لفت انتباهي أن الكثير من الأدبيات –بخاصة العربية منها- تولي البعد الشخصي في فهم سياسة رئيس الوزراء الاسرائيلي نيتنياهو اهتماما أرى فيه بعض الخلل، فاغلب هذه الادبيات ترى ان سياسة نيتنياهو هي لحماية نفسه من المحاكمة او العزل او السجن والرغبة في الاستمرار في السلطة،، ومع أن كل علماء السياسة بخاصة المعنيون منهم بنظريات صنع القرار السياسي يعتبرون “العامل الفردي والبنية السيكولوجية لمتخذ القرار ” عاملا من عوامل اتخاذ القرار وصناعته”، لكن تحليل العامل الفردي لا يجوز أن يكون مستقلا عن السياق المؤسسي الرسمي والمجتمعي معا، ففي الدول الاستبدادية يكاد العامل الفردي لصانع القرار أن يختزل السياق فيه، ولعل النموذج المتداول بين الباحثين ويشرح هذه المسالة ويدلل عليها رياضيا هو نموذج (DDM:Democracy-Dictatorship Measure)، ويصل هذا النموذج الى ان وزن العامل الشخصي لا يمكن أن يكون صفرا%، لكنه ايضا لا يمكن أن يكون 100%، ويتراواح وزنه بين المرتبتين طبقا لمؤشر قوة المؤسسة الرسمية في بنية النظام السياسي.
فإذا طبقنا النموذج السابق على اسرائيل ، فان وزن البعد السيكولوجي في اتخاذ القرار يتراوح بين 25-30 %، بينما يتراوح في الدول العربية بين 75-85%، فاسرائيل بعيدا عن موقفنا منها هي دولة مؤسسية، فخلال الفترة بين 2000 و 2020 حكم القضاء على 33 مسؤولا اسرائيليا كبيرا بالسجن منهم: رئيس الدولة ورئيس وزراء وعشرة وزراء و14 نائبا من الكنيسيت وحاخامان و 5 رؤساء بلديات..الخ.
من جانب آخر فان الكثير من الباحثين يسقطون النموذج السائد في بلادهم على النموذج الاسرائيلي، ولا يرى في نيتنياهو الا تكرارا للنموذج الخاضع له ذلك الباحث، وهو ما يزيد الامر تمويها وخداعا في رؤية الصورة السليمة.
سبق لي أن نشرت دراسة اكاديمية عن شخصية نيتنياهو، وأزعم اني قادر على تحديد ابعاد هذه الشخصية الى حد ما ، لكني اعتقد ان وزنه في القرار الاستراتيجي الاسرائيلي –رغم نرجسيته وطموحه وعنصريته وكذبه-لا يتجاوز 30%، وان المؤسسة هي التي تحدد الخيارات الاستراتيجية بخاصة الكنيسيت(ممثلة في الاحزاب المكونة لها) والوزارة ( ممثلة بعدد الاعضاء من كل كتلة حزبية) والمؤسسات الامنية والقضائية، ناهيك عن أن الرأي العام يشكل جرس انذار يؤثر على صانع القرار الاسرائيلي بكيفية او اخرى، وكل هذا يجب وضعه في الاعتبار عند تحليل الاستراتيجية الاسرائيلية.
فما هي استراتيجية المؤسسة الاسرائيلية المتحكمة في القرار في موضوع الصراع العربي الصهيوني؟
1- من يعود لكافة الوثائق الخاصة بالتسوية السياسية يجد ان اسرائيل تعتبر الضفة الغربية هي “يهودا والسامرة” ، وهناك نص واضح ورد في رسالة من رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق مناحيم بيغن يقول فيها للرئيس كارتر، ويعيدها كارتر في رده على الرسالة بأنه ” إذا ورد تعبير الضفة الغربية في اية فقرة ،فانها تعني بالنسبة لاسرائيل يهودا والسامرة”( تاريخ الرسالة هو 22 سيبتمبر 1978).
ذلك يعني ان الخريطة التي عرضها نيتنياهو قبل ايام ليشرح فيها موقفه من ممر فيلادلفيا ولم تظهر فيها الضفة الغربية ضمن خارطة “اسرائيل”، وظهرت الضفة جزءا لا يتجزأ من اسرائيل، وهو ما يتسق مع برنامج الليكود منذ 1977، ويتسق مع برنامج الاحزاب الدينية المشاركة في حكومة نيتنياهو الحالية، وتقره الكنيسيت والمؤسسة العسكرية.
2- رغم كل الاحتجاجات على الرهائن والتعديلات القضائية فان المؤسسة الحاكمة هي التي اقرت التعديلات وما تزال تعاند مطالب المتظاهرين بخصوص الرهائن وتؤيد موقف نيتنياهو.
3- فشلت المعارضة حتى الآن في فرض اجراء انتخابات برلمانية نظرا لمعارضة المؤسسة الحاكمة واسنادها لنتينياهو.
4- كل اعضاء المؤسسة الحاكمة وقفوا ضد قرار المحكمة الجنائية الدولية وانتقدوا محكمة العدل الدولية، بل ان جالانت(وزير الدفاع الذي يقف معارضا لنيتنياهو من داخل الليكود) كان من دعاة منع الماء والكهرباء والغذاء والدواء عن غزة ، وهو ما يتطابق مع ما يفعله نيتنياهو.
