إيتيمولوجيا، العدالة تعني استقامة الجسم مقابل الاعوجاج. مساوقة العدالة للقانون هي هنا بفعل القوة التداولية، كما يذهب جون ستيوارت ميل. وهب أنّها قد تكون غريزة كسائر الغرائز التي تقتضي ضبطا عقليّا. هل يا ترى نذهب حدّ القول أنّ العقل إن كان غريزة هو الآخر، فهو يحتاج إلى ضبط عقلي؟ وهذا يعني أنّ العقل الضابط والعقل المنضبط هي البديل عن التصنيف اللاّلاندي: العقل الفاعل والعقل المنفعل. وهنا نؤكد مرة أخرى أنّ العقل الضابط هو ضرب من المُعاقلة، أي التعاقد مبنيّ على السيرة العقلائية. العقل يضبط العقل، يضبط نفسه برسم التعاقلية. وحيثما كان التعاقد استدعة الوفاء. هل الطبيعة البشرية وفيّة للعقل والمعقول؟ هل العدالة تقتضي الوفاء؟
العدل يحيل على الاعتدال، وهو يشمل الإنصاف كما يشمل العقل والصدق، أي الضبط والاستقامة. إنّ الراوي العادل هو المُوَثَّق. تسقط العدالة بخوارم المروءة، العادل في المرجعية الفقهية والإخبارية، أي علم توثيقات الرجاليين، يصبح الإسراف في الضحك والزيادة في "القفشات" من خوارم المروءة المسقطة للعدالة. ومن سقطت عدالته لن تقبل منه الرواية ولا الشهادة ولا التّرشُّح، فكيف بالتدبير؟
الحقد مسقط للعدالة، لا عدالة لحسود، لطمّاع، لمتربّص، لمتآمر، لمن كثُر قيله وعُثاره ورطانته، لمن كثر حِرصه لمن كثر تسامحه في أحكام قيمة، للقتات المشاء بنميم، لا عدالة لأولاد البقّ.. إنّ للسياسة حدودا في المناورة، فإذا زادت عن حدّها فُقدت العدالة. تُحاسب المدرسة العدلية ذوي المرجعية الإسلامية أنفسهم بمبدأ العدالة لا بتضخّم الخطاب حول المرجعية واستغفال الرأي العام. أين العدالة في برنامج سُرّاق الله؟
نتساءل بدورنا: ما هي شروط ومعايير العدالة السيبرانية؟ من هو العادل في لعبة التأثير وتحميق الرّأي العام بما صحّ ولم يصحّ؟ هل العلم هو إعادة تقيّؤ الموجود أم ابتكار وإبداع؟ ما علاقة العدالة بالابتكار؟ هل ثمّة ما يحمي المستهلك من التكرار؟ هل هم دعاة أم مبدعون؟ العلاقة بين العدالة والمِلكية الفكرية في زمن الفوضى وأفلام كارتون الدعاة الجدد، الخبراء الجدد؟
هل التكتوك مُسقط للعدالة؟ ما هي ضوابط العدالة في المشهد السيبراني الذي تساوت فيه فُرص التمظهر وغطت على فوارق العاقل والعقل والمعقول؟ هل يكفي القول بأنّ هذا عصر سيبراني لنطبّع مع النّذالة والظلم والجهل؟ متى كان العلم مشروطا بلعبة التوزيع التقني للداتا ولعبة تدوير الخواريزميات؟ متى كان العلم مرتهنا للعقلانية التضليلية وإنشائيات التنمية البشرية ولعبة الإنشاء المُتمعقل، المتماهي مع مطالب الرأسمالية في إعادة احتواء الطامحين إلى النجاح وإخراجهم من حالة اليأس وإعادة إدماجهم في دورة مجتمع الاستعباد الحديث، أي الشعبوية الذكية، الآخذة من العقل شميم حُثالته وتوهيم القطيع البشري بالظفر بوعي يمنحه أهلية الخضوع لعقود الإذعان، تنمية في أفق صناعة عبيد منزل الرأسمالية الماكرة. أين العدالة في تحقيق العقل والمعقول وتصنيف العاقل؟
يمكن في مقام التواصف يكون القول في الحق والعدل أوسع، وفي التناصف يكون أضيق، وفي نهج البلاغة:(و الحق أوسع الأشياء في التواصف و أضيقها في التناصف)، ويشرح ذلك ابن أبي الحديد من معتزلة بغداد قائلا:"كل أحد يصف الحق و العدل و يذكر حسنه و وجوبه و يقول لو وليت لعدلت فهو بالوصف باللسان وسيع و بالفعل ضيق لأن ذلك العالم العظيم الذين كانوا يتواصفون حسنه و يعدون أن لو ولوا باعتماده و فعله لا تجد في الألف منهم واحدا لو ولي لعدل و لكنه قول بغير عمل".