"اسرائيل" ماضية في حربها المتطورة تدريجاً الى حرب شاملة ضد الشعب الفلسطيني ومَن يدعمه قولاً وفعلاً من العرب والعجم . مجازرها ومحارقها الكارثية غير مسبوقة في التاريخ المعاصر. مع ذلك ، لا يهتزّ ما يُسمى المجتمع الدولي ولا يفعل شيئاً محسوساً لوقف الكارثة المروّعة.
خلافاً للدول الكبرى والصغرى المتحالفة مع الكيان الصهيوني العدواني او المتواطئة معه ، تنبري الشعوب في سابقة غير مسبوقة على مستوى العالم برمته للإحتجاج والتنديد بالصهاينة وحلفائهم المجرمين وللمطالبة بوقف الحرب الإبادية ، ودعم أهل الرأي العقلاء المتمسكين بقيم الحق والعدل والحرية الذين يطرحون سؤالين مترابطين : أين وكيف ستردّ ايران على "اسرائيل" لإغتيالها احد كبار جنرالاتها المساندين لسوريا في دفاعها المشروع عن نفسها في وجه الكيان الصهيوني العدواني وحلفائه الأشرار؟ ثم متى يسقط بنيامين نتنياهو بعدما أخفق أمام أقرانه وجماعته في "ردّ الإعتبار" لجيشه المهزوم وكبّد كيانه المتقلقل خسائر إقتصادية باهظة جرّاء حربه الإبادية التي كلّفت إقتصاده المتعَب ، بحسب البنك المركزي الإسرائيلي ، اكثر من 50 مليار دولار بحلول العام 2025 ؟
ايران مصممة على الردّ في الزمان والمكان المناسبين وفق تأكيد رئيس الجمهورية السيد ابراهيم رئيسي وكبار قادة الحرس الثوري . الزمان مهم للغاية ، ذلك لأن تأخير الردّ يسيء الى هيبة البلاد داخلياً وخارجياً ، كما ينتقص من فعالية الردّ سياسياً وعسكرياً . مهمٌ كذلك مكان الردّ ، ذلك لأن من المنطقي ان يكون موجعاً وألاّ تكون فعاليته السياسية والعسكرية أقلّ إيلاماً ومردوداً ووقعاً من واقعة إغتيال العميد رضيّ موسوي في سوريا ، فأين تراها تردّ ايران وكيف ؟
ثمة تخمينات كثيرة في هذا المجال . يقول بعضهم إن الزمان مسألة سياسية في الدرجة الاولى ، وهو بالتالي من إختصاص القيادة السياسية . اما المكان فهو من إختصاص كِلا القيادتين السياسية والعسكرية وذلك بالنظر الى ما يمكن أن ينتجه الإنتقام من إنعكاسات وتداعيات سياسية وعسكرية في آن . بعد إغتيال القائد المرموق قاسم سليماني على مقربةٍ من مطار بغداد إختارت طهران موقعين للردّ في قلب العراق لكونه مسرح الجريمة النكراء ، فضربت بقسوة قاعدة عين الأسد ، كما ضربت قاعدة عسكرية اميركية أخرى ادنى حجماً بالقرب من أربيل عاصمة كردستان العراق.
الى ذلك ، ينتصب سؤال آخر : هل يكون مكان الردّ داخل اسرائيل" براً ام بحراً ، وهل يكون له طابع عسكري ام إقتصادي ؟
إذا كان الموقع المفضّل للردّ عسكرياً ، فمن المرجّح ان يقع الإختيار على موقع عسكري قريب له صلة مباشرة بحرب "اسرائيل" الإبادية على قطاع غزة. ذلك يُحقّق لإيران مكسباً لافتاً هو الثأر من القوة العسكرية الصهيونية الشرسة ، ويحقق للمقاومة الفلسطينية ايضاً مكسباً ميدانياً وازناً هو إضعاف الهجمة الإسرائيلية الوحشية على قطاع غزة. أما اذا كان الموقع المفضّل للردّ إقتصادياً ، فمن الممكن أن يقع الإختيار على موقع لتصنيع الآليات والمسيّرات والطائرات والقطارات ، أو على بئر بحرية لإستخراج الغاز والنفط الأمر الذي يحرم كيان العدو مردوداً مالياً كبيراً من عائدات بيع هاتين المادتين الإستراتيجيتين .
لكيفية الردّ أهمية موازية إن لم تكن اكثر أهميةً من مكان الردّ . ذلك لأن الردّ بصواريخ باليستية بحمولةِ متفجرات ثقيلة من شأنها إحداث دمارٍ وأضرارٍ كبيرة وموجعة سياسياً وعسكرياً وإقتصادياً ، خصوصاً اذا كان مكان الردّ في عمق كيان العدو . واشنطن أدركت سلفاً مخاطر وتداعيات ذلك على حاضر ومستقبل سياستها ومصالحها في الشرق الاوسط ، فسارعت بُعيد إغتيال العميد موسوي الى إبلاغ طهران حرصها على عدم توتير الأجواء لتفادي تطور الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني الى حرب إقليمية . نتنياهو يُدرك ايضاً مدى خطورة الردّ الإيراني ومكانه، لذا سيستغل الفرصة للردّ على ايران بعنفٍ مضاعَف املاً بحملها على القيام بردٍ اكثر عنفاً ما يُضطر اميركا ــ في ظنّه ــ الى التدخل حمايةً لـِ "اسرائيل" من غضبةٍ ايرانية كاسرة.
