من السمات الأبرز التي كان يمكن لحظها في حرب طوفان الأقصى، قدرة رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو على جرّ النخبة السياسية والإعلامية والأكاديمية الأميركية خلف روايته الخاصة لما حدث يوم السابع من تشرين الأول في مستوطنات غلاف غزة. مارس نتنياهو أكثر ما أتقنه على امتداد حياته السياسية، متسلّحاً بمنظومة مالية وأكاديمية ودعائية، وفّرت له الكثير من الأدوات التي سخّرها منذ 7 تشرين الأول، لتبرير حرب الإبادة التي يشنّها على غزة
لكي نفهم كيف نجح رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو في جلب إيلون ماسك إلى مستوطنات غلاف غزة، متنكّراً لما كان قد عبّر عنه سابقاً من إدانة لجرائم العدو في غزة، ينبغي فهم ديناميات المصالح الرأسمالية واللوبيات الواسعة النفوذ في الولايات المتحدة. في قلب المصالح الشركاتية والأكاديمية والمراكز الفكرية والبحثية التي تستعمل «معاداة السامية» كسلاح ضد كل متعاطف مع الفلسطينيين، سنجد لمسة أو ظلاً لنتنياهو.في 27 تشرين الثاني الماضي، نقلت وسائل إعلام صهيونية أنّ نتنياهو توجّه إلى أعضاء حزبه الليكود في اجتماع في الكنيست قائلاً: «أنا الوحيد الذي سأمنع قيام دولة فلسطينية في غزة ويهودا والسامرة. أنا الوحيد الذي يستطيع الصمود أمام الضغوط الأميركية. أعرف بايدن منذ 40 عاماً، وأعرف كيف أدير الرأي العام الأميركي». وهو طبعاً كان يذكّر نواب حزبه بقدراته هذه، لقمع أيّ محاولة للإطاحة به من رئاسة الليكود، ولاحقاً من رئاسة الحكومة، وهذا أسوأ ما يخشاه حالياً مع نفاد الوقت المتاح أمامه لمحاولة التعويض عن إخفاقاته. لكن ذلك لا يلغي أنّ للرجل قدرات لا يستهان بها على تحريك نخبة رأسمالية في الولايات المتحدة، أمضى عقوداً في الاعتماد على سطوتها وتجيير إمكاناتها لمصلحة معاركه الشخصية.
لنتنياهو قول شهير تناقلته الصحافة الإسرائيلية في نيسان عام 2008: «هجمات أيلول الإرهابية كانت جيدة لإسرائيل». هو كان يعبّر عن فكرة لطالما كانت في رأسه منذ سبعينيات القرن الماضي، ودوّنها في كثير من المحطات، كما في كتابه «الإرهاب: كيف يمكن للغرب أن يربح»، الذي نشره عام 1986. مستلهماً حادثة مقتل شقيقه جوناثان في عنتيبي في أوغندا عام 1976، أسّس نتنياهو عام 1979 معهداً في القدس المحتلة باسم أخيه (معهد جوناثان) «لمساعدة الديمقراطيات في مكافحة الإرهاب الدولي». وأظهر براعة وإتقاناً في ممارسة لعبة الإعلام أميركياً، فحرّض على الاتحاد السوفياتي بصفته «مصدر دعم الإرهاب العالمي» ومنظّمة التحرير الفلسطينية كرأس حربة له. وتمكّن «بيبي» من البروز في أوساط النخبة، ممتطياً ظهر الأكاديميا عبر معهده المذكور، ونشط في التحريض على السوفيات والفلسطينيين، وسرعان ما سلّط الإعلام الأميركي الضوء عليه وبدأ باستضافته. وقد أثبت نفسَه كأحد الصهاينة القلائل الذين عرفوا كيف تؤكَل الكتف إعلامياً في الولايات المتحدة، وهو ما عكسه في شبكة العلاقات المهمّة التي نسجها مع شخصيات ورجال أعمال وأكاديميين، وتنظيمه مؤتمرَين في القدس المحتلة عام 1979 وفي واشنطن عام 1984، حول ما يسمّى «الإرهاب».
بعد تعيينه نائباً لرئيس بعثة كيان العدو إلى الأمم المتحدة عام 1982، قبل ترؤسه البعثة عام 1984، وسّع نتنياهو نشاطه وقدراته على نسج العلاقات مستغلاً منصبه، حتى قال عنه جورج شولتز وزير خارجية رونالد ريغان إنّ «نشاطه العام وكتبه المتعلّقة بالإرهاب أثّر كل ذلك بشكل حاسم في صياغة السياسة الأميركية لمكافحة الإرهاب».
