بقلم: الدكتور ابراهيم علوش ✅
استعرض مقالات الكاتب | تعرف على الكاتب 15-01-2017 - 5972 ما يلي مقتطف من كتاب الدكتور عثمان سعدي من الجزائر،
“الأمازيع عرب عاربة”، الصادر عام 1996 في الجزائر، وعام 1998 في ليبيا.
ود. سعدي من قبيلة النمامشة، أكبر قبيلة أمازيغية، وهو يجيد الأمازيغية
والعربية، وهو مناضل قديم في جبهة التحرير الوطني الجزائرية، حصل على
البكالوريوس من جامعة القاهرة في مصر عبد الناصر عام 1956، وعلى الماجستير
من جامعة بغداد عام 1979، وعلى الدكتوراة من جامعة الجزائر عام 1986. وقد
عمل فترة في السلك الديبلوماسي في سوريا والعراق ومصر، وهو روائي وناقد
أدبي بالإضافة لكونه لغوياً ومفكراً، وهو رئيس “الجمعية الجزائرية للدفاع
عن اللغة العربية” منذ عام 1990، وقد أصدر في الجزائر عام 2007 “معجم
الجذور العربية للكلمات الأمازيغية” الذي يضم تسعة آلاف مدخل، وقد نشره
مجمع اللغة العربية في طرابلس، ليبيا، ويبين فيه أن الأمازيغية ـ البربرية
هي لهجة منحدرة من العربية الأم منذ آلاف السنين كالآشورية والبابلية
والكنعانية والآرامية، وغيرها… ويؤكد أن تسعين في المائة من كلماتها عربية:
عاربة أو مستعربة، كما تقول موسوعة ويكيبيديا على الإنترنت.
أما كتاب “الأمازيغ عرب عاربة”، فقد سبقه عام 1983 كتاب “عروبة الجزائر عبر التاريخ” الذي يثبت عروبة الجزائر والمغرب العربي منذ التاريخ القديم. كتاب “الأمازيغ عرب عاربة” الذي نقتطف منه أدناه “كتاب يؤكد عروبة الأمازيغ البربر ، ويبين أن التشكيك في ذلك هو مناورة للاستعمار الفرنسي الجديد بهدف شق الوحدة الوطنية، واستمرار سيطرة الفرنكفونية على الجزائر وبلدان المغرب العربي: تونس، الجزائر، المغرب، وموريتانيا من خلال هيمنه اللغة الفرنسية على دولها”. ولا بد من الإشارة أن المؤلف يستخدم تعبير “بربر” تكراراً في سياق الحديث عن الأمازيغ. وعلى عكس ما يوحيه البعض، فإن تعبير “بربر” غير تعبير “البرابرة” الذي كان يستخدمه الرومان لوصف غير الرومان، والذي بات يعني الهمجية والتخلف عن ركب الحضارة. أما تعبير “بربر” فشيء أخر مختلف تماماً أصله غير معروف، وهو يستخدم لوصف الأمازيغ السكان الأصليين للمغرب العربي، ذوي الأصول اليمنية كما تدل المراجع التاريخية وكما يوثق د. عثمان السعدي. نقدم هذه المادة في سياق التأكيد على عروبة كل الأرض العربية، وعلى حقيقة الوجود القومي العربي، من العراق وبلاد الشام إلى مصر والسودان إلى بلدان المغرب العربي. فثمة مؤامرة اليوم لوصف الوجود العربي خارج الجزيرة العربية كاحتلال، ولاختراع هويات محلية أصيلة مناهضة للعروبة، وسابقة لها، على ما زعموا، في كل الأقطار العربية خارج الجزيرة العربية. وإذ نقدم هنا صفحات موثقة من عروبة البربر (الأمازيغ) القديمة، فلأن التاريخ القديم للمغرب العربي يتعرض للتشكيك والطعن بعروبته أكثر من غيره، أكثر من العراق وسوريا الكبرى مثلاً، وأكثر من مصر والسودان. والمستشرقون الغربيون حرصوا على اختراع أصول أوروبية للأمازيع (البربر) كجزء من مشروع شطب هوية الوطن العربي القومية والحضارية. ففي موسوعة ويكيبديا على الإنترنت مثلاً تجد بالإنكليزية تحت مدخل “بربر” تعريفاً يقول أنهم قومٌ أقرب للأوروبيين منهم للساميين والعرب. وهو الأمر الذي يهدف لسلخ المغرب العربي الكبير عن أمته. فإذا أثبتنا أن الأمازيع (البربر) عربٌ أقحاح، فإن إثبات عروبة الباقي، من مصر للعراق لسوريا للسودان لأريتريا (التي يأتي ذكرها هنا) يصبح أمراً أسهل منالاً. ونشجع كل عروبي أصيل أن يبحث عن المواد التي تثبت عروبة القطر أو المنطقة التي يأتي منها، من البحرين إلى المغرب، وأن ينشر هذه المواد على أوسع نطاق، ولو كان الأمر يتعلق بشجرة عائلته، أو تاريخ عشيرته أو قريته… وقد ظن بعض الإسلاميين عن حسن نية ربما أن من الأفضل شطب التاريخ العربي قبل الإسلام، باعتباره تاريخاً جاهلياً، فاعتبر أن التاريخ يبدأ مع الإسلام فقط، وهي النزعة التي شجع على انتشارها عن سوء نية بعض الشعوبيين أيضاً من مدعي الإسلام المعادين للعرب. لكن هذا المنطق السطحي الذي يتجاهل دور العروبة والعرب واللغة العربية في الانتشار السريع للإسلام في أرجاء الوطن العربي وخارجه، وفي جعل العرب مادة الإسلام، وفي جعل العربية لغة الإسلام، وفي جعل معركة القادسية امتداداً لذي قار، وفي