في ضوء هذه الإعتبارات والإحتمالات الخطيرة فإن طهران ستكون حريصة على إجراء حسابات دقيقة ، سياسية وعسكرية ، قبل تنفيذ ضربتها الثأرية الحتمية عاجلاً او آجلاً .
يبقى السؤال الآخر الأكثر إلحاحاً : متى يسقط نتنياهو ؟
الإجابة صعبةٌ جداً في حمأة صراعٍ متعدد الأطراف من جهة وينطوي على متغيرات وصعوبات جمّة من جهة اخرى . مع ذلك ، يمكن القول إن سقوط اكثر رؤساء حكومات "اسرائيل" تطرفاً وتصلباً لا يبدو وشيكاً وإن كان حتمياً في نهاية المطاف . لماذا ؟
لأسباب داخلية وأخرى خارجية . فعلى الصعيد الداخلي تتصاعد المعارضة الساخنة له من اهالي الأسرى المطالبين بتحرير ابنائهم بأي ثمن ، كما تتصاعد تكلفة الحرب على جميع المستويات. صحيفة "ذي ماركر" قدّرت التكلفة اليومية لقوات الإحتياط الإسرائيلية بمبلغ يتراوح بين 88 مليون و110ملايين دولار . عجزُ الميزانية يزداد ايضاً بشكل تصاعدي بسبب تكاليف الحرب من جهة ومن جهة اخرى لتباطؤ الحركة الاقتصادية بفعل انخفاض حجم الضرائب والرسوم المجباة وإنسحاب الكثير من شركات التكنولوجيا من الكيان . كل هذه العوامل أدت الى إقرار ميزانية الدولة اخيراً بعجزٍ يربو على 6 في المئة من الناتج المحلي الذي يقدّر بـ 30 مليار دولار.
على الصعيد الخارجي ، ثمة تحدٍّ مالي وعسكري إضافي يواجه كيان العدو في الحاضر والمستقبل المنظور هو نفاد العديد من انواع الأسلحة نتيجةَ إستمرار الحرب بالرغم من ان الولايات المتحدة قامت ، بحسب صحيفة معاريف (2023/12/27) بدعم "اسرائيل بأكثر من 200 طائرة شحن منذ بداية الحرب ، بالاضافة الى السفن التي حملت اليها اكثر من 10 الآف طن من الذخيرة والعتاد العسكري . لكن الحرب المستمرة وخطر تصعيد المواجهة مع حزب الله الى حرب شاملة يفرض ملء مخازن السلاح (...) فكان ان طلبت "اسرائيل" من الولايات المتحدة الحصول على المروحيات الضرورية في القتال على كل الجبهات ، وما زالت الإدارة الاميركية تبحث في الطلب ، وهذه ورقة ضغط مهمة على نتنياهو يملكها الرئيس بايدن ".
هل يضغط بايدن على نتنياهو ، ولماذا ؟
تريد ادارة بايدن ، بحسب إيتان غليواع ، كبير الباحثين في معهد القدس للإستراتيجيا والأمن ، في صحيفة "معاريف" (2023/12/27) "ان تنهي "اسرائيل" مناورتها البرية الشديدة القوة في نهاية كانون الثاني/ يناير 2024 والإنتقال الى المرحلة الثالثة من قتال أقل قوة". لماذا ؟ لأن ادارة بايدن تريد من "اسرائيل" البدء في مفاوضات من اجل التوافق على ترتيبات تفضي الى اعتماد حلّ الدولتين .
نتنياهو يرفض حلّ الدولتين بل يفاخر بأنه منع قيام دولة فلسطين مذّ تولى السلطة قبل اكثر من عشر سنوات ، كما يثابر على رفض البحث في قيامها الآن خوفاً من زعزعة حكومته الإئتلافية ومعارضة الوزيرين المتطرفين بن غفير وسموتريتش.
سيثابر نتناهو على الرفض ، وسيثابر بايدن بدوره على الضغط عليه الى ان يتراجع تحت وطأة نفاد أسلحته الضرورية لحربه التي أخفقت في ليّ ذراع المقاومة الصامدة من جهة ، ونجحت من جهة اخرى في تعبئة معارضةٍ متصاعدة له بين الأهالي المطالبين بتحرير ابنائهم الأسرى ، كما أفلحت على ما يبدو في حمل بعض نواب حزبه الليكود على التخلي عنه.
في إختصار ، ايران ستردّ في الزمان والمكان المناسبين ، ونتنياهو سيسقط عاجلاً ام آجلاْ في زمانٍ لم يعد مناسباً له على الإطلاق.