بقلم: الدكتور عهد كمال شلغين
استعرض مقالات الكاتب | تعرف على الكاتب 15-11-2016 - 2641 تعيش الأمة العربية في ظرفٍ تاريخيٍ دقيقٍ، حيثُ يظهرُ الآنَ واضحاً مدى تعقدِ أزماتِ الثقافةِ العربيةِ بكلِّ تعقيداتها الدينيةِ والفكريةِ والثقافيةِ، ومنها إشكاليةُ التأويلِ في التراثِ العربيِّ الإسلاميِّ التي لازالت موضعَ تساؤلٍ وبحثٍ في الفكر العربي المعاصر، تتقدّم كثيراً من الإشكالياتِ المعيشةِ في الواقع العربي وفي الوعي السائد.
لاشكَّ أنّ إشكاليةَ النصِّ الشرعيِّ والتراثَ ليستْ وليدةَ الواقعِ فحسب، بل هيَ إشكاليةٌ تاريخيةٌ، إذ نجدُ بينَ ظهرانينا الآنَ منازعَ شتّى لجماعاتٍ بشريةٍ كلُّ واحدةٍ منها تسعى بكل قوةٍ لتفرضِ قراءاتِها ورؤيتها بناءً على تنّوعِ المشاربِ الفكريّةِ وأدواتِها في البحثِ عن هذهِ المشكلةِ التي ولَّدت اتجاهاتٍ عديدةً ورؤىً مختلفةً عن النصِّ والتراثِ والوعي السائدِ، لذلك ليسَ هناكَ من جوابٍ واحدٍ واضحٍ في هذه الاتجاهات. لذا صار لزاماً تحليلِ الظاهرةِ التأويليّةِ، وحضورُ النصَّ والتراثِ في الفكر العربيِّ، إذ إنَّ كلَّ مفكرٍ قد بنى موقفَهُ من التراثِ والنصِّ بناءً على المنهجِ الذي تبنّاهُ، محاولاً تأسيسَ رؤيةٍ جديدةٍ مبنيةٍ على منهجيّاتٍ معاصرةٍ في قراءته للنصِّ وفهمِهِ للتراثِ. وما اقصدُهُ بالتأويلِ هنا هو عمليةُ فهمِ المفكّرِ للتراثِ والنصِّ بمنهجياتٍ معاصرةٍ بما يتّسقُ معَ الواقعِ، أيْ دراسةُ الماضي والنظرُ إليه من خلالِ رؤيةٍ تجديديةٍ، فالتأويلُ يُبنى على القراءةِ بأبعادِها المختلفةِ، وليسَ بوصفِهِ منهجاً مفروضاً على النصِّ، بل يتحدّد معناه بوصفِهِ فهمَ الكاتبِ للنصِّ مهما كانَ المنهجُ الذي يدَّعيه. كلُّ ذلكَ من أجلِ الوصول إلى هدفٍ رئيسٍ هوَ تبيانُ أهميّةِ التأويلِ، وضرورتِهِ في تشكيلِ أفقٍ جديدٍ للتراث العربيِّ وتجديدِهِ، الذي يحتاجُ من وجهةِ نظرنا إلى الانفصالِ المغلقِ، بغيةَ فهمِهِ عبرَ رؤىً جديدةٍ تتناسبُ وروحَ العصرِ. ناهيك أن معظمَ الدراساتِ والقراءاتِ في الثقافةِ العربيةِ بتصوراتِها واتجاهاتِها لم تخرجْ عن إطارِ النصِّ وتصديرِهِ على أنّهُ حاملٌ لكلِّ المقولاتِ والتراث، إذ إنَّ معظمَ التوجّهات الحداثويةِ المعاصرةِ قد اتّجهَتْ نحوَ النظرياتِ الغربيةِ في قراءةِ التراثِ، الأمرُ الذي جعلَ من كلِّ المساعي التي تريدُ أن تتبنى منهجاً تأويلياً غيرَ قادرٍ على تجاوز حقل النصِّ، وفي الوقت نفسه ربطِ كلّ التاريخِ الثقافيِّ والفكريِّ والموروثِ العربيِّ بنزولِ القرآنِ واختصارِها بالإسلام. وعليه فإنَّ التأويلَ ومادّتَهُ المعرفيةَ مازالَ في بداياتِهِ الأولى في فكرنا، ولم يتجاوزْ مرحلةَ التأويلِ الكلاسيكي بعدُ، إذ إن معظم الاتجاهاتُ قد حملتْ نوعاً من التوافقِ المنهجيِّ على ضرورةِ العودة إلى الماضي وإحياءِ الجوانبِ العقليةِ في التراثِ، فكانَ عمله تأويلاً للماضي في أغلب نتائجه وطروحاته، فتأتي الحلولُ حلولاً للماضي الذي انتهى وانقضى. كما أنَّ الاتجاهاتِ الفكريةَ التأويليةَ العربيةَ قد وقعَتْ في مشكلةِ المنهجِ والمركزيةِ الأوروبيّةِ، الذي أُغفِلَ فيها المجالُ التداوليُّ العربّي. كان الأجدرُ الأخذَ بروحِ المنهجِ وفكرِهِ العامِّ ومبادئهِ العلميّةِ، لا الأخذُ بآلياتِهِ التطبيقيةِ والخوضُ به بوصفهِ تجربةً حيةً يمكنُ أن تُعاشَ في واقعنا، وكذلك الأمر عن التراث العربي فهو ليس تراثاً تراكمياً كما صوّرهُ وتعاملَ معهُ المفكّرونَ، ذلكَ نتيجةُ الانقطاع التاريخي الذي مر به الفكر العربي، أما المنهجياتُ المعاصرةُ فقد ظهرتْ نتيجةَ فلسفاتِ الإنسانِ التي لم نخض تجرِبتَها ولم نصلْ إليها بعد. وأخيراً: إنَّ ما هو جليٌّ وواضحٌ اليومَ في الواقعِ والفكرِ هوُ اللاعقلِ والفكر الظلامي واللاإنسانية التي تهدد وجودِ الإنسانِ، يعودُ سببهُ إلى ظهورِ فكرٍ يدَّعي زوراً أنّهُ يستمدُّ شرعيّتَهُ من النصِّ الديني وتفاسيره، وأنّهُ يطبّقُ شرعَ (الله) على الأرض، مبرراً وجودهُ الطارئَ والمأزومَ من خلالِ الكثيرِ من التأويلاتِ الخاطئةِ التي لا تمتُّ للعقلِ بصلةٍ، ومن خلالِ الفتاوى والاجتهاداتِ التي تدَّعي الدينَ طريقاً وتعبَرُ عن أيديولوجياتٍ قاتلةٍ، وتسوّغُ كلَّ أفعالِها تحتَ مسمياتٍ دينيةٍ، لخدمةِ توجّهاتِها الفكرية واختزالِها واقتصاصِها من مصادرها ومكانها الحقيقيِّ، من أجلِ تدعيمِ فكرها المتطرفِ. وما كلُّ هذا إلا نتيجةَ أزمةِ تأويلِ التراثِ وقراءاتِ النصِّ وأزمةِ إصلاحٍ دينيٍّ، وفهمٍ زائفٍ وضيقٍ وتعسفيٍّ وللنصِّ الدينيِّ وخطابهِ، والمشكلة تكمن في عدم وجود رادع فكري يدحضها بشكل فعلي وعملي؛ نتيجة إهمال الدراسات الحقيقية والإصلاحية، أو عدم قراءتها وفهمها بالشكل الصحيح. وكلُّ ذلكَ غيبَ الفكرَ التنويريِّ الحرَّ، وهذا يدلُّ على أنَّ معظمَ ما قُدِمَ في الفكرِ العربيِّ الحديثِ والمعاصرِ من قراءاتٍ ومشاريعَ فكريةٍ نهضويةٍ وإصلاحٍ دينيٍّ وتأويلاتٍ، لم يتعدَّ الجانبَ النظريَّ التنظيريَّ؛ فما تفسير ما نشاهدُهُ اليوم من انحطاطٍ روحيٍّ وفكريٍّ وقيميٍّ وأخلاقيٍّ في تشويهِ صورةِ الإنسانِ والدينِ وتقديمِ الخطابِ الدينيِّ بأبشع صوره، فنحنُ نعيشُ أزمةَ تأويلاتٍ وتفاسيرَ ومرجعياتٍ، تجعلُنا بحاجةٍ إلى إعادةِ النظرِ بكلِّ ما حولنا وكلِّ ما سبقَنا وكلِّ ما سيأتي؛ فأيُّ تفسيرٍ وأيُّ تأويلٍ وأيُّ فتوى وأي تشريعٍ وأي دينٍ يبيح قتل طفلٍ، ويشرّعُ سبي امرأةٍ، ويحكمُ بحرقِ إنسانٍ حي؟! من هنا صار لزاماً على المثقّفِ العربيِّ إعادةُ النظرِ في منهجياتهِ وآلياتِ تفكيرهِ وأدواتِ قراءاتِهِ، وانتهاجُ العقل الفعّالِ وليسَ المستفاد، العقلُ التأويليُّ الناقدُ والباني، وتحريرُ التاريخِ من قيدِ الثباتِ والقولبةِ وتبيانُ أباطيلِ تأويلاتٍ وتفاسيرِ مَنْ هم ليسوا من أهل العلم بشيء، وجعلُ الإنسانِ الذات الفرد هوَ الشغلُ الشاغلُ والأساسُ في كلِّ ما نريد.
لا يوجد صور مرفقة
|