ها نحن على مسافة قصيرة من مرور عام، والعدوّ الصهيوني لا يزال يصرّ ويكابر، ويواصل توحُّشه العدواني على غزّة وأهلها، وعلى لبنان وأهله. وهو يريد انتزاع نصرٍ موهوم يتجسّد إما عبر سحق المقاومة وأبنائها/ أو إنهاء خيارها وترتيب أوضاع غزّة، ثم ترتيب أوضاع فلسطين كلّها، فالمنطقة بأجملها، وفق برنامج يقوم على احتلاله الأرض، وفرض سيطرته وطيّ صفحة قضيّة القدس والمقدّسات والشروع في تهويد الأراضي المحتلة والتسلّط حتى على الأنظمة والدول التي سكتت عن عدوانه، ودعمته وتواطأت معه.وإذا لم ينجح العدوّ في سحق المقاومة، فهو يريد تحقيق هدفه من خلال إعلان حماس والمقاومة في غزة استسلامها واعترافها بالهزيمة أمامه، ويترتّب على ذلك النتيجة السابقة نفسها، لكن مع إقرار وإذعان وتوقيع تاريخي يستخدمه العدوّ في وجه أجيال فلسطين والأمّة حاضراً ولاحقاً، إذا ما عادت لتطالب بحقها في أرضها ومقدّساتها. وستتبع ذلك استباحة صهيونية للبنان وسوريا والأردن والعراق ومصر ودول الخليج، والسيطرة على كل المنطقة وتحقيق الحلم التلمودي بإقامة إسرائيل الكبرى.
ولأنّ العدو الصهيوني قصد من حرب الإبادة التي شنّها على غزة، كل هذه الأهداف الخطيرة التي تطالنا نحن أيضاً في لبنان، وتريد إخضاع كل شعبه ودولته، والتحكّم بمصيره وبأمنه وسيادته ومستقبل أبنائه وإذلالهم، ولأنّ العدوّ الصهيوني إرهابيّ ظالمٌ ومجرمٌ ومتوحّش، اتّخذنا قرار المساندة والدعم لغزة وشعبها المظلوم والمقهور، كخطوةٍ استباقيةٍ لحماية لبنان وأرضه وشعبه وسيادته وأمنه. ولم يغب عن بالنا أن هذا القرار سيكلّف دماً زكياً غالياً، ودماراً ونزوحاً، وخسائر ماديّة واقتصادية وغير ذلك. إلا أنّ هذه الكلفة، على جسامتها وضخامة حجمها، تبقى أقلّ بكثيرٍ وبما لا يقاس من الكلفة التي سندفعها كلبنانيين، وستدفعها معنا كل دول وشعوب عالمنا العربي، فيما لو تمكّن العدوّ من الانتصار في غزة وفتح بوابة التحكم بكل أوضاع المنطقة.
وانطلاقاً من وعينا لأهداف العدوّ الصهيوني، التي رسمها لعدوانه وحربه الإبادية المتوحشة، واستناداً إلى فهمنا لطبيعته العنصرية والإلغائية والإرهابية التي تغذّيها وتؤيّدها وتتبنّاها وتدعمها بكل فجور ومن دون تردّد الإدارات الأميركية المتعاقبة كالتزام مصلحي يخدم سياساتها التسلطيّة في منطقتنا، فإن ما أقدمت علية المقاومة الإسلامية في لبنان من قرار وإجراء استباقي، وما بذلته من تضحياتٍ جسام هي وأهلها الشرفاء وبيئتها الحاضنة، إنما هو فعل إيمان ديني ووطني وإنساني ووعي للمخاطر والتزام بحق الدفاع المشروع عن النفس وعن الوطن وعن الشعب اللبناني كله، وعن سيادته وحريته وأمنه وكرامته.
وعندما اتخذت المقاومة هذا القرار الشجاع، استندت إلى معطياتٍ عديدةٍ لديها، وإلى عوامل ومقدّمات هيّأتها لتحقّق الآمال بدفع المخاطر الكبرى والتصدّي لها ومنع العدوّ من تحقيق أهدافه. ولم يكن من سبيل لديها إلا الثبات والإقدام والتضحية والتوكّل على الله عزّ وجلّ والثقة بنصره: «وكان حقاً علينا نصر المؤمنين»، «إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم».