جعل معركة بلاط الشهداء وفتح الأندلس امتداداً منطقياً لتطويق البطل العربي هنيبعل للإمبراطورية الرومانية عبر جبال الألب السويسرية، هذا المنطق السطحي الذي يفصل تاريخ العروبة قبل الإسلام بشكل تعسفي عن تاريخ العروبة بعد الإسلام هو بالضبط ما يجعل بعض الأفاقين والمغرضين اليوم يعتبرون الفتح الإسلامي “احتلالاً”، لا تحريراً من الفرس والروم وتوحيداً للأمة. وسنقدم في الحلقة القادمة من سلسلة التثقيف القومي إن شاء الله مادة بعنوان “الفتح الإسلامي ليس غزواً” عن عروبة بلاد الشام والعراق قبل الإسلام. أما هنا فيقدم الأستاذ عثمان السعدي خلاصةً جميلة عن تأثير الفينيقيين بالبربر، فتظن للحظة أنه يربط عروبة البربر بتأثرهم بالفينيقيين قبل حوالي ألفي عام، ليعود بعدها ليقدم الدلائل على عروبتهم وعروبة لغتهم منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام، مما يفسر لمَ تفاهم الأمازيع مع الفينيقيين وتحاربوا مع الرومان، ولو كانوا من أصول أوروبية، كما يزعم المستشرقون، كان يفترض أن يحدث العكس تماماً! باختصار الأمازيغ جاؤوا من اليمن، قبل ثلاثة آلاف عام، ولغتهم ترتبط مع اللغة العربية القديمة بوشائج متينة. تلك هي الخلاصة لمن لا يرغب بالخوض بالتفاصيل. فهذا الوطن وطنٌ واحدٌ منذ آلاف السنين، وهو الوطن العربي، موطن الأمة العربية. والتوحيد نزعة عربية أصيلة. فالإسلام ازدهر في هذه الأرض لأنها تهيأت تدريجياً لاحتضانه قبل قرونٍ من المولد النبوي، كما يوضح الأستاذ ميشيل عفلق في “ذكرى الرسول العربي”. أما المسيحيون العرب، فيُظهِر د. عثمان السعدي أنهم كانوا في المغرب العربي ذوي نزعات إسلامية توحيدية معادية للرومان منذ ما قبل الإسلام، وهي القصة نفسها التي نجدها عند مسيحيي بلاد الشام والعراق ومصر. الأمازيغ عرب عاربة عثمان سعدي من هم الأمازيغ (البربر)؟ مدخل يكثر الحديث في هذه الأيام عن البربر: عن أصلهم، عن لغتهم، عن تاريخهم مع العرب ومع العربية ومع الإسلام، وأنا هنا أستعرض تاريخ المسألة البربرية، عبر مراجع فرنسية لتعزيز رأيي الوارد في الكتاب، والمتمثل في أن البربر من العرب العاربة، استقروا في المغرب ضمن هجرات سابقة للفتح الإسلام ي، على أساس أنهم ساميون، أي من العرب القدامى؛ بسبب بطلان التسمية السامية لتاريخنا، بإجماع المؤرخين، هذه التسمية التي أطلقها المستشرق اليهودي النمساوي ” شلوتزر SHLOTZER ” في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، ويستبدل المؤرخون مصطلح الساميين بالأقوام العربية القديمة أو العروبية. إن البربر يعيشون في حوض حضاري، ولا أقول ( عرقي )، يقع في هذا الامتداد الجغرافي، من سلطنة عمان شرقا على المحيط الهندي، إلى موريتانيا على المحيط الأطلسي غرباً، وكان هذا الامتداد مسرحا لمد بشري، منذ عشرات آلاف السنيين، في الاتجاهين: من المغرب إلى المشرق، ومن المشرق إلى المغرب. فالمؤرخ الفرنسي ” غوتييه E. F. GAUTIER” في كتابه : “ماضي شمال إفريقيا”، يرى أن “الاحتمال الكبير هو أن الإنسان الذي عمّر وادي النيل هاجر من الصحراء الكبرى”. (E.F. Gautier: Le Passe de l’Afrique du Nord, p.23). كما أن ششنق الأول البربري اتجه سنة 950 قبل الميلاد، من المغرب العربي الذي كان يسمى ليبيا ذلك الوقت، وحكم مصر الفرعونية، وأسس البربر الأسرتين الفرعونيتين الثانية والعشرين والثالثة والعشرين. كما انطلق البربر من بلاد القبائل بالجزائر وأسسوا الدولة الفاطمية، و بنوا القاهرة. إذن فأن البربر يعيشون وسط هذا الحوض الحضاري الكبير الذي عرف تبادل الهجرات منذ التاريخ القديم. ومن الغريب أن ( البربريست)، [أي أصحاب النزعة البربرية الشعوبية المعادية للعرب- الناسخ]، افتعلوا ما يسمى بالتقويم البربري بمناسبة توجه ششنق إلى مصر، وسموه التقويم الششنقي، فزيفوا التاريخ، وحولوا هذه المناسبة من عنصر تاريخي موحد بين مشرق هذا الامتداد الجغرافي ومغربه، إلى عنصر مكرس لانفصالهما. ويطالب ” البربريست ” باعتماد هذا التاريخ كرأس للسنة البربرية، والاحتفال به كعيد وطني، مقابلا لعيد المولد النبوي الشريف. بينما لا يعرف تاريخ البربر هذا النوع من التقويم. البربر والعرب القدامى أن بعض المؤرخين مثل أحمد سوسة العراقي، ” وبيير روسيه P. ROSSI ” الفرنسي، يرون أن الموجات البشرية الخارجة من الجزيرة