، بدأت أسراب من الصواريخ المضادة للدروع تضرب رتل الدبابات» (م. ماثيو. «أُخذنا على حين غرة»، ص: 54). لم يكن بوسع جنود أقوى جيش في المنطقة، هؤلاء الذين يُشبعون غرورهم العنصري بمنع نساء فلسطين الحوامل من الوصول إلى المستشفيات وإجبارهن على الولادة على نقاط التفتيش، حينها عمل شيء «إلا الصلاة والدعاء لربهم»، كما قال أحد الجنود من طاقم إحدى الدبابات في شهادته، مضيفاً: «حين أصيبت الدبابة الأولى، عرفنا أنّ الكابوس كان قد بدأ فقط. أنت تعرف أن الصاروخ الأول الذي ضرب الدبابة الأولى ليس هو الصاروخ الخطير في الحقيقة. الصواريخ اللاحقة هي الخطيرة فعلاً. «لقد كانت كنار جهنم»، وأنت ليس لديك أدنى فكرة متى سيأتي عليك الدور» (المصدر السابق: 54). يقول جندي آخر من وحدة المشاة «ناحل» التي تقدمت لمساعدة رتل الدبابات الواقع في الكمين: «كنا نظن أننا دخلنا وادي السلوقي بعد أن تم تطهير المنطقة تماماً»، لكن مقاتلي حزب الله «خرجوا لنا من البيوت والمخابئ وبدأوا يطلقون النار علينا. كنا تماماً كأهداف في حقل رماية». بعد أربعة أيام فقط، في 16 آب، كتب نافا تسورئيل وايتان غليكمان في «يديعوت أحرونوت» وصفاً لما حدث بناءً على مقابلات مع الجنود في مقال أهم ما فيه أنه أعاد تسمية وادي الحجير بناءً على تجربة هؤلاء الجنود المهزومين من «وادي السلوقي» إلى «وادي الموت»، الذي كان عنوان المقال ix. في نهاية الكمين تمّ تدمير احدى عشرة دبابة «ميركافا 4» وقتل ثمانية من طاقم الدبابات وأربعة من المشاة المرافقين لهم، أما عدد الجرحى فلم يتم تحديده، وهذا طبعاً حسب الاعتراف الصهيوني. وحين انتهت الحرب، كانت المقاومة قد دمّرت 40 دبابة ميركافا أو 10% من الـ 400 دبابة التي شاركت في الحرب «وهي نسبة مدهشة»، والقول لخبير عسكري أميركي، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن حزب الله لم يستهدف الدبابات باستخدام طائرات الهيليوكوبتر أو المدرعات، بل باستخدام الصواريخ المضادة للدروع بطريقة تتسم، حسب وصف أحد الخبراء العسكريين الأميركيين، «بالابتكار والدهاء الشديدين» (اخذنا على حين غرة، ص: 64). وفي نهاية الحرب، أيضاً، قُتِلَ ثلاثون من طواقم هذه الدبابات، فيما لم يعرف عدد الجرحى (دانيال هيلمير، «ليس تماماً مكافحة التمرد». مجلة الجيش الاسترالي. مجلد 5، رقم 2. ص: 121). طبعاً لا يوجد سبب واحد يجعلنا كعرب نقتنع بأن الأرقام الإسرائيلية عن الخسائر صحيحة ــ هناك تقديرات عربية أن المقاومة دمرت ما يقارب المائة دبابة ومدرعة خلال الحرب، وليس أربعين، وبالتالي إن كان رقم الأربعين مدهشاً، فإن الرقم الحقيقي مذهل حقاً. في النهاية، وبعد ثلاثة وثلاثين يوماً، لم تستطع الكتيبة 162 التي كلفت بالدخول البري إلى شمالي الليطاني (رغم كل المحاولات) من التقدم أكثر من منطقة الغندورية (ص: 55)، وبعد الانسحاب المذل للفرقة خرج «قائدها، جاي تسور، مذهولاً»، وقال للإعلام «حزب الله أفضل منظمة حرب عصابات في العالم» (دانيال هيلمر. ص: 124). طبعاً، العدد المذكور أعلاه من الدبابات المدمرة لا يشمل دبابة الميركافا الأولى التي تم تدميرها بعد عملية أسر الجنديين في 12 تموز مباشرة، ومشهد تدمير هذه الدبابة وحده ربما يساوي كل الحرب ويستحق الرواية. هكذا بدأت الحرب: الميركافا تطير في السماء والمقاومون يلعبون بهم «أتاري» تخيلوا فقط المشهد التالي: أحدث دبابة في العالم مصفحة بخمسة وستين طناً من سبائك الفولاذ والنيكل والسيراميك تطير في الهواء بطول شخصين متوسطي القامة بفعل قوة انفجار عبوة هائلة تحتها