حكم الليكود في كيان العدو حوالي 34 سنة (بين عامَي 1977 و2023)، كان نصيب نتنياهو من الحكم فيها 16 سنة حتى الآن، حصّلها بفضل منظومة مالية أميركية موّلت حملاته الانتخابية ووسائل الإعلام المحسوبة عليه، واستثمرت في اقتصاد الكيان بناءً على رغباته ومصالحه. وفي المقابل، استطاع أن يفرض على المجتمع الأميركي رؤيته وتفسيره الخاص لما يسمى «الإرهاب»، واستغلّ هذا «المُنجَز» لمحاولة التأثير على منظومة صنع السياسات الأميركية في الشرق الأوسط من خارج هياكلها التقليدية.
بحلول ثمانينيات القرن الماضي، كان اليمين الأميركي (والعالمي ضمناً) يعتمد على «الأربعة الكبار» من مراكز البحث والفكر، لإبراز قضاياه والضغط من أجلها في واشنطن. خلال إدارتَي رونالد ريغان (1981 - 1989)، كانت كل من مؤسسة التراث Heritage Foundation ومعهد المشروع الأميركي AEI ومركز الدراسات الإستراتيجية والدولية CSIS ومعهد هوفر Hoover Institute، تضغط لتبنّي رؤى اليمين الصهيوني في الصراع مع الفلسطينيين، إلى جانب قضايا اليمين المحلي والأوروبي. هذا الواقع دفع اليمين الصهيوني إلى التفكير لاحقاً بتأسيس مراكزه الخاصة، لعكس رؤيته لوظيفة مراكز البحث الدعائية التي تستطيع الوصول والتأثير على صنّاع القرار في البيت الأبيض.
«لطالما كانت مراكز الفكر تعمل لصالح الحكومات، والباحثون فيها يملكون ألقاب الدكتوراه لكن لا يعملون في التدريس. لقد فشل الأكاديميون في ميدان الدراسات الشرق أوسطية، ولهذا، أناس مثلنا يُعتبَرون مفيدين لجهات محدَّدة».
هذه العبارة لنائب رئيس «مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات» مدير الأبحاث فيها جوناثان شانزر، كما وردت في وثائقي «الجزيرة» عن اللوبي الإسرائيلي في أميركا، الممنوع من البث عام 2018 (نشرته «الأخبار» عبر صفحتها على يوتيوب في 5 تشرين الثاني 2018).
كان شانزر آنذاك يخاطب ناشطين صهاينة انضموا لتوّهم إلى برنامج مخصَّص لاستهداف حركة BDS، معلناً بذلك عن الدور المنوط بمؤسسته كأداة لوزارة الشؤون الإستراتيجية الصهيونية التي كان قد أعاد إحياءها عام 2009. وفق تصوّر حزب الليكود الصهيوني، كان الوسط الفكري في واشنطن بحاجة إلى مؤسسات تدّعي العمل البحثي والأكاديمي لتسييل المواد الدعائية والبروباغندا التي صاغتها حكومات نتنياهو في وجه أعدائها في قلب عاصمة صنع القرار العالمي. هذه الرؤية لدى الليكود لم تنطلق من مجرّد الحاجة إلى عمل مؤسَّسي تقليدي تعتمده أذرع اللوبي الصهيوني المعروفة في وشنطن، بل استندت إلى أفكار «بيبي» الخاصة حول ضرورة عسكرة الأكاديميا والمراكز الفكرية بما يحقّق رؤية اليمين الصهيوني حول استغلال القوة الأميركية والاستفادة منها بما يخدم مصالحه.
شعار نتنياهو «مساعدة الديمقراطيات في مواجهة الإرهاب» الذي رفعه عام 1979، جرى تسييله عام 2001 في مشروع تأسيس مركز أميركي الهوية، ليكودي التوجّه، حمل اسم «مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات». اللافت أنّ المؤسسة أعلنت عن نفسها بالاسم المذكور في أواخر عام 2001، مباشرة بعد هجمات 11 أيلول، لكنها واقعاً تأسّست كمبادرة «تعليمية» في نيسان 2001، باسم «إيميت» EMET («الحقيقة» بالعبرية)، كجزء من جهود كسب الدعم لكيان العدو إبّان الانتفاضة الفلسطينية، وسعياً لتقليل الغضب الشعبي إزاء الانتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين. لكن ما ميّز هذه المؤسسة عن غيرها من مراكز الفكر والبحث هو أنّها كانت أول مركز بحثي يتبع مباشرة حزب الليكود الذي عمل على تجيير علاقات نتنياهو الأميركية لتكبير تجربة المركز المذكور، وجعله منظّمة فاعلة في طليعة أذرع اللوبي الفتّاكة، ففتح أصدقاء نتنياهو الأميركيون الأثرياء خزائنهم لتمويل المؤسسة، إلى جانب مؤسسات ليكودية فرعية أخرى ظهرت لاحقاً.