العربية هي التي عمرت الشمال الإفريقي وحوض البحر الأبيض المتوسط بشماله وجنوبه، وذلك منذ بدء المرحلة الدافئة الثالثة وورم 3 (Warm) في التاريخ الجيولوجي للأرض، أي قبل عشرين ألف سنة، والتي نجم عنها ذوبان الجليد في أوروبا وحوض البحر المتوسط، وزحف الجفاف على شبه الجزيرة العربية، التي كانت تنعم قبل بدء هذه المرحلة، بمناخ شبيه بمناخ أوروبا حالياً. وتعتبر هجرة الفينيقيين إلى المغرب واحدة من هذه الهجرات المتأخرة للأقوام العربية من الجزيرة العربية التي سُبقت بهجرات سابقة لها، لم يسجلها التاريخ كما سجل هجرة الفينيقيين. وتنقُّل الفينيقيين من الجزيرة العربية إلى بلاد الشام، ومن بلاد الشام إلى المغرب العربي، جاء عفوياً ليؤكد تبادل هذا المد البشري في هذا الحوض الحضاري الكبير. ويؤكد المؤرخون العلماء الأوروبيون، من خلال استقراءاتهم لعلم الآثار والنقوش والكتابات القديمة المكتشفة، أن استيطان الفينيقيين – منذ منتصف الألف الثانية قبل الميلاد ( أي منذ 3500 سنة ) – هو الذي مهد لسهولة قبول البربر للغة العربية والدين الإسلامي في القرن السابع الميلادي. ويرون أن اللغة البونيقية Punic Language التي هي عربية قديمة استمرت قائمة بالمغرب العربي كلغة ثقافة وحضارة ودواوين، حتى بعد تدمير قرطاج، وخلال الاستعمار الروماني، وإلى أن دخل العرب المسلمون؛ فحدث الوصل بين البونيقية التي هي عربية قديمة وبين العربية التي هي لغة حديثة طورها القرآن الكريم والإسلام. [البونيقية لهجة من لهجات اللغة الفينيقية، كانت سائدة في شمال أفريقيا، والفينيقية لهجة كنعانية، وهي بالتالي من جدات اللغة العربية. واللهجة الفينيقية الكنعانية كانت سائدة في لبنان وساحل سوريا ومنطقة الجليل في فلسطين وفي… مالطا. واللغة المالطية الحديثة بالمناسبة خليط من اللغة العربية والإيطالية والإنكليزية، وتكتب بالحرف اللاتيني، لكن أساسها لغة سامية عربية – الناسخ]. كما أن هؤلاء المؤرخين يرون أن الديانة الفينيقية، أي القرطاجنية التي اعتنقها البربر، المؤسسة على شبه توحيد، هي التي جعلت نفوس البربر جاهزة لاستقبال الدين الإسلامي بهذه السهولة، بل وبهذه العفوية. إن إمبراطورية قرطاج، وحضارة قرطاج الراقية، التي استمرت سائدة في حوض البحر المتوسط وفي العالم، عدة قرون، تأسست نتيجة للتزاوج بين شعبين عربيين: الشعب الفينيقي القادم من لبنان، والشعب البربري الذي كان موجودا بالشمال الإفريقي، إلى أن جاء العرب المسلمون فأقاموا عملية الوصل بين حلقتي الحضارة العربية. وسأعرض نصوصاً لمؤرخين فرنسيين، متخصصين في الدراسات البربرية والسامية، تؤكد هذه الحقيقة. فمحررو (مادة الجزائر) في الموسوعة الفرنسية ( يونيفيرساليس UNIVERSALIS) يقولون: “بدأ تاريخ المغرب الأوسط بوصول الفينيقيين الذين سجلوا حضارتهم كأول حضارة بالمدن، حيث تركت بها آثاراً مكتوبة، فأسسوا مبكراً، في القرون الأخيرة للألف الثانية قبل الميلاد، مراكز تجارية. وتطور الفينيقيون إلى قرطاجنيين، ولم يستعمروا داخل البلاد، ولكنهم طوروا هذه المدن الساحلية التجارية، والتي استمرت قائمة حتى بعد تدمير قرطاج، تحمل تسميات سامية كمدن راسكو رو (دلس)، وروس كاد (سكيكدة)، وروس قونية (ماتيفون)… وكان الرؤساء البرير المسيطرون على داخل البلاد حلفاء وزبائن تجاريين للقرطاجنيين، يمدونهم بفرق عسكرية، وبخاصة بالفرسان النوميديين المشهوريين، وبالفيلة الحربية والجنود. وانتشرت اللغة البونيقية (اللهجة الفينيقية الكنعانية السائدة في شمال أفريقيا – الناسخ) والحضارة الفينيقية بعمق في البلاد وظهرت مدناً للأهالي، وأضرحة ومزارات دينية، بنيت أحياناً من طرف فنيين قرطاجنيين. . . وهكذا فقد كان البربر تلاميذ للفينيقيين الذين علموهم أساليب زراعية وصناعية، كصناعة الزيت، والنبيذ، وصناعة الأدوات من النحاس؛ وعلموهم على الخصوص ديانتهم. واستمر البربر يعبدون آلهة قرطاج، حتى أثناء الاحتلال الروماني، لدرجة أن بعض المؤرخين يرون أن المسيحية، ثم الإسلام، لم يُقبلا من البربر، بهذه السهولة، إلا بسبب دخول هذه الديانة القرطاجنية المغرب، التي هي ديانة سامية. واستمرت اللغة البونيقية متداولة حتى بعد القرن الثالث الميلادي، حيث لعبت دور الوصلة إلى اللغة العربية” (Encyclopeadia Universalis، T1، P633) دخول البربر العصر الحضاري: لقد خرج البربر من العصر الحجري الحديث، ودخلوا التاريخ والعصر الحضاري عن طريق أخوانهم الفينيقيين. فالمؤرخ الفرنسي المتخصص في الدراسات البربرية رونيه باسيه R. Basset يورد حقائق تؤكد ذلك، فيقول: “إن اللغة البونيقية لم تختف من المغرب إلا بعد دخول العرب. ومعنى هذا أن هذه اللغة بقيت قائمة، هذه المدة بالمغرب، لتسعة عشر قرناً، وهو أمر عظيم… لقد استمر تأثير مدينة قرطاج قائماً حتى بعد تدميرها، فقد تحولت (سيرتا) تحت حكم الملوك النوميديين البربر إلى مركز بونيقي، بل أن اسم سيرتا هو (قرطا)، أي المدينة بالبونيقية… لقد علم القرطاجنيون البربرَ الزراعةَ. فالبربر يكسرون الرمانة على مقبض المحراث، أو يدفنونها في أول خط للحرث، تفاؤلاً بأن سنابل الحبة المبذورة ستأتي كثيرة بعدد حبات الرمانة. وهي عادة مستمدة من ثقافة قرطاج، فالرمانة لديهم رمز للخصوبة. وتعتبر قرطاج مربية للبربر، فقد علمتهم كيفية الاعتناء بالزيتونة التي كانت موجودة بالمغرب كشجرة وحشية وكيفية استخراج الزيت منها. ويفصل “غزيل” Gsell هذه المسألة لغوياً فيقول: [إن كلمة أزمور بالبريرية تعني الزيتونة الوحشية وهو الاسم البربري لهذه الشجرة. أما إذا تكلموا عن الزيتونة الملقمة أطلقوا عليها الاسم السامي (الزيتونة)، وعلى سائلها اسم الزيت…]. كما علم الفينيقيون البربر زراعة التينة التي كانت قبلهم موجودة بالمغرب كشجرة وحشية أيضا، وعلموهم زراعة الكرمة، والرمانة، وعلموهم عموما فن زراعة الشجر المثمر. وقد تبين لنا الآن أن البربر كانوا على اتصال بالفينيقيين منذ ما قبل التاريخ… وعلم الفينيقيون البربر الصناعات القابلة للتصدير كالسيراميك، وصناعة المعادن، والنسيج والمجوهرات: كالخلاخيل، والتيجان، والخلالات (المشابك)، التي تصنع في صورة كف مبسوطة الأصابع. والتشابه واضح بين مجوهرات القبائل (بالجزائر)، والسوس (بالمغرب)، وبين المجوهرات القرطاجية. أما ديانة قرطاج فهي التي كانت منتشرة بالمغرب كالإله (بعل عمون)، والإلهة (تانيت)، وكان هذا الإله منتشرا بالعالم العربي كله، الأمر الذي أورد اسمه القرآن بالآية : (أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين)، لدرجة أن انتشار الإسلام بشمال أفريقيا عائد إلى ما فعلته قرطاج في هذه البلاد… أما عن اللغة فقد جعل الملوك النوميديون البربر، في العهود الأخيرة، من البونيقية لغتهم الرسمية، لدرجة أنه كان الناس في بلاد البربر، وفي المدن على الخصوص، يتحدثون البونيقية أكثر من البربرية، وحتى في العهد الروماني… إن المناطق التي انتشرت فيها البونيقية أكثر هي التي تعربت بالكامل. والبونيقية لغة قريبة من العربية التي ما أن دخلت المغرب حتى خلفت البونيقية وبسهولة، كما أن آلهة قرطاج هي التي مهدت لانتصار الإسلام في هذه البلاد، واللغة القرطاجنية عبدت الطريق للعربية… وخلاصة القول أن قرطاج لم تجلب سوى الخير للبربر، فقد علمتهم غرس الأشجار المثمرة، وربتهم روحياً ودينياً. ومن الغريب أن هذا التأثير تعمق أكثر بعد تدمير قرطاج. لقد دمرت روما أسوار قرطاج لكنها فشلت في تدمير تأثيرها في نفوس البربر، بل إنه كلما تأسس احتلال روما للمغرب كلما انتشرت وتعمقت في نفوس البربر لغة قرطاج وعقائدها. وهل يختلف الوضع الآن عنه آنذاك؟!!!!”. (Rene Basset: Les Influences Puniques chez les Berberes, Revue Africaine, V.62 (1921), p.340) لنلاحظ مغزى هذا السؤال الذي طرحه المؤرخ الفرنسي، فهو يريد أن يقول أنه كلما تغلغل الاستعمار الروماني في الأرض المغربية ازداد المغاربة تشبثا بالبونيقية، وبالديانة القرطاجانية، في الماضي، وكلما ازداد الاستعمار الفرنسي تغلغلا الآن في الأرض المغربية ازداد البربر تشبثاً بالعربية وبالإسلام. إنه يريد أن يقول باحتشام: أن التاريخ يعيد نفسه. هذا ما كتبه هذا المؤرخ الفرنسي، إنه يؤكد الأصل العربي للبربر، من الحفريات والكتابات الأثرية، التي اكتشفها علماء الآثار الفرنسيون والأوروبيون بالمغرب العربي. [يُشار إلى أن مملكة نوميديا البربرية التي سادت في الجزائر وجزء من تونس بين عامي 202 و46 قبل الميلاد كانت قد تحالفت مع القائد الفينيقي العربي العظيم هنيبعل ضد الرومان، وزودته بخيالة محترفين من الدرجة الأولى، بالرغم من أن بعض قياداتها تآمر مع الرومان. كما أنها خضعت بدورها للاحتلال