بقلم: د. ساسين عساف
استعرض مقالات الكاتب | تعرف على الكاتب 18-06-2016 / 17:06:42 - 3188 الإرادة العامة تعبّر عن نفسها من خلال مؤسسات المجتمع المدني وقواه الحيّة. المجتمعات المدنية اعتمدت على هذه المؤسسات لبناء دولها، فهي تعدّ من أفضل سبل مشاركة المواطنين في بنائها وصناعة قرارها ورسم سياساتها العامة. السيادة في الدولة المدنية هي سيادة الارادة العامة التي يخضع لها جميع المواطنين، بمن فيهم الحكّام، فهي تجعل المواطنين متساوين أمام القانون الذي تسنّه سلطة تمثّل هذه الارادة، وتحمي حقوقهم حماية متساوية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والثقافية، وتضمن لهم الحقّ في حرية التفكير والضمير والاعتقاد والرأي والتعبير، وتحفظ لهم حقوقهم في المشاركة في إدارة البلاد وتولّي الشؤون والوظائف العامة. مفهوم سيادة الإرادة العامة يحدّد مفهوم الدولة المدنية مجتمعاً ودستوراً وقوانين وأنظمة حكم وسلطات حاكمة، ذلك أنّ الدولة، في الفهم العام، هي انتظام المجتمع على قواعد دستورية تحدّد منظومة القوانين العامة والخاصة، وطبيعة النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، وآليات تكوين السلطات المسؤولة عن تطبيق الأحكام الدستورية والقانونية وإدارة النظم المنبثقة عنها. لكلّ دولة دستور حاكم، يجسّد إرادة المواطنين العامة، ويبيّن طبيعتها. هوية الدولة المدنية هي نفسها هوية المجتمع المدني ودستوره، وهي صورته ومثاله وأرقى صور تنظيمه أو انتظامه. بهذا المعنى إنّها ظاهرة من ظواهر الاجتماع البشري المدني وإفرازاته البينوية. هذا هو مفهوم الدولة المدنية التي لا تمارس إكراهاً على المجتمع، فكلّ مجتمع ينشئ دولته... والدولة منتج بشري مدني لا يفهم إلا في سياقه الزمني الخاص وبناءاته الذاتية. انطلاقاً من هنا يتمّ تصنيف الدولة إلى زمنية أو غير زمنية، مدنية أو ثيوقراطية. هذا لا يمنع من أن يكون هذا المنتج البشري المدني مستنداً في مبادئه وممارساته إلى قيم وأخلاقيات دينية.. فالدولة المدنية قد ينشئها بإرادة مواطنيه مجتمع مؤمن. ثمّة تكامل قيم وأخلاق بين الدولة المدنية والإيمان الديني، من دون أن تكون الدولة دولة دينية، ومن دون أن يكون الدين دين الدولة.. ثمّة جدلية تكامل بين الإيمان الديني والدولة في مستوى القيم والأخلاق.. هذه الجدلية أنتجت مفهوم الدولة المدنية تمييزاً لها عن الدولة العلمانية التي تقصي الدين عنها وعن المجتمع، بكلّ مفاعيله التعليمية والتشريعية والإيمانية.. فكرة الدولة المدنية في الوعي الإسلامي الحديث غير المؤدلج انبثقت من هذا المفهوم بمدلوله الديني- السياسي المرحّب به في بيئة الإسلام الثقافي والأخلاقي. وقد ساعد هذا الوعي على مقاربة موضوعة الدولة أو الحكومة إنطلاقاً من مفهوم العقد الاجتماعي وسيادة القانون الوضعي، على خلاف ما ذهب إليه الإسلام السياسي المؤدلج من أنّ الدولة جزء من المنظومة الدينية أوهي دولة الخلافة أو هي تجسيد نقلي لأحكام الشريعة. إرادة المواطنين المعبّر عنها بالإرادة العامة هي مرجعية الدولة المدنية ومصدر تشريعها وشرعيتها.. وهي ترتضي المؤالفة والتكامل بين منظومة القيم الدينية ومنظومة القيم الوضعية. الدولة تقوم على إرادة مواطنيها... وكلّ دولة تقوم على ما يخالف تلك الإرادة تكون دولة إكراه واستبداد. وعليه، المواطنة هي قاعدة بناء الدولة بجوانبه كافة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. المواطنة المتساوية، حقوقاً وواجبات وحريات عامة وخاصة ونظرة إلى الإنسان فرداً ذا قيمة في ذاته، هي الأساس لقيام الدولة المدنية. العقل السياسي العربي، بالرغم من محاولات متنوّري القرن الماضي خصوصاً متنوّري الفكر القومي الليبرالي والفكر الديني الاصلاحي، لم ينتج نموذجاً للحكم المدني لغياب ثقافة المواطنة ولانعدام النظرة إلى الانسان العربي فرداً ذا قيمة في ذاته.. والسؤال اليوم في زمن الفتن والتشظّي: هل بات هذا العقل، بعد المآزق والفتن التي أوصلته إليها إيديولوجيات الفكر الشمولي، بشقيه الديني والقومي، جاهزاً لإعادة النظر في معقولاته أو ثوابته الفكرية بما يتوافق مع متطلبات بناء الدولة المدنية وفي رأسها المواطنة المتساوية والمواطن العربي، بهويته الفردية، خصوصاً بعد أن محقتها حروب الهويات القاتلة؟ يشهد العقل العربي اليوم أزمة حادّة في صوغ الأفاهيم والقيم السياسية، خارج منظومة التفكير الكلياني، على قاعدة الحقّ في التعدّد والاختلاف، وهو حقّ بدونه لا تقوم الدولة المدنية ولا تؤمّن حقوق المواطنة. هل بات العقل السياسي العربي، بعد تلقيه العديد من الصدمات والهزائم، قادراً على الاقرار بحقّ المواطنين الأفراد في المجتمع الواحد في أن تكون لهم دولة ينتجها عقد اجتماعي مبرم بينهم كمواطنين أفراد بعيداً من أيّ انتماء حكمي، ديني أو إثني أو سلالي؟ العقد الاجتماعي في مجتمع متعدّد المكوّنات الدينية والعرقية، كالمجتمع العربي، يشكّل الإطار القانوني المحايد لتأمين المصالح المشتركة والتزام القيم المشتركة التي يحتكم إليها لفضّ النزاعات بدون تهميش أو إكراه. العقد الاجتماعي يشترط، أوّلاً، توافر الوعي بقيمة المواطن الفرد الآخر والمساواة معه، ضمن مؤسسات المجتمع، ومنها بالطبع، لا بل في رأسها الدولة... العقد الاجتماعي يشترط، ثانياً، الوعي الفردي بضرورة الخضوع طوعاً للقوانين التي يشارك في وضعها مع الأفراد الآخرين. فهل هذه الاشتراطات متوافرة فعلاً لدى غالبية المواطنين العرب؟ الجواب الإفتراضي يؤكّد أنّ المواطنة ثقافة مجتمع قبل أن تكون قاعدة لبناء الدولة. ثقافة "العقد الاجتماعي" المؤدّية إلى قيام الدولة المدنية لا تتجاوز في المجتمعات العربية حدود الدوائر النخبوية الضيّقة والمهمّشة والمبعدة عن مراكز القرار السياسي. لذلك الدولة في الوطن العربي هي دولة الحاكم لا دولة المواطنين. دولة المواطنين طرحت حولها تساؤلات عديدة ودارت في شأنها مطارحات كثيرة منذ بدايات "عصر النهضة" حتى اليوم. وعند المنعطفات المصيرية كانت تستعاد وتضاف إليها تساؤلات ومطارحات جديدة وذلك في ضوء التحديات المطروحة على المجتمعات العربية وبخاصة تحديات التفسّخ والذهاب إلى الفتن الداخلية، ومنها بالطبع ما نشهده اليوم من نتائج ما يسمّى "الربيع العربي".. وازاء هذه التحديات يرتفع الخطاب المنادي بدولة المواطنة لإخماد الفتن.. وفي كلّ مرّة يلقى هذا الخطاب عقبات تتمثّل في الأسئلة الآتية: - هل بات الوعي بحقوق المواطنة في إسقاط النهج الفئوي الإقصائي الاستبدادي في أنظمة الحكم العربية المعاصرة كافياً منسوبه لقيام دولة المواطنين؟ - هل العقل السياسي النقدي لدى النخب قادر على إنتاج فقه سياسي عربي جديد وقائم على أطروحة المساواة في الحق والواجب؟ إنّ الإقتراب من هذه الدرجة في سلّم الوعي السياسي ينبئ باقتراب قيام دولة المواطنة والمساواة أمام القانون في مسألتي الحق والواجب. هنا يأتي قيام الدولة استجابة تاريخية لمجتمع يتصرّف بعقل حرّ. - هل وصل الوعي السياسي في المجتمعات العربية إلى درجة الإعتراف بالتعدّدية الدينية والعرقية كواقع اجتماعي وثقافي متعدّد المكوّنات، لا أفضليّة فيه لمكوّن على آخر في ادّعاء المشروعية الدينية أو القومية أو السلالية في القيادة والإستتباع؟ - هل النصّ الديني فعلاً هو العائق كما يدّعي البعض؟ ألا ينطوي النصّ الديني على أنّ الناس سواسية كأسنان المشط؟ ألا يرد في نصّ آخر أن لا فضل لعربي على أعجمي إلّا بالتقوى؟ هل علاقة الديني بالسياسي تمنع من أن يكون الشعب، من دون تفرقة أو تمييز، مصدر السلطة المدنية على قاعدة "أنّكم أعلم بشؤون دنياكم"؟ - هل للدولة المدنية نصيب في أن تقوم في بلاد عربية انتشرت فيها بوفرة وقوّة أحزاب الاسلام السياسي التيوقراطي الساعية لقيام دولة الشريعة أو ولاية الفقيه أو دولة الخلافة؟ يصعب على المرء إعطاء أجوبة عن هذه الأسئلة من دون أن يربط إشكالياتها بالثقافة السائدة. يبدو أن ثقافة المجتمعات العربية الراهنة هي أقرب إلى التمسّك بمفردات الخطاب الفئوي الإستئثاري والإستحواذي والإبعادي، خطاب السيطرة على كامل الحيّز وتهميش الآخر إن لم نقل إستئصاله. هذا الخطاب التدميري يصنّف الناس وفق انتماءاتهم الدينية والقومية والسلالية والطبقية، ويجعلهم في مراتب علوية ودونية، فالذين هم في المراتب العليا لهم الغنم والذين هم في المراتب الدنيا عليهم الغرم. هذا هو واقع الناس في المجتمعات العربية حيث ينتفي مفهوم المواطنة انتفاء كلّياً.. فكيف لدولة مدنية أن تقوم فيها؟! هذا والمعادلة الطبيعية تقول: لا وجود لدولة مدنية من دون مواطنة ولا وجود لمواطنة من دون دولة مدنية. فبين الإثنتين تلاحم عضوي تكويني وجودي. معاينة الجانب الثقافي في الواقع العربي الراهن والمتحوّل في اتجاه "المزيد من حركات الإسلام السياسي" تقرّر إستحالة قيامها بالرغم من أنّ الظواهر الثقافية حالات متماوجة ومتدافعة خصوصاً في مجتمعات غير مستقرّة. لكن صراع القوى في الوطن العربي، على الأقلّ في المدى المنظور، يتّجه إلى أنّ الغلبة ستكون للتصوّر الديني (ليس بالضرورة التصوّر السلفي أو الإخواني أو تصوّر أي فئة أخرى من فئات الإسلام السياسي المؤدلج) فالدساتير التي وضعت بعد حدوث متغيّرات في عدد من الدول العربية، كالدستور التونسي والدستور المصري، قواعدها العامة التي ترسم أطر بناء الدولة، وتكوين السلطة، ومواصفات الحاكم، والتي تحدّد مصادر التشريع، تحافظ على مكانة الدين ومؤسساته في بنية الدولة والمجتمع. الثقافة السياسية المدنية لا تنمو بسهولة في مجتمعات دساتير دولها تحاصر العقل الحرّ وتضعه تحت رقابة المؤسسة الدينية. فالمفاهيم المدنية في المجالين الثقافي والسياسي التي يضعها العقل الحرّ تؤسّس لبناء مجتمع متحرّر من "مناهج أهل الحقّ "، وتالياً لبناء دولة مدنية.. من هذه المفاهيم الحقّ في التمايز الفردي. التمايز حقّ إنساني فردي مرتبط بالحرية الوجودية، أي بحرية المواطن في وجوده. من منظور نفسي/ ثقافي/ اجتماعي لكلّ فرد خصوصياته وطبائعه ونظام معارفه ومعتقداته وقيمه وآدابه وأنماط سلوكه. كيف يكرّس هذا الحقّ في نظام اجتماعي/ سياسي لدولة مدنية؟ المواطنون، في أيّ مجتمع كان، هم متعدّدو الانتماءات الاجتماعية والسياسية. ثمّة أصول حاكمة لمشروعية التمايز في الدين. تختصرها الآية الكريمة: "لا إكراه في الدين" (البقرة 2/ 256) حقّ الفرد في التمايز يحميه نظام اجتماعي/ سياسي يقوم على الحرية الفردية التي هي قوام المواطنة المجسّدة لكيانية الفرد. الواقع السوسيو/ ثقافي الديني، وربّما القومي والسلالي كذلك لوجود أرمن وأكراد وأزيديين وشركس وأمازيغ وسواهم في المجتمعات العربية، هو واقع تكويني له سلبياته وله إيجابياته.. سلبيات هذا الواقع عبّرت عن نفسها في النزاعات والحروب التي أنتجتها أنظمة الحكم الإستبدادي في الدولة الفئوية. أمّا إيجابيات هذا الواقع فعبّرت عن نفسها في اختبار المصالح والحياة معاً في السياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة. ولكن لافتقارها إلى ديناميات الأطر المدنية الناظمة (مؤسسات ومنظمات مجتمع مدني) بدت عاجزة عن تحرير أنظمة الحكم من سيطرة القوى الفئوية المتخمة بالعصبيات الطائفية والمذهبية والسلالية والإثنية، وعن إخراج المواطن العربي من الحيّز الفئوي إلى الحيّز الوطني، من الإنتماء الحكمي إلى الانتماء الطوعي، من الهويّة المنقوصة أو المبتورة الحقوق إلى الهوية الوطنية بحقوقها التامة، وفي رأسها الحق في الحرية. الحرية التي نعنيها هي حرية المواطن في وجوده السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي. وهي قيمة وجودية عليا، وزخم وجداني كبير، وقوّة دفع سياسي هائل، لبناء دولة مدنية غير مقيّدة بأحكام ليست من طبيعتها، ولا يتحكّم بشؤونها ومواطنيها "الجنون الجماعي" أو "التوحّش الجماعي" الذي نشهد اليوم أفظع واقعاته. باب الحرية مطلوب فتحه ومنه إلى المواطنة والدولة المدنية.
لا يوجد صور مرفقة
|