ولم يكن في حسابات عوامل الانتصار للمقاومة، لا تأييد أنظمة التبعية والتطبيع ولا الحرص الدولي على وقف العدوان وتطبيق أحكام القانون، ولا الدعم والمساندة ولو بالمتيسِّر إلا من الشرفاء في المنطقة والعالم، أما صورة المتخاذلين فكانت واضحة ومرسومة، وكذلك صورة المثبِّطين والمروِّجين للإحباط والتذمّر واليأس بين الناس، وأيضاً صورة المتواطئين ومقدّمي الخدمات والمتبرّعين المتزلّفين للعدوّ اللئيم على حساب دماء شعوبهم وشرف بلدانهم، وحتى منسوب الحقد والكراهية والكيد للمقاومين وللمقاومة لم يكن تقديره خاطئاً عند أصحاب القرار، لا بل إنّ مستوى اللؤم والضغينة والتشفّي من المعتدى عليهم، الذين قصفت بيوتهم وأوجعهم العدوان، وبعضم ردم تحت الركام أو أربكوا بجرحاهم وأشلاء أبناء شعبهم، أو المحاصرين والفاقدين للمأوى وللمياه والغذاء والدواء وإمكانية الاستشفاء... كل ذلك كان متصوّراً عند أهل القرار.
لكن، وبكل صراحة، كانت الصورة أقلّ بشاعة ممّا رأينا وشاهدناه، سواء من حكام التخاذل وزبانيتهم أو من وعّاظ السلاطين والمخدوعين بلحن قولهم. ورغم ذلك كله، فإن المقاومة الإسلامية وشركاءها في محور المقاومة جعلوا همّهم الأساس إسقاط أهداف العدوّ ومنعه من تحقيقها.
إن فشل العدوّ في تحقيق أهدافه يمثّل الانتصار الذي يُسجَّل للمقاومة. وستشمل عائدات الانتصار الجميع، بمن فيهم الذين كادوا للمقاومة، ووقفوا على التلّ أو ساهموا في خذلانها وانتظروا سحقها، وبعضهم وفّر للعدوّ ما يحتاج إليه في حربه ضدّها. وبعد أقلّ من سنة على حرب الإبادة الصهيونية لغزة وشعبها، يدور العدوّ حول نفسه، ويستنزف قواه وعدّته وعديده، ويراوح مكانه، فلا يجد منفذاً للخروج من مأزق القلق والغموض المنتظر في اليوم التالي.
لقد اجتاح العدوّ غزة ودمّرها وأباد وطغى. لكن مع ذلك كله، لم يستطع أن يُثَبِّتَ سيطرته ويُحكم تسلّطه. وهو لا يستطيع إعلان احتلاله لغزة، كما لا يملك فرض إجراءات اليوم التالي فيها. وفي الوقت نفسه، انكشف العدوّ وبات كياناً منبوذاً في العالم، محاصَراً في أمنه واقتصاده، مستنزَفاً عسكرياً، رغم الدعم الذي يتوفّر له، تتفاقم لديه مشكلة الأسرى ومشكلة النازحين من المستوطنين في الجنوب والشمال، وتتصاعد التباينات السياسية في داخل سلطته وفي أجهزته ومؤسساته حتى الأمنيّة والعسكرية، وتترنَّح أوضاعه بين يمين متشدّد ويسار انتهازي ووسطٍ متردّد، وتتعالى صرخات المهدّدين بالإفلاس وتتواصل الهجرة المعاكسة، وينعكس صمود غزة وإسناد لبنان لها اختناقاً ضاغطاً على العدوّ واهتراءً متنامياً في بنيته، لا يمكن أن تخفيه أو تغطّيه تصريحات التهديد بفتح جبهة الحرب ضدّ لبنان. وما يظهر وتؤكّده الوقائع أنّ عضّ الأصابع هو سيّد الموقف في هذه المرحلة، وطالما أنّ الحرب بالأصل هي حرب إرادات فإنّ إرادة المقاومة ستُسقط إرادة العدوان إن شاء الله.