الروماني، واستوعبت كثيراً من المهاجرين القرطاجنيين بعد الهزيمة، وقاتلت الرومان في أكثر من حرب، بعد مئة عام من هنيبعل – الناسخ]. ويؤكد مؤرخ آخر فرنسي هو ” سانتاس P. CINTAS فيقول: “لقد بينت الكتابات البونيقية المكتشفة بالمغرب، والتي تحمل تاريخ 162و147 قبل الميلاد ( أي تحت حكم ماسينيا ) مدى ارتباط الأهالي بقرطاج دينياً من خلال عبادتهم لبعل عمون، الإله القرطاجي، وهذا يؤكد السيطرة المستديمة للديانة القرطاجية على السكان المحليين. أريد التحدث عن استمرار البونيقية، فقد بقيت منتشرة بالمغرب بعد تدمير قرطاج وفي العهد الروماني، وحتى بعد القديس أوغسطين الذي ذكر مراراً أن السكان الذين كانوا يحيطون به يتكلمون البونيقية. إن اللغة البونيقية استمرت بين بعض البربر كلغة ثقافة… بل أن الدوناتية مقدمة لإلغاء الإسلام للمسيحية، وللثقافة الرومانية بالمغرب. ويقول غوتييه: أن اوغسطين عندما كان يسأل هؤلاء الأهالي في دروسه الواعظة، ما هو أصلكم ؟ كانوا يجيبونه : نحن كنعانيون“. (P. Cintas: Ceramiques Puniques, Paris 1950. Revue Africaine, Vol. 100, 1956) والكنعانيون هم الفينيقيون. ويذكر المؤرخ الفرنسي رينان “E. RENAN” “أن البربر اعتنقوا الإسلام بسهوله، لأنهم كانوا يعرفون البونيقية“. (E. Renan: Histoire Generale des Langues Semitiques 7eme edition, p.199) ويذكر غوتييه “أن استعمال البونيقية كان سائداً في كثير من نواحي المغرب الشرقي حتى القرن الخامس الميلادي”. ويؤكد المؤرخ ” وليام مارسي W. MARCAIS” “أن البونيقية كانت لغة الدوناتيين، ويأسف القديس أوغستين لأن فلاحي المنطقة التي كان يعيش فيها (عنابة) كانوا لا يجهلون تقاليد الكنعانيين والمورو، ويقول: عندما نسأل فلاحينا من أنتم؟ يجيبوننا بالبونيقية. نحن كنعانيون. كما أن القديس أوغستين لم يشر أبدا إلى اللغة البربرية”. إن معنى هذا أن لغة الكاثوليك، المذهب الرسمي للاستعمار الروماني، وبالتالي لغة القديس أوغسطين، كانت اللاتينية، وأن لغة المذهب الدوناتي مذهب الشعب بالمغرب العربي، كانت البونيقية. وقد ظهر هذا المذهب المسيحي في المغرب في القرن الرابع الميلادي، على يد الأب دونا الذي كان يسميه الرومان (دوناتوس) الذي توفي سنة 355م. وارتكز هذا المذهب على عنصرين أساسيين، الأول: اعتماد التوحيد ورفض الثالوث الذي يرى فيه بدعة دخيلة على المسيحية. والعنصر الثاني : اعتماد الدين المسيحي كدين جاء لرفع الظلم عن المظلومين، ولهذا فلا بد أن يساعد المغاربة على تحريرهم من الاستعمار الروماني. وهذا هو الذي جعل المؤرخ الفرنسي سانتاس يقول: “كانت الدوناتية مقدمة لإلغاء الإسلام للمسيحية، والثقافة الرومانية بالمغرب“. والمعروف أن الأب دونا سجنه الرومان بل ومات في سجنهم. دون أن تعتبره الكنيسة ومؤرخوها في ذلك الوقت، شهيدا للمسيحية، فتضيف لاسمه كلمة القديس. والمعروف أن الأب دونا استشهد في نفس السنة التي ولد فيها القديس أوغسطين، الذي سبق أن كتبت رأيي فيه وهو أنه كان عميلاً كبيراً للاستعمار الروماني، سخر المسيحية ضد نضال شعبه البربري من أجل التحرر من الاستعمار، وحرض السلطة الاستعمارية على الغاء الدوناتية، واضطهاد أتباعها والإلقاء بأساقفتها في السجون سنة 411م، حيث ماتوا فيها. واستمر أتباع هذا المذهب يمارسونه في الخفاء إلى أن جاء الإسلام فوجدوا فيه ضالتهم فاعتنقوه… وقد كانت القبائل البربرية قبل الإسلام، تمارس طقوس الديانة البونيقية باعتراف الكاتب البربري المشهور (أبوليوس) الذي كتب باللاتينية، والذي اعترف بأن أباه كان مسيحياً، وأمه وثنية. ومعنى ذلك أيضا أن البونيقية كانت قبل الفتح الإسلامي، تقوم بنفس الوظيفة التي صارت تقوم بها اللغة العربية، بعد الفتح الإسلامي. وأن دخول العربية جاء ليخلف البونيقية، بأسلوب تطوري طبيعي، من لغة عربية قديمة إلى لغة عربية حديثة، طورت على يد الإسلام. ويستمر المؤرخ مارسييه فيقول “أن فاليروس VALERUS قال: سمعت الفلاحين يثرثرون بلغة أجهلها، ويرددون كلمة (ثالوث Salus)، وعندما سألتهم عن معناها أجابوني: معناها (ثلاثة). والملاحظ أن القديس أوغسطين لم يشر أبدا إلى اللغة الليبية (البربرية). وعندما هربت العذراء (ديميترياس) من روما بعد احتلالها من طرف الغوت، علق القديس جيروم Saint Jerome ( 347 420 م )، على دخولها الرهبنة المسيحية