5- رغم انتقادات وزارة الخارجية لنيتنياهو في بعض المواقف الا ان مندوبها في الامم المتحدة لا يتحدث ولا يصوت على مشروعات القرار في كل هيئات الامم المتحدة إلا بما تقوله حكومة نيتنياهو.
6- ان مجلس الامن القومي الاسرائيلي رغم الخلافات داخله، فان قرار الاغلبية فيه تتسق مع توجهات نيتنياهو.
ذلك يعني ان القرار الاسرائيلي لا تصنعه رغبات نيتنياهو في البقاء في الحكم والتهرب من احتمال المحاكمة والسجن، بل هو مستفيد من توجهات المؤسسة الحاكمة ويستند لها، وهنا تلتقي رغباته مع استراتيجية المؤسسة، فيظن البعض ان نيتنياهو سخرها كما يجري في دول الاستبداد التي تتوارى المؤسسة فيها وراء ظهر المستبد مهما كان نحيفا.
بنية الحكومة الاسرائيلية :
تضم الحكومة الاسرائيلية الحالية 32 وزيرا موزعين على النحو التالي: 19 ليكود، 5 شاس، 3 عظمة اليهودية (القوة اليهودية) و 3 الحزب الصهيوني الديني ثم يهودات هتوراة 2.، وبالعودة لبيانات هذه الاحزاب، فان نيتنياهو هو أكثرها اعتدالا، وبالتالي فان قراراته هي قرارات المؤسسة، فوزير دفاعه غالانت يعارض تأخير صفقة الاسرى، لكنه عاجز عن تفعيل قراره لان القرار تحكمه الاغلبية المتطرفة.
العقل التفاوضي:
ثمة فكرة مركزية بين اعضاء الحكومة الاسرائيلية الحالية وهي انهم-بما فيهم نيتنياهو- تلاميذ نجباء لاطروحات جابوتنسكي ومناحيم بيغن وشارون ، فهم تلاميذ “ان التاريخ تصنعه الاحذية الثقيلة” (أي الجيوش)، لذا لن يستجيب هذا الفريق الحكومي الا للأحذية الثقيلة، اضافة لقناعة الفريق الحكومي الاسرائيلي ان الدول العربية تنتظر هزيمة المقاومة اكثر من انتظار نيتنياهو..
الحل:
اعلم أن الكثيرين سيقولون لي انك تحلم ، وان هذا لن يحدث، وانا اوافق على هذا، ولكن لكي اثبت ان الدول العربية شريكة في الجريمة تخيلوا( اكرر تخيلوا الف مرة) لو ان ما يلي يحدث (ودعوا لو تفتح عمل الشيطان):
أ- لا اريد من الدول العربية التدخل ضد اسرائيل عسكريا، ولكن تخيلوا لو ان دول التطبيع تجتمع وتتخذ القرار التالي ” لقد ادخلت احداث قطاع غزة المنطقة في اضطراب عميق ووسعت من دائرة العنف والتدخل الخارجي ناهيك عن آثارها الاقتصادية والانسانية، وهو ما يستوجب وقف اطلاق النار الفوري وعودة الاوضاع الى ما كان عليه الوضع قبل الحرب، وعلى اسرائيل الاستجابة لهذا الطلب خلال اسبوع واحد وإلا فان الدول العربية ستقطع كافة علاقاتها الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية وغيرها مع اسرائيل ” .
ان استبدال بيانات الشجب والادانة بقرار كهذا سيضع اسرائيل في موقف حرج للغاية،بخاصة ان البيئة الدولية-بما فيها بعض القوى الامريكية – ستبدي تفهما للموقف العربي، وسيجد القرار ردة فعل ايجابية من الشارع العربي والاسلامي، وسيضع اسرائيل في موقف حرج، ويثبت ان القرار العربي قرارا سياديا وانه في مصلحة هذ الانظمة.
ب- ان تعلن كلا من قطر ومصر انسحابهما من فريق التفاوض لان “اسرائيل تماطل ولا تستجيب”( وهذا ليس اعلان حرب) بل من باب الضغط،واقلاق اسرائيل في البحث عن مخرج.
ت- ان تعلن الجامعة العربية ” الآن وفورا “عن تأسيس صندوق للتبرعات لإعادة اعمار غزة ، تساهم فيه الدول والجمعيات الخيرية والافراد وكل من يرغب في المساعدة،لكي لا تتمكن اسرائيل من توظيف العوز الغزي لأهداف سياسية.
هذه بدائل وغيرها الكثير الكثير من وسائل الضغط غير العسكرية بل هي من باب الضغط السياسي والاقتصادي والاعلامي ودون طلقة واحدة، فلماذا لا تقوم بها الدول العربية؟ ان السبب يكمن في الضغط الامريكي على الدول العربية من ناحية والرغبة الدفينة لدى هذه الدول في ان تستمر اسرائيل في الإبادة الجماعية لعل صفحة المقاومة تطوى من ناحية ثانية، لكنهم يتناسون أن الصمت على حريق بيت جارك يعني انتظار الحريق في بيتك …ربما.