في معركة الوعي القصوى، لا مجال لترك القانون الدّولي في لعبة النرد الكوكبية، التي جعلت من القانون الدّولي مطيّة لشرعنة ما لا يشرعنه التّاريخ والجغرافيا بالمعنى الأعمق دلالة للجغرافيا بوصفها تنشأ وتقوم فيه أعقد العلاقات الاجتماعية. الجغرافيا ليست أرضا نستطيع أن نخترقها ونعدّل في نتوئها ومعابرها، بل هي كنسق دلالي واحدة من الرغبات التي كبتتها الإمبريالية التي لا زالت وفيّة للداروينية الاجتماعية والأوديبية: منتجة العُصاب الدّولي. قصة لا مجال لبحثها الآن. ولكن الجغرافيا بمعناها الأنطولوجي، هي مكان قيام العلاقات الروحية والحضارية بين مجموعة، تكتسب خصوصيتها من تلك العلاقة التي تشكل واحدة من أبعاد ماهية المكان نفسه. وبالتّالي إنّ خطوط الصدع الثقافي بالمعنى الذي دارت حوله مقاربات هنتنغتون لصدام الحضارات، هي حدود جيو-ستراتيجيا القيم. إذا كانت الجغرافيا حتى بمعناها المادي هي متماهية مع أهداف الحرب منذ كلاوزفيتش، وستكون الفكرة الأثيرة في تجربة إيسف لاكوست حول الحرب بوصفها تُستعمل أوّلا في القيام بالحرب، جغرافيا الضباط لا جغرافيا الأساتذة، فإنّها برسم هذا القيد للجغرافيا الناسوتية والروحية، تصلح للحرب.
الربط بين الجغرافيا والنسق القيمي يتجلّى اليوم في الحرب على غزّة. إنّ احتجاب الرغبة في التدمير خلف مظاهر القوة الناعمة بما فيها إخضاع القانون الدولي لمغالطة القوة الناعمة، انكشفت في حرب غزّة. النظام الدولي عاجز عن الوفاء لميثاق الأمم المتحدة والعهديين الدوليين الخاصين بحقوق الإنسان.
غير أنّ مناورات العرب داخل النظام الدّولي لا زالت ضعيفة، حضور النضال القانوني محدود. ما معنى أن تكون مناضلا داخل المؤسسة الدولية؟ أخبرني د. مهدي المنجرة قبل سنوات عن انسحابه من اليونسكو، بل تخليه حتى عن حقوقه المادية، بعد أن أدرك المشكلة الثقافية في المؤسسة الدولية، العنصرية، التهميش، هيمنة الأنكلوساكسونية على حساب الثقافات العالمية. تطرّق إلى الحرب الحضارية التي سوف يتقمصها منه صامويل هنتنغتون معلنا بداية عهد صدام الحضارات. والأمر نفسه حدث في نادي روما، هذه المرأة ستخبرني عن شقاوته خبيرة فرنسية عملة في فريقه. إنّه أدرك كما أدرك برتراند بادي، بأنّنا نعيش عصر المُهانين.
هل يا ترى نحسن لعبة الأمم أو على الأقل ندرك قواعدها؟ طبعا هناك من يعملون في صمت ضمن شروط دولية مزرية، أذكر على سبيل المثال الصديق والخبير الدولي د. هشام الشرقاوي، حيث صدح بموقف تضامني من داخل الأمم المتحدة، حيث انعقد الدور 22 للجمعية العامة للدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية. هذه المرة بخلاف سائر الدورات التي عقدت بلاهاي، انعقد بنيويورك. وكما لا حظ د. هشام، فإنّ هناك غياب شبه تام للموقف العربي باستثناء تونس والأردن لأنهما مصادقتان على نظام روما. حسب ما أخبرني به د. هشام، أنّ المدعي العام قبل التحقيق في الجرائم المرتكبة في غزّة،وتم إلحاقها في التحقيق في الجرائم المرتكبة عام 2014-2015. كما أخبرني بأنهم عملوا من خلال التواصل مع بعض الوفود على انتخاب قاضي عربي لأوّل مرة، قاضي تونسي، بعد أن سبق رفض ترشيحه أربع مرّات. تناول د. هشام في خطابه عددا من المطالب، منها إصدار مذكرات بحث واعتقال للمتسببين في جرائم الحرب، جرائم ضد الإنسانية ، جريمة الإبادة وجريمة العدوان وجريمة تطبيقا لمبدأ الاختصاص الجنائي العالمي. ذو هشام الشرقاوي خبير متخصص في القانون الجنائي الدولي والعدالة الانتقالية، اشتغل في عدة مسارات للسلام في أوغندا وسيراليون وسيريلانكا والكامبودج بروندي.
وسبق أن حضر معنا ذ. هشام وهو أيضا منسق إقليمي للشبكة الأفريقية من أجل العدالة الجنائية الدولية، في اللقاء الوطني الثاني حول القضية الفلسطينية الذي عقدناه بنادي المحامين بتاريخ 22/12/2019 بالرباط تحت عنوان: القضية الفلسطينية في ظلّ التطورات الأخيرة في المنطقة. حيث قدّم عرضا قانونيا وحقوقيا محترفا من داخل الخبرة النظرية والميدانية، إذ سبق ونبّه في اللقاء الوطني الأول إلى أنّ حدثا مهمّا سيصدر من داخل محكمة الجنايات الدولية، وبالفعل كان من أوائل من نبّه إلى ذلك، فالنقاش القانوني لا سيما في المجال الدّولي يتطلّب دقّة وخبرة وذائقة لا يمكن المجازفة فيها من خلال انتحال صفة خبير دولي، لقد كنا خلال الجلسة الأولى والثانية نمرّ بتمرين كبير حول معضلة العدالة الدولية والنقاش الصحيح في هذا المجال لا سيما حين تخوض هذا النضال من قلب المحكمة بلاهاي بعلم وشجاعة وليس بالتلويح السطحي الذي يفقدنا نقاطا قانونية كثيرة. وكان د. هشام قد تقدم باقتراح للفلسطينيين وعلى رأسهم المحامي السوراني صديق ياسر عرفات، برفع دعوى التعويض يومها على تدمير الآثار التاريخية(مساجد، كنائس، حارات قديمة...) لأنها تندرج ضمن جرائم الحرب، مستندا في ذلك على سابقة قانونية رفعتها إحدى القرى بمالي بسبب تدمير مسجد قديم، وحكمت المحكمة لصالحهم بالتعويض.
في لقاء 22 دجنبر 2019، لفت د. هشام الانتباه إلى أن التوازنات السياسية والمصالح الاقتصادية كانت دائما تتحكم في صناعة القرارات الأممية المرتبطة بالقضية الفلسطينة، مما دفع إلى عدم استقلالية القرار العربي والفلسطيني اتجاه القضية التي اعتبرها تسكن الوجدان والضمير العربي. كما نوه هشام الشرقاوي بقرار المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية بفتح تحقيق في فلسطين عن جرائم الاحتلال واعتبر ذلك مؤشرا عن انبعاث القضية من جديد، خصوصا أن الجمعية العامة للامم المتحدة صوتت مؤخرا على إعادة تفويض مؤسسة اللاجئين الفلسطينيين واعتبارها داعما رئيسيا لمشكلة عودة اللاجئين. داعيا إلى صياغة بيانات وعرائض لدعم موقف المحكمة الجنائية. كما طالب جميع الدول العربية و المنتظم الدولي لتفعيل مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي لمحاصرة مجرمي الحرب الإسرائيليين وتتبع وتنفيذ مذكرات البحث والتوقيف اتجاههم. وكان قد أكد في اللقاء نفسه على أنّ الدائرة التمهيدية ستعترضها صعوبات قانونية لتحديد الاختصاص الإقليمي لعمل المدعية العامة، لذلك وجب علينا التعبئة والتحسيس بضرورة إحياء التضامن الشعبي اتجاه القضية الفلسطينية.
كان دائما سؤالي، على الرغم من أهمية النّضال القانوني والسياسي دون الخلط بين مقتضياتهما، وما أكثره في ممارستنا العربية: ماذا في وسع القانون الدولي أن يفعل حين يشتدّ ذُهان الإمبريالية، ويصبح المسرح الدولي خالصا لقانون القوة؟
أعود لقرار المحكمة الجنائية الدولية التي قررت متابعة ملف جرائم الحرب الإسرائيلية، مع أنني لا زلت أعتبر أنّ السياسة لن تترك المجال للقانون وحده، وهذا ما عبر عنه بومبيو وقتئذ، حيث رفض القرار معبّرا عن استيائه، وهو ما يؤكّد أن المحكمة الجنائية الدولية لن تستطيع عمل أي شيء مادامت الولايات المتحدة الأمريكية تحمي ظهر إسرائيل من أي متابعة قانونية. لا زلت أتساءل إذا كان بمقدور المحكمة الجنائية اعتبار وعد بلفور جريمة حرب، وكيف يمكن تكييفها مع تعريف الجريمة لنظام روما الأساسي ومع اختصاصات القانون الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، فإن كنا سنتحدث عن عدم تقادم الجريمة وهو مطلب أساسي للمحكمة، فكيف نوفّق بين هذا وبين عدم رجعية الأحكام، هذا بينما وعد بلفور هو المؤسّس لكل هذه الجرائم التي تعتبر فرعا لهذا الأصل. ربما سندخل في سجال فقهي وقانوني وهو ما سيجعل مهمة المحكمة صعبة للغاية، لأنّ لا شيء محسوب وواضح وسنضيع في تلك المُغالطات التي وقع فيها القانون نفسه بحثا عن عدالة، يدرك أنه لن يتصيدها إلاّ بمبارزات حادة مع السياسات. لكن يظل في لعبة القانون أنه ما لا يدرك كله لا يرك كلّه، غير أنّ المعوّل عليه هنا هو المقاومة، هي من يفرض التوازن في الرعب وبالتالي في السياسات بينما جماع هذا التوازن يفسح الفرصة للقانون بأن يلتمس العدالة ولو في حدّها الأدنى. يستطيع القانون أن يفعل الكثير إذا نهض على مقاربة متكاملة على أرضية المقاومة القانونية وليس على ما يسمّى الحياد، لا يوجد شيء يدعو للحياد في المسألة الفلسطينية، لكن ما أعتقده جازما هو أن الاحتلال سيتفكّك بقوة القانون حتما ولكن أي قانون؟ إنّه قانون التطور التّاريخي ومكره.