بقوله: من يتبع عرسك غير أصوات مصرصرة باللغة البونيقية، تودعك بفاحشة مقيتة… ( ويقصد بكلمة ستريدور Stridor) اللاتينية الزغرودة البونيقية التي ترافق الزفاف”. (William Marcais: Revue Africaine, T:94 (1950) p.280) وهذا يشير إلى ان الزغرودة المعروفة بالوطن العربي مشرقا ومغربا، هي عادة عربية قديمة كانت مستعملة لدى الساميين (العرب القدامى). ويروي الكاتب النوميدي البربري المشار إليه قبل قليل، أبوليوس (125-180م ) في كتابه دفاع Apologie “أن ربيبه سيسينيوس كان لا يعرف اليونانية، ويجهل اللاتينية، أو يرفض استعمالها، وكان لا يتكلم إلا البونيقية”. وسيرد في الكتاب رأي المؤرخ المصري رشيد الناضوري، حول علاقة البربر بالفينيقيين ومصر الفرعونية. ولا ينبغي أن يتملكنا العجب من التأثير الفينيقي في المغرب، فقد بدأ يظهر بالغرب المؤرخون الذين يؤكدون الأصل العربي القديم للحضارة اليونانية، مثل بيير روسيه الفرنسي الذي سيرد تحليل لكتابه في هذا الكتاب. وأود أن أشير إلى آخر ما صدر في المكتبة الأوروبية، وهو كتاب ( أثينا السوداء : الجذور الأفريقية الآسيوية للحضارة الكلاسيكية ) للكاتب الانكليزي المولد، الأمريكي الإقامة ( مارتن برنال M. Bernal)، الذي طبع بلندن سنة 1991. فقد قال : ” لابد لنا من أن نعيد التفكير في أسس الحضارة الغربية، وفي التسليم بدور النزعة العرقية الأوروبية في كتابة وفلسفة التاريخ، وبأن أوروبا هي العالم، وبأن العقل هو العقل الأوروبي، فقد سادت أوروبا موجة عالية من الأثنية والعنصرية”. ثم يتكلم عن التأثير السامي (العربي القديم) في اليونان، فيقول : “إن الوثائق المسجلة التي وصلت إلينا من منطقة إيجا، هي ألواح مكتوبة بالإغريقية، ويرجع تاريخها إلى القرنين الرابع عشر والثالث عشر قبل الميلاد، وتشتمل على كلمات مستعارة من السامية، وعلى الكثير من الكلمات المصرية، وثمة أوجه شبه مذهلة بين مضمون هذه الوثائق وبين عديد من المسائل الاقتصادية مثل المكاييل والموازين، التي كانت سائدة في المشرق وفي بلاد مابين النهرين… إن المصريين والفينقيين أقاموا المدن والمستوطنات في اليونان القديمة، وأدخلوا فيها نظام الري. الفينيقيون هم الذين علموا اليونان القدماء الأبجدية، بينما علمهم المصريون الدين وأسماء الآلهة وكيف يعبدونها. أي أن الإغريق كانوا يمارسون طقوساً وشعائر مصرية في معابدهم، أو لنقل بعبادة أخرى أن منظورهم إلى العالم لم يكن أوروبياً… وتدعم هذه الاكتشافات رواية الإغريق القدماء من أن كيكرويس مؤسس مدينة أثينا قد أتى من مصر، بل اسم أثينا اسم مصري. فقد كان المصريون يسمون بلدهم (أثيناي)، وهو الاسم الديني لبلدة سايس، العاصمة المصرية. وجدير بالذكر أننا نجد تماثيل للإلهة أثينا سوداء، أي مصرية إفريقية. إذن فقد كان لمصر وللساميين الغربيين دور يقيني في تشكيل بلاد الإغريق. فقد استوطن المصريون بلاد الإغريق من موقع السيادة السياسية والثقافية. ويذكر أن أفلاطون يقرر في محاورة طيماوس، أن هناك علاقة نشوئية بين مصر واليونان… إن اللغة اليونانية هي أساسا لغو هندوأوروبية، لكن أكثر من خمسين بالمائة من معجمها كلمات مصرية فينيقية، وخاصة فيما يتعلق منها بعلم الدلالات (السيمنطيقا)، وتطورها ومفردات الترقية، والعلاقات السياسية، لا الأسرية، والقانون والدين والمجردات فإنها ليست هندوأوروبية. فهي أي اللغة اليونانية، بوصفها هذا نتاج لاستعمار مصري فينيقي. لقد تكونت اللغة اليونانية خلال القرنين السابع عشر والسادس عشر قبل الميلاد، وهي ذات بنية هندوأوروبية، ومفردات أصولها مصرية وسامية غربية… قليلة جدا هي أسماء الأماكن والبلدان اليونانية التي يمكن تفسيرها على أساس هندوأوروبي. وأن عددا كبيرا جدا من أسماء البلدان والمعالم اليونانية هي من أصل سامي أو مصري. مثل نهر ياردانوس في كل من كريت وبليبونيز، وهو مشتق من ياردا أو (الأردن). واسم ( أنيجروس ) مصدره جذر سامي: نجر، بمعنى فاض. ونراه كثيرا متضمنا معنى واحة أو نهر وسط الصحراء في كثير من بلدان شرق آسيا، وشمال أفريقيا (نهر النيجر)… ومثل أسماء الجبال والمجردات والجوامد، مثل ذلك الجذر ( سام ) الذي يتكرر في غالبية الأسماء الإغريقية مثل ساموس وسامكون… الخ. وهي أسماء مشتقة من الجذر السامي ( سام بمعنى مرتفع ). أما مدينة أسبرطة اليونانية فقد تمصر