وبما أنّ القانون الأميركي يتيح حسومات ضريبية على أصحاب رؤوس الأموال في حال تبرّعهم، عبر مؤسساتهم الخيرية التي لا تبغي الربح، لقضايا اجتماعية وثقافية وصحية ودينية، كان أصدقاء نتنياهو الجمهوريون، من أصحاب المليارات كبرنارد ماركوس وشيلدون أديلسون وبول سينغر ونيوتن بيكر وليونارد أبرامسون وغيرهم، يجودون بالملايين على «مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات»، التي سرعان ما حجز العاملون فيها مقاعد دائمة في جلسات الاستماع أمام أعضاء الكونغرس لدى مناقشة مختلف ملفات الشرق الأوسط. نتنياهو نفسه مَثُل في 12 أيلول عام 2002 أمام إحدى لجان الكونغرس، في جلسة استماع لتحريض واشنطن على ضرورة غزو العراق، مؤكّداً امتلاك نظام صدام حسين أسلحة دمار شامل، ووجود علاقة له بتنظيم «القاعدة».
عقب حرب 1973، وما فرضته من وقائع جديدة في الصراع العربي - الإسرائيلي، أسّس المحافظون الجدد عام 1976 «المعهد اليهودي للأمن القومي في أميركا - JINSA»، كأول مركز بحثي صهيوني في واشنطن. آنذاك، عزا مؤسّسوه إنشاءه إلى «شعورهم بالقلق من أنّ الولايات المتحدة قد لا تكون قادرة على تزويد إسرائيل بالإمدادات العسكرية الكافية في حالة نشوب حرب عربية - إسرائيلية أخرى».
رغم وجود JINSA على الساحة في واشنطن، إلا أنّ اللوبي الصهيوني افتقد إلى مراكز بحثية متخصّصة بالدعاية والبروباغندا. التفتت المنظّمة الأمّ للوبي الصهيوني في الولايات المتحدة المسماة «آيباك» في منتصف الثمانينيات إلى ضرورة أن يكون لها مركزها البحثي الخاص، لعكس رؤى الحكومات الصهيونية في واشنطن بشكل أكثر وضوحاً، إلى جانب شبكة النفوذ التي كانت «آيباك» - ولا تزال - تؤمّنها عبر الكونغرس والنخبة السياسية والمالية والأكاديمية الأميركية. وأسّست لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية AIPAC، عبر الصهيونيَّيْن مارتن إنديك وستيف روزن، «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى» عام 1985، الذي شارك ولا يزال في التأثير من داخل المؤسسات الأميركية الرسمية في صياغة السياسات حيال ملفات الشرق الأوسط، خصوصاً الصراع مع العدو الإسرائيلي.
صحيح أنّ معهد واشنطن يُعتبَر من كبريات مؤسسات اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، إلا أنّه يتبع في سلوكه ونشاطه التوجّه الرسمي للكتلة الأبرز للوبي، المنضوية ضمن الحزب الديمقراطي. خلال نحو 40 عاماً من النشاط، ظهر جلياً كيف أنّ مراكز البحث الصهيونية اليمينية المتمثّلة بـ «مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات» تمايزت في خطابها ونشاطها عن معهد واشنطن، فالأخير مثلاً، لطالما تبنّى وجهة نظر الحزب الديمقراطي حيال ما يسمّى «حل الدولتين»، فيما «مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات» عبّرت ولا تزال عن رؤية اليمين الصهيوني الرافضة للاعتراف بأي شيء اسمه دولة فلسطينية، وهو ما يمكن لحظه في مواقف المركزَين، إذ تعتبر الأخيرة مثلاً أنّ حل الدولتين لن يكون ممكناً قبل إسقاط نظام الثورة الإسلامية في إيران، فيما يعتبر الأول أنّ الحل ممكن عبر تقوية السلطة الفلسطينية وتعزيزها، لتعود إلى حكم غزة إلى جانب ما تبقّى من الضفة الغربية، وهو توجّه تتبنّاه إدارة بايدن حالياً. ومنذ خطاب بايدن في 12 كانون الأول الجاري الذي انتقد فيه نتنياهو، تدور معركة بين الجانبين. فمثلاً، يشنّ مديرو مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات هجوماً على السفير الأميركي الأسبق في كيان العدو مارتن إنديك، كونه يصوّب على نتنياهو ويطالب باستقالته من منصبه، متّهمين إياه بتلقّي أموال من قطر، والتماهي مع من ساهم دعمه لحماس في حصول عملية «طوفان الأقصى».