تزن مئات الأرطال من المواد شديدة التفجير، ثم تتناثر وتسقط على الأرض قطع لهب مشتعلة. إليكم بعضاً من القصة كما رواها الأعداء بالحرف. بعد عملية الأسر الفذة بحد ذاتها والتي أسفرت عن مقتل ثلاثة جنود، إصابة اثنين، وأسر اثنين آخرين في الجولة الأولى، «أرسل الجيش الإسرائيلي قوة للرد السريع بقيادة واحدة من الدبابات الأكثر تطوراً في العالم، الميركافا. مقاتلو حزب الله، المسلحون بكفاءة كبيرة أثبتوها طوال أيام الحرب، نصبوا كميناً وقعت فيه قوة الرد السريع بسهولة حيث قاموا بتفجير الدبابة الأولى للقوة بعبوة ناسفة تزن مئات الأرطال. طاقم الدبابة المكون من أربعة أشخاص قتل كله على الفور بالإضافة لأحد المشاة الذي قتل من قبل أحد قناصة المقاومة (ليرتفع عدد القتلى إلى ثمانية، وهذا لا يشمل الأسيرين). أما الدبابة الأكثر تطوراً في العالم فلقد طارت في الهواء بفعل الانفجار مرتفعة أكثر من عشر أقدام في الهواء» (دانيال هيلمير، ص: 117). هل يمكنكم تخيّل عبقرية وروعة وجمال المشهد. الدبابة لم تصمم أبداً للطيران، أكثر من خمسة وستين طناً من سبائك الفولاذ والنيكل والسيراميك ترتفع في الهواء بطول شخصين متوسطي القامة! ربما لم يحسب مصممو الدبابة في أسوأ كوابيسهم أن مقاتلي حزب الله لديهم حل عبقري ومبتكر للغاية للتعامل مع أكثر الدبابات تطوراً في العالم، أو أنهم رغم كل التصفيح الذي يجعلها أثقل الدبابات وزناً في العالم سيجعلونها تطير في الهواء وتتفجر كالألعاب النارية (كان سمير قنطار، كما كتب في مذكراته، «قصتي»، محقاً فعلاً حين قال لأحد الضباط في السجن في بداية الحرب أن «المقاومون سيلعبون بكم أتاري»). لكن يبدو أنّ مقاتلي حزب الله لم يشاءوا تدمير الدبابة فقط. يبدو أنهم أرادو لها فعلاً أن تطير في استعراض مدهش وفذّ لعبقرية المقاوم العربي استهدف أساساً من بقي حياً من الجنود، وليس من قتل، في صفعة للعقيدة العسكرية الصهيونية الجديدة. كان هذا استعراضاً ينمّ عن إدراك عميق لمعنى القتال والانتصار، فَهْم يمزج بين الجرأة والشجاعة وآخر ما وصلت إليه الفلسفة الإنسانية، والأهم، إدراك ينمّ عن فهم عميق لعقيدة قتالية تبناها قادة العدو ولم ولن يفهمها جنوده، لكن قادة حزب الله فهموها واستخدموها ضدهم ببراعة ــ هذه هي «الصدمة والرعب» الحقيقية إن أردتم. لكن الأغبياء وزير دفاع الكيان (هل يذكر أحد اسم هذا التافه الآن؟) ورئيس أركانه لم يفهموا الرسالة إلا بعد تكرار المشهد مع أربعين (أو مائة، حسب المصدر) دبابة ميركافا أخرى. خاتمة: تفوّق عقيدة بيت العنكبوت كانت الدراسة الأولى التي صدرت عن حرب تموز، واستندت كلياً إلى معطيات الجيش الصهيوني، هي دراسة أنطوني كوردسمان «نتائج تمهيدية لحرب إسرائيل ــ حزب الله» في 17 آب 2006 عن «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» في واشنطن، وكانت أكثر الدراسات التي لاقت صدى في واشنطن لدى المهتمين. الدراسة، رغم كل قصورها وإنحيازها الفاضح، تستنتج في نقاش مفصل لأهداف الحرب الخمسة، كما أجملها مسؤول عسكري إسرائيلي رفيع لكوردسمان بعيداً عن الأضواء، بأن أياً من هذه الأهداف لم يتحقق (أنطوني كوردسمان. نتائج تمهيدية، ص: 3-9). لكن، بعدها بشهرين نشرت «آسيا تايمز» سلسلة من ثلاث حلقات (12-14 تشرين الأول 2006) بعنوان «كيف هزم حزب الله إسرائيل»، لاقت صدى كبيراً أيضاً. وفي الحلقة الأولى من هذه الدراسة، وبعد التعليق على تردّد كوردسمان في إعلان هزيمة إسرائيل ونقده، يحسم معدو الدراسة آلاستير كروك (محلل عمل مستشاراً للمثل الأعلى للسياسة الخارجية في الإتحاد الأوروبي خافيير سولانا) ومارك بيري (مستشار سياسي في واشنطن ومؤلف كتب عدة حول تاريخ الولايات المتحدة) ليس فقط أن «حزب الله سجّل نصراً كاملاً وقاطعاً في حربه مع إسرائيل» (الجزء الأول، «الانتصار في الحرب الاستخبارية») x، بل يؤكدان أنّ انتصار حزب الله كان، أيضاً، «هزيمة سياسية كارثية لأميركا التي ساندت إسرائيل في الحرب وضربة لمكانتها في المنطقة» (الجزء الثاني: الانتصار في الحرب البرية). لكن، ماذا عن الصهاينة انفسهم؟ في 30 آذار 2007 نشرت «يديعوت أحرونوت» تقريراً إخبارياً بعنوان «قيادة الأجهزة الأمنية تبلغ أولمرت أن الحرب كانت كارثة» xi تتحدث فيه عن لقاء سري عقده أولمرت مع رئيس الموساد «مئير داغان» والشاباك «يوفال ديسكين» بعد الحرب مباشرة. قادة الأجهزة الأمنية، كما نقل التقرير عن كتاب لـِ عوفر شيلح ويوئاف ليمور صدر بالعبرية بعنوان «أسرى في لبنان»، تحدثوا عن «كارثة وطنية» وعن «مشكلة إستراتيجية كبيرة تواجه إسرائيل»، مطالبين بلجنة تحقيق وملمّحين إلى ضرورة استقالة رئيس الأركان دان حالوتس. أما حالوتس، الذي كان مسكوناً بهاجس إثبات أن «إسرائيل» ليست «أوهن من بيت العنكبوت»، فلقد كسرته تماماً لحظة إسقاط طائرة الهليوكوبتر «سي أتش 53» ومقتل كل طاقمها، فصرخ بغضب في غرفة العمليات حين علم بذلك أنه «هزم شخصياً ومهنياً». ما رواه عوزي محنايمي عن قول حالوتس هذا، في كتاب يمكن ترجمة عنوانه «تحقير قوات النخبة يحطم معنويات الجيش الإسرائيلي»، وأعاد سرده م. ماثيو في «أخذنا على حين غرة» (ص: 56) وغيرهم، يجب تصديقه. فحالوتس، هذا، كانت هزيمته قاسية جداً لأنه عرف فعلاً ماذا حصل هناك في الميدان، والأهم فهم معناه جيداً. فلقد قال في 2001 حين كان قائد سلاح الطيران إنّ «الإنتصار مسألة وعي»، وهو بالتأكيد يتفق أيضاً مع ما قاله كوردسمان أنّ «الردع مسألة تصور، لا واقع» (ص: 6). ولهذا فحين يعلم أن جنوده لم يجدوا ما يستطيعون فعله في وادي الحجير سوى «الصلاة لربهم»، أو أن يتخيل ما دار في خلدهم وهم يشاهدون أكثر دبابات العالم تطوراً وتصفيحاً وأكثرها وزناً تطير في الهواء، أو أن يعلم ردة فعل مستوطني الكيان حين سمعوا بسحق لواء النخبة غولاني في بنت جبيل في 26 تموز، ثم يشاهد أداء تلفزيون المنار أثناء الحرب يعيد تشكيل الوعي الإسرائيلي، فلا بد أنه عرف فعلاً أن العرب لم يقاتلوا جيشه جدياً من قبل. وربما فهم فعلاً هذه المرة أن «أوهن من بيت العنكبوت» التي قادته، لسوء حظه، مرة أخرى إلى بنت جبيل كانت أكثر من شعار تعبوي وأكثر من حرب نفسية. كانت ثورة شاملة في الوعي، وكانت عقيدة قتالية فذة مكنت حزب الله من خوض الحرب كلها بكتيبة واحدة فقط، وبأقل من ثلاثة آلاف مقاتل «دون أن يشعر قادته طول فترة الحرب بأي حاجة إلى إسنادها أو لاستدعاء الاحتياط كما فعلت إسرائيل» (كيف هزم حزب الله إسرائيل). ربما آن الأوان، إذن، أن يعترف العرب أن أبلغ وأعظم ما قيل بلغة الضاد لم يكن شعر الأولين والآخرين ولا نثرهم. إنه سطر واحد من كلمة سيد المقاومة المنتصر على أعتى قوة في المنطقة وأحدث النظريات العسكرية في مدينة عربية صغيرة اسمها بنت جبيل في 26 أيار 2000: «إن إسرائيل هذه، التي تملك أسلحة نووية وأقوى سلاح جو في المنطقة، والله هي أوهن من بيت العنكبوت». من كان عربياً حقاً، فليعلمها لأبنائه ويغرسها في وعيهم. في ذلك الخطاب العبقري، أيضاً، يقول السيد: «يا شعبنا في فلسطين، مصيرك بيدك... الخيار عندكم والنموذج ماثل أمام أعينكم». فهل من مجيب. * كاتب عربي
لا يوجد صور مرفقة
|