مجتمعها فيما بين 800 و500 قبل الميلاد، وأسمها مستمد من موقع جغرافي مصري (سبيت، أوسبرت، بمعنى حي أو مقاطعة أو عاصمة). بل أن أسماء الأساطير اليونانية هي أسماء مصرية مثل (أغا ممنون)، وهو مشتق من كلمتين مصريتين أغا بمعنى عظيم، وممنون وهو أمنحوت أو أمنمحعت… [ومن هنا “ممنون” بالعامية العربية – الناسخ]. ويختم المؤلف كتابه بقوله: أن هذا الكتاب هدفه فتح مجالات بحث جديدة، لذوي الأهليات الأفضل والأكثر تميزا، ثم الحد من غطرسة الثقافة الأوروبية”. (Martin Bernal: Black Athena, The Afroasiatic Roots of Classic Civilization, London, 1991) ولنلاحظ أن هذا المؤرخ يدمج بين المصريين والفينيقيين في الأصول اليونانية القديمة، وهذا يؤكد أن المصريون ساميون أي عرب قدامى، وأن الحضارة المصرية سامية أي عربية قديمة وهو ما أكده المؤرخ الليبي علي فهمي خشيم. (علي فهمي الخشيم: آلهة مصر العربية، الجزء الثاني، ليبيا 1990( ويعبر الشيخ البشير الإبراهيمي عن هذا كله بحدسه وإحساسه، لأنه لم يكن مطلعا على هذه الكتابات، منطلقا من ثقافته العربية القديمة الواسعة، ومن اطلاعه بل وحفظه عن ظهر قلب لمعجم اللغة العربية، فيقول: “إن عروبة هذا الشمال الأفريقي، جرت في مجاريها طبيعية مناسبة لم يشبها إكراه، وإنما هي الروح عرفت الروح، والفطرة سايرت الفطرة، والعقل أعدى العقل، وكأن هذه الأمم التي تغطي الأرض قبل الاتصال بالعرب، كانت مهيأة للاتصال بالعرب، أو كأن وشائج من القربى، كانت مخبوءة في الزمن فظهرت لوقتها، وكانت نائمة في التاريخ فتنبهت لحينها”. إذن فأن كل الدلائل تشير إلى أن البربر عرب في أصولهم، وأن اللغة البربرية لهجة من لهجات العربية القديمة (أي لما يسمى خطأ باللغة السامية): كل المتخصصين في الدراسات البربرية أثبتوا أن البربرية واحدة من اللغات السامية (أي العربية القديمة)، فقد تكون مشتقة من اللغة البونيقية، مثلما يرى صراحة المؤرخ الفرنسي للحضارة العربية “غوستاف لوبون”. وكل المكتشفات الأثرية المتعلقة بالنقوش والكتابات القديمة، تبين أن البربر أقرب إلى الحِمْيَريِين [من حضارة حِمْيَر في اليمن – الناسخ]. إن هجرات عديدة تمت من الجزيرة العربية إلى شمال أفريقيا. فالهكسوس مثلا شعب هاجر من الجزيرة العربية واستقر في مصر في الفترة مابين 1730 و 1570 قبل الميلاد. وهي من هذه الهجرات السامية التي سجلها التاريخ. فالمؤرخ التونسي عثمان الكعاك يرى : “أن البربر قدموا من الجزيرة العربية، في زمن لا يقل عن ثلاثين قرنا قبل الميلاد. وأن الفينيقيين اختلطوا بالبربر على طول السواحل الإفريقية المغربية، في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، ولما كان البونيقيون عربا من بني كنعان، فقد اختلطوا بالبربر، الذين هم عرب من العاربة القحطانية”. ويؤكد المؤرخون أن مدينة سوسة بتونس بناها العرب القادمون من جنوب الجزيرة العربية، قبل أربعة آلاف سنة، وأعطوها اسم (حضرموت). ويسجل المستشرق الألماني رولسلر التشابه بين الأكادية والبربرية. (O. Rosler: Za, 50 (1952). Orientalia 20 (151)) بل أن محمد كاتي الذي هو من مدينة ( تنبكتو ) بمالي، يقول في كتابه (طارق الفتاش)، الذي تُرجم إلى الفرنسية في باريس سنة 1913، يقول في صفحة 25: “إن القبائل الساكنة على ضفاف نهر النيجر، حتى المحيط الأطلسي، جاؤوا من اليمن”. والذي يؤكد ارتباط البربرية بالحميرية، أن وزن ( أفعول ) الذي تشتهر به البربرية، هو وزن حميري اشتهرت به هذه اللغة. فقد نشر الباحث اليمني القاضي إسماعيل بن علي الأكوع مقالا بمجلة المجمع العلمي السوري ( عدد نيسان – 1986) تحت عنوان (الأفعول وما جاء على وزنه في اليمن). كما كتب الأستاذ مظهر الإيرياني في مقال حول (نقش جبل أم ليلى) وردت فيه ثلاث صيغ على هذا الوزن، وهي أسماء لفروع لقبيلة خولان باليمن القديم، وسجلت بالخط المسند وهي : أحنُّوب أعبُّوس أحبُّوس ويلخص الكاتب الفرنسي فلوريان التطابق الكامل بين العرب والبربر، فيما يلي : “أصل مشترك، لغة واحدة، عواطف واحدة، كل شيء يساهم في ربطهما ربطا متيناً”. أما عن تسمية البربر، فالنقوش الأثرية المكتشفة تشير إلى أن كلمة بربر وجدت في اليمن. فجزيرة بربرة جزيرة تابعة لليمن توجد في مضيق اليمن. كما وجد اسم قبيلة البر مكتوبا بالخط الصفائي. ويقول محمد شفيق، من المغرب الأقصى، وهو متعصب للبربرية: “كتب المؤرخون العرب وجزموا بأن البربر من أصل يماني من العرب العاربة، وتكمن فكرة التأكيد اليوم على القرابة القديمة المحتملة بين الأمازيغيين واليمانيين، في ثلاث قرائن: أولاً: أن عددا لا بأس به من أسماء الأماكن، على الطرق الذي يمتد من المغرب الكبير واليمن لها صيغ أمازيغية واضحة. منها في صعيد مصر (أبنو، أسيوط)، وإيخيم وتيما في جبل حوران في سوريا، وتيما في شمال السعودية، وتاركما، وأتبار وتيمرايين في السودان، وأكسوم، بأسمرا، وأكولا، وأكوؤدات ( أكوؤضاد )، في أريتريا، وجزيرة أنتوفاش في اليمن. ثانياً: لقد عثرت على عدد من الألفاظ العربية التي قال بشأنها صاحب لسان العرب، أنها حميرية، أو يمانية، وهي الألفاظ التي لها وجود في الأمازيغية، إما بمدلولها الحميري، أو بمدلول معاكس (الأضداد). [درج العرب القدماء على وصف الأشياء بأضدادها – الناسخ]، ثالثا : بين حروف التيفيناغ القديمة، ومنها التوارقية، وبين حروف الحميريين ( الأبجدية الحميرية – المسند ) شبه ملحوظ”. (محمد شفيق: لمحة عن ثلاثة وثلاثين قرناً من تاريخ الأمازيغيين، عن كتاب عروبة البربر). وتوجد أسماء باليمن متطابقة مع أسماء لقبائل بربرية كالأشلوح: اسم قرية وقبيلة باليمن، والشلوح تجمع كبير للقبائل البربرية بالمغرب الأقصى. والأكنوس، عشيرة من بني مهاجر باليمن، ومكناسة بالمغرب. ومما يؤكد عروبة البربر، أن المغرب العربي لم يُحكم بالخلافتين الأموية والعباسية، فقد أنفصل منذ وفاة عمر بن عبد العزيز، وحكم البربر المسلمون أنفسهم بأنفسهم منذ ذلك التاريخ، من خلال أكثر من عشر أسر بربرية حكمت المغرب العربي حتى مجيء الأتراك، ولم يحدث أن قال حاكم واحد من هؤلاء أن المغرب بربري، وأن العربية لغة دخيلة، ولا بد من ترسيم البربرية [أي جعلها لغة رسمية – الناسخ]. بل عملوا كلهم على نشر العربية وتطويرها. بينما نجد الأتراك والفرس قد حُكِموا من الخلافتين الأموية والعباسية أكثر من خمسة قرون، وبمجرد سقوط الخلافة العباسية، عاد الفرس فرساً بلغتهم، والأتراك أتراكاً بلغتهم. هل بقاء المغرب عربياً حتى الآن صدفة تاريخية؟ لا توجد صدفة في التاريخ. كما بينا فإن البربرية لم تكن لغة في تاريخها، وإنما كانت دائماً لهجة أو لهجات إلى جانب لغة الحضارة والثقافة في شمال أفريقيا، التي كانت اللغة البونيقية. فالمؤرخ الفرنسي أندريه باسي A. Basset، ينشر كتاباً سنة 1929 في باريس تحت عنوان “اللغة البربرية” La Langue Berbereيقول فيه: “لم تقدم البربرية أبداً لغة حضارة، لا في الماضي ولا في الحاضر، كما أنها لم تقدم لغة موحدة موزعة على مجمل البلاد، كما لم يكن لها آداب مكتوبة، أو مدارس تُعلم فيها. لقد كانت ولا تزال لغة محلية. لقد فُتتت البربرية إلى لهجات متعددة، مجزأة حسب كل قرية، لدرجة أنه لا توجد لهجات للبربرية، ولكن يوجد لها واقع لهجوي. بل إن التفاهم بين جماعة بربرية وأخرى قليل أو معدوم”. كما يقول المؤرخ الفرنسي غوتييه E.F. GAUTIER: “ويلاحظ أنه لا يوجد كتاب واحد كُتِبَ بالبربرية، كما أنه لا توجد كتابة حقيقية لها، بل لا توجد لغة بربرية منظمة”. (E.F. Gautier: Consideration sur l’Histoire du Maghreb. Revue Africaine. Vol. 68 (1927)) أما عن الحروف التي تمتاز بها البربرية ولا توجد باللغة العربية فإن الكثير منها موجودة بالعربية كالزاي المفخمة التي توجد بالكتابة العربية الجنوبية، فحرف X بخط المسند اليمني هو هذه الزاي المفخمة، التي يقول عنها ابن منظور صاحب قاموس لسان العرب: “أنه حرف عربي قديم، حُذِف من العربية الحديثة”، ولا تزال البربرية تحتفظ به، وهذا يدل على الأصل العربي للبربرية”. (كتاب عروبة البربر، ص 29) كما أن الكاف المعطشة بالبربرية ليست غريبة عن العربية، فاختلاف نطق الكاف ليس غريباً عن العربية التي تعتبر اللغة الوحيدة بالعالم التي تُنطق فيها الكاف بعدة مخارج حروف، وفقاً للهجات العربية، كالكشكشة والشنشنة، وغيرها. يقول الأستاذ محمد شفيق: “إن البربرية صورة مثبتة مجمدة من لغة قديمة، تفرعت عنها اللغة العربية في وقت ما، وهذا يدعم وحدة اللغتين القديمة” (كتاب عروبة البربر، ص 30) وهذه اللغة القديمة التي يشير إليها الأستاذ شفيق، ليست سوى اللغة العربية القديمة، التي أُطلق عليها خطأً اسم السامية.
لا يوجد صور مرفقة
|