منذ أن كشف ثيودور هرتزل عن «المهمة الحضارية» للحركة الصهيونية عام 1896 بقوله:
«بالنسبة لأوروبا سننشئ هناك (فلسطين) الجدار في وجه آسيا، وسنكون في المقدمة حراساً للمدنية في وجه البربرية»، بدأت تنشأ علاقة وثيقة، ومصالح مشتركة بين الحركة الصهيونية ودول الاستعمار، إذ انّ اليهود سيتوصّلون الى الإمساك بالمراكز الرفيعة الحساسة والمؤثرة، في المؤسسات السياسية، والاقتصادية، والمالية، والتجارية، والفكرية، والإعلامية في العديد من دول أوروبا وأميركا، لا سيما تلك التي تمسك بدفة الأمور في العالم، نظراً لما تمتلكه من قوة عسكرية وإمكانات اقتصادية ومالية هائلة. إن المصالح المشتركة بين الصهيونية السياسية والنظام الاستعماري، أدّت الى تأسيس الكيان الإسرائيلي عام 1948، وإحاطة هذا الكيان في ما بعد برعاية كاملة، ودعم مالي وعسكري، وتأييد سياسي ودبلوماسي، وإعلامي لا نظير له.
بعد تأسيس الكيان الإسرائيلي، كان للوبيات اليهودية في أميركا وأوروبا دورها الكبير في خدمة «إسرائيل» ومصالحها، بعد أن تمكنت من التغلغل داخل المؤسسات السياسية، والحزبية، والمالية، والإعلامية، والنقدية، والعسكرية، وتعزّز من نفوذها الكبير على صنّاع القرارات، لتصبح هذه المؤسّسات على الدوام في خدمة مصالح «إسرائيل»، دون تردّد أو تباطؤ. وكلّ من يجرؤ من المسؤولين في الغرب، مهما كان موقعه، على تجاهل مصالح «إسرائيل» أو انتقاد سياساتها، أو اتهامها، أو اتخاذ قرار ضدها، سيلقى الردّ الصارم من لوبياتها المتربصة بأيّ مسؤول يجرؤ على اتخاذ قرار ضدّها، ما سيدفعها الى التشهير به، واتهامه بمعاداة السامية، وأكثر من ذلك، اللجوء الى ممارسة الضغوط على الجهات المختصة بغية تأديبه وإبعاده عن وظيفته أو طرده، لجعله عبرة لمن يتجرأ مستقبلاً على انتقاد او كشف السياسات الإسرائيلية. وإذا كان في موقع المسؤولية، داخل الحكومة، أو السلطة التشريعية، وأبدى عن رأيه، وصوّت خلافاً لما تريده «إسرائيل» لجهة المسائل التي تتعلق بها، فحساب لوبياتها معه سيكون عسيراً، إذ ستعمل على محاربته وإسقاطه بشتى الطرق في الانتخابات التشريعية.
هكذا كان حال ادلاي ستيفنسون، ووليام فولبرايت، وبول فندلي في الولايات المتحدة، وغيرهم كثر في أميركا وأوروبا.
سيطرة اللوبيات اليهودية على وسائل الإعلام الغربية والتحكم بتوجهاتها، وبث الأخبار الملائمة لها، جعل «إسرائيل» تحظى بتأييد ودعم غربي مطلق لسياساتها منذ عام 1948، مع ترويجه وتوصيفه لها على أنها «واحة الحضارة، والديمقراطية،
والحرية في الشرق»، وهي في مواجهة التخلف، والبربرية، وعداء شعوب المنطقة لها.
كان لمواقف الحكام، والمسؤولين، والسياسيين، والإعلاميين، ومؤسسات الصحافة، والتلفزة، والإذاعات، ومراكز الأبحاث، والمنتديات الفكرية والثقافية، ووسائل التواصل الاجتماعيّ على اختلاف أنواعها، أن جعلت من التأييد الجارف لـ «إسرائيل»، في كلّ ما تقوم به، تأييداً عفوياً، نتيجة تأثير البروباغندا الداعمة والمؤيدة لها الى أقصى الحدود. بروباغندا روّجتها شخصيات حكومية، وتشريعية، وسياسية وإعلامية، أكانوا من الموالاة أو المعارضة.
هكذا حظيت «إسرائيل» وحروبها دائماً بتأييد ودعم رسمي وشعبي غربي دون تحفظ، إزاء ما تقوم به من احتلال واعتداءات، وتطهير عرقي، وتمييز عنصري.
في عدوان «إسرائيل» الأخير على غزة، سقطت لأول مرة، الصورة المزيّفة لـ «إسرائيل» في العالم، وسقط معها التضليل الإعلامي للغرب، ونفاق زعمائه وسياسيّيه، وانحراف أخلاقيتهم الوظيفية وانحيازهم الأعمى، بعد أن ارتضوا أن يكونوا تحت سطوة ونفوذ وتهديد، وتخويف اللوبيات اليهودية لهم. لقد سقط وهم شعوب الغرب التي رأت في دولة الاحتلال «واحة الديمقراطية والحرية»، بعد أن انكشفت حقيقة دولة العدوان التي ظلت تضلل العديد من شعوب العالم في أوروبا وأميركا واستراليا وآسيا، على أنها مهدّدة ومطوّقة بالأعداء على الدوام.
بثورة الاتصالات، وأجهزة التواصل الاجتماعي، والتحرر من انحياز وأكاذيب وتضليل وسائل الإعلام المختلفة، التي تعمّدت تشويه الحقيقة، ونقل الصورة المعكوسة نتيجة هيمنة اللوبيات اليهودية عليها، وتوجيه مسارها، سقط قناع دولة الإرهاب أمام أنظار العالم، بعد عقود من قيام «إسرائيل»، ومعها حكام، وسياسيو، وزعماء الغرب وأحزابه، وأعضاء مؤسساته التنفيذية والتشريعية، وأنديته الفكرية، والأدبية، والبحثية، بغسل دماغ الشعوب الغربية، وجرّها إلى حيث يريدون، كي تكون في خدمة سياسات» إسرائيل» ومصالحها. إلا أنّ عدوان «إسرائيل» وإبادتها الجماعيّة لسكان غزة، أيقظت شعوب الغرب على الحقيقة الدامغة، بعيداً عن مروّضيها، ومضلليها، الخاضعين لنفوذ اللوبيات اليهودية وهيمنتها، وأوامرها، وسطوتها.
هذه الشعوب لن تأخذ مستقبلاً بالمواقف المبنيّة مسبقاً على تظريف «إسرائيل»، بعد أن عرفت حقيقتها العدوانية، وما ترتكبه باستمرار من تطهير عرقي وجرائم ضدً الإنسانية بحق الفلسطينيين، تكشف صورها الفضائيّات العديدة، ووسائل التواصل الاجتماعي.
لم تعد المعلومة أو الخبر محصوراً ومصادراً، ومزيّفاً، ومغطى من قبل الحكام، والسياسيين، ومؤسسات الإعلام المنحازة، الذين يشوّهون الحقيقة، ويدورون في فلك اللوبيات اليهوديّة، يعبّرون عنها، وهم يبثون المعلومات الكاذبة المضللة عمداً، ويروّجون بكلّ وقاحة لدولة العدوان.
لقد شاهدت شعوب العالم بأمّ العين، ما تقوم به «إسرائيل» من جرائم همجية ضدّ الإنسانيّة، وتطهير عرقي بحق الفلسطينيين، ما جعل ضميرها يستفيق، فانتفضت، وغضبت، وتظاهرت، وندّدت بـ «إسرائيل» وعدوانها الوحشي، بعد أن تبيّن لها، حقيقة هذه الدولة العنصرية المارقة.
مَن كان يتصوّر أنّ التظاهرات الضخمة المندّدة بالعدوان الإسرائيلي، والداعمة لفلسطين ستجتاح شوارع الولايات المتحدة، وبريطانيا التي أنشأت الكيان، وفرنسا التي منعت التظاهر، وإسبانيا، وبلجيكا، واليونان، وسويسرا، وإيطاليا، واليابان، وكندا وغيرها من دول العالم؟!
للمرة الأولى في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، تظفر فلسطين بعطف وتأييد شعوب الغرب بهذا الحجم، وتلقى منها دعماً وتأييداً جارفاً لا نظير له، وصوتها يصدح مطالباً بحرية فلسطين، وحقوق شعبها، وإسقاط «إسرائيل». هذا الدعم والتأييد لم يتوقعه مطلقاً الفلسطينيون، وبالذات العدو الإسرائيلي الذي تفاجأ بالطوفان الشعبيّ الأوروبيّ والأميركيّ المندّد بـ «إسرائيل» وقادتها، وجرائمها البربرية.
لم تعد «إسرائيل» بعد حربها على غزة، كما كانت عليه قبل العدوان. الزمن تغيّر، وضمير شعوب الغرب استيقظ على الحقيقة الدامغة. هنا تكمن أهمية صمود المقاومة الفلسطينيّة والإنجاز التاريخيّ، والسياسيّ والمعنويّ والإعلاميّ الذي حققته في طوفان الأقصى.
شعوب الغرب بعد اليوم، لن تنطلي عليها مواقف حكامها المنحازة، ولا أكاذيب العدو. فالصورة المزيفة التي رسمتها «إسرائيل» لنفسها منذ تأسيسها، تمزقت على أرض غزة، ولن تستطيع بعد اليوم ترميمها.
إنه زمن فلسطين في عالم متحوّل، تتراجع فيه شعوب الغرب عن تاييدها الأعمى لدولة الاحتلال، بعد أن أزالت بنفسها الغشاوة عن عيونها، وبانت لها مدى الجرائم الهمجية